في تلك الأثناء كان اورين لا زال يتابع ذلك الغريب الذي خرج خلسة من مسكن ميلام، لم يكن يستطع أن يتبين هويته من الخلف، فقد كان يغطي نفسه برداءٍ رثٍ بال، و أستمر بمتابعته بخطوات صامتة، لم تصدر صوت، و حافظ على المسافة البعيدة التي بينهما، كي لا يتمكن من الشعور به. ثم أخذ هذا الرجل يدخل بأروقة ضيقة، و طرق مستترة عن أعين الأخرين، لم يكن أورين بعلم وسيع بها حتى، مما أثار استغرابه و حفيظته، من معرفة هذا الرجل الدقيقة للمكان. كانت خطوات الرجل بطيئة في البداية، ثم شيئاً فشيئاَ بدأت تحث الخطى مسرعة كأنه استكشف أنه مراقب على الرغم من حذر اورين، و راح يدخل هنا و هناك، و القائد لا زال يحاول البقاء في أثره، حتى ضاع منه فجأة حينما ألفى نفسه وسط المدينة، في الساحة الكبيرة التي باتت تضج بالناس المستيقظين حتى الان، و هم في عدة و سرور لاستقبال يوم غد.
حاول ان يبحث عنه كثيراً، لم يستسلم للأمر، و أصر على أن يجده بعينيه، فصعد على مصطبة كانت موضوعة بجانب الشارع، و أصبح على مرتفع من رؤوس البشر، و نظر بتمعن شديد، لم يعد للرجل أثر، إلا أنه شاهد شخصاً مثيراً للريبة مثله، لقد كان آيومين يعبر الطريق متجهاً صوب الحديقة الملكية الكبيرة. و حول أورين خطاه ليتبعه و ليرى إلامَ يبغي!
اسرع الخطى جاهداً كي يتبع رجل ميلام المتسلل، و سار في الطريق المؤدي إلى حيث ما يظنه، و لما وصل قد أصابت توقعاته، فهو قد قصد الحديقة الكبيرة التي تطل على الجهة الشرقية من القصر الكبير، القريب من جهة الخدم، إلا أنه لم يتمكن من العبور، بعدما توقف أيكيشو امامه و الذي كان المسؤول عن حراسة المكان.
حاول آيومين التسلل، إلا أن أيكيشيو كان في المرصاد، لم يكن ليترك أحد يمر دون أذن، و هذا الرجل لم يكن يحمل أي أذن بالتأكيد.
فجاء أورين ليفض النقاش، أومأ لجنديه بالمغادرة، ليبقى مع حارس ميلام لوحده، حملق به بنظرة حادة، و قال بنبرة جادة: ما الذي تفعله هنا؟
صمت آيومين، و كان يطالع القائد بنظرات لم تكن أقل حدة منه، دمدم قائلاً: كنت أبحث عن شخص ما؟
- ومن هو؟
سأل اورين بسرعة، و هو لا ينوي أن يترك هذا الأمر ليمر بكذبة او اثنتين.- شخص قد أفلت مني، و أنا أحاول امساكه من جديد.
- أن من داخل القصر، يعودون لأصحاب الجلالة، و لا يحق لأحد غيرهما بمد يد السلطة عليهم.
فعاد ليجيبه بنبرة متحدية ثابتة: أنه يستتر بجلباب أصحاب السعادة، ألا تظن ان من مصلحتك و مصلحة مولاك التخلص منه.
نمت ابتسامة صفراء على وجه أورين، و راح يقترب منه خطوة، و يحدجه في ام عينه، و نبرة تشي بالمتاعب تخرج من صوته: لم لا نختصر الطريق، و تخبرني مباشرة عما تنويه، عن السر الذي تخفيه، عن هوية هذا الشخص الذي تريده، و ما علاقته بك، أو بحاكمك!
ندت عن الاخر ابتسامة مجاملة، إلا أنها عابثة مثله، و راح يبتعد خطوة إلى الخلف منه و هو يقول: أنا لا أفهم ما تقول أيها القائد، عن أي سر تتحدث، و عن أي شخص؟.. لا علاقة لي و لا لحاكمي بأحد داخل القصر، لابد أنك أسأت فهمي، ما اتحدث عنه هو قطة!!... قطة ماكرة هربت من سيدها لتلوذ في قصركم.
رفع أورين ذقنه كمن لحقته أهانة، أن هذا الشخص لا يعجبه، و النوايا التي يضمرها لا تستسيغ رغبته بالمرة، ثم عاد ليرجع على عقبيه، و هو يقول قبل ان يغادر: إن وجدت القطة، عليك ان تتخذ القرار، أستحميها في قصركم، أم تعيدها مرغمة إلى سيدها!
ثم ولى مغادراً، تاركأ القائد في حنق شديد من أمره، بقي يطالعه و هو يغادر امامه، يتفكر في هؤلاء الذي تفوح رائحة المكر منهم، كيف له أن يمسكهم، ان يعرف ما نواياهم الحقيقة تجاه حاكمي هذه المدينة و قصرهم. أنه يشم رائحة الخطر منهم، إلا انه لا يجد الدليل الكافي لأقناع ملكه.
حملت أقدام أورين نحو الحديقة الكبيرة، المزينة بالورود ن و الأشجار، الأجمة، تبث الخمائل نسيماً عليلاً كلما حركتها نسائم الليل العاطرة، و راح يتمشى بهدوء هناك، تتلاعب الرياح بأفكاره المزدحمة، ثم توقفت قدماه فجأة، رأت عيناه من سببت هذا الضجيج في رأسه، و أقلقلت راحة باله، توقف مكانه يحدق بها، و هي تعطيه ظهرها، تطالع النجوم بتيه و ضياع، لم يكن و عيها معها، لم تستمع حتى لصوت الأقدام و هي تقترب منها.
و في حين غرة، كانت يدها تمسح وجهها. لم يكن أورين بحاجة ليرى هيئتها الان لكي يعرف بأنها تبكي.. بأنها في غمرة من الحزن و البؤس. و لا يهم ذلك لأورين، فالقطة الهاربة الان لن تفلت من يده قبل أن يعرف ما الذي بينها و بين تلك الثمار الفاسدة التي ستفسد حياة مملكته.وقف أمامها، فانقطعت عن النجوى التي كانت تغرق بها انتفضت من مكانها فزعة، نهضت من مكانها، إلا انها تعثرت بفستانها، ووقعت بغباوة مطلقة، ثم عادت لتحاول النهوض من جديد أمامه قال لها بلهجة باردة: ما الذي تفعلينه هنا في هذا الوقت؟
ازدرت ريقها و هي تقول في سرها "يا ويلي" تنفس عميقاً و هو يرفع رأسه نحو السماء، و أعاد يديه خلف ظهره. أحنت رأسها باحترام، ثم ما لبثت حتى أسرعت مُغادرة، إلى أنه نادى عليها بصوت زلزل استقراراها: إلى أين؟
توقفت و استدارت، نظرت إليه و الخوف يبرق في مقلتيها، قال لها: أحضري لي كرسياً!
لم تتأخر ثانية و هي تنفذ ذلك، أسرعت راكضة لتنفذ له ذلك، على الرغم من أن إحضاره كان يأخذ مسافة منها، إلا أ ن الخوف جعلها تحضره بوقت قليل.
وضعته له و هي لاهثة الأنفاس، لا قدرة لها لتستعيدها بهدوء، لكنها كانت فقط تحاول، و جبينها ينز عرقاً، ثم انحنت من جديد له بعد أن جلس على كرسيه، و همت لتغادر مجدداً، فنادى عليها مرة أخرى: إلى أين؟
"ماذا الان؟" قالت في سرها متململة و خائفة في نفس الوقت، و لما استدارت وجدته يحدق بها بطريقة سببت لها القشعريرة في جسدها، أشار لها نحو الأرض: إجلسي!
أذعنت لأمره و هي متيقنة في سرها ان لا خير لها سيأتي بعد أن تجلس أمامه ها هنا.
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.