٢١

22 8 0
                                    

((جدها لي، و لا تدع أحد يعلم بذلك، لقد أخطأت حين تغاضيت عنها في البداية)) تلقى أيكيشيو أوامره من أيلكو بسرية تامة، و لم يكن منه سوى أن يومئ برأسه طائعاً منفذاً للأمر، و مضى من تلك اللحظة يبحث عنها، رغم الزخم الحاصل في هذا اليوم.

*

و من جهة اخرى كان اهراسيم قد عاد ادراجه، و هو لا يدري إلى أين توليه قدمه، ينظر للأمام، إلا أن وعيه لا يدرك ما يبصره.. يفكر بها مراراً و تكراراُ، و يتساءل مع نفسه ان كان قد أحسن ما فعله، أم كان خطأ جسيماً بالفعل.

((سيدي!)) جاء صوت أوكو من الخلف، قاطع ضجة افكاره، و أستدار من لحظته يبحث عنها، ضيع وجهها في البداية من بين الوجوه، حتى رآها اخيراً، فانشدهت قسماته، و أنلجم فمه الثرثار عن الحديث، و لاح في عينيه بريق الأعجاب المنذهل.
فغر فاهه من دون كلمة تذكر، و شعرت بالأحراج من ذلك، فقالت و هي تداري ارتباكها بحركة يدها من الخلف على شعرها: هل يوجد شيء خاطئ بي!

لقد كان يحاول ان يتكلم، بالأحرى كان يجاهد ان يجد ما يجدر قوله لها، إلا ان الكلام أختفى، و الكلمات من خزينه الوفير تلاشت، لقد شدهه جمالها، بدت أنثى جميلة كبقية الفتيات، اكتشف ان حلة الحراس التي واضبت على ارتدائها، قد أخفت كماً هائلاً من الجمال تحتها. فستانها الأصفر كزهرة عباد الشمس، زادها بريقاً كأشعة النور الساقطة، و عقد من الخرز الأسود قد زين عنقها، غطت اليد اليمنى بشال طويل متصل بنفس الفستان، و تاركة لذراعها اليسرى الحرية لتتلاعب بها الرياح. أسدلت شعرها الفاحم الأسود لأول مرة، لم يرَ كم هو طويل؛ و لم يتوقع ذلك حتى؛ يكاد يشارف محيط خصرها، و ابتسامة خجولة كانت تزيدها فتنة و أنوثة.
خرج من صمته و قال لها: انت تبدين..تبدين..!!

بعين متسائلة، راغبة أن تعرف ما هي نهاية تلك الجملة: أبدو.....!

- تبدين.. غريبة

ليست الكلمة المثالية التي توقعتها في رأسها، فاحتارت ان كانت تبدو غريبة حقاً بهذا اللباس، فقالت و هي تهم بالمغادرة: أنا لا أريد أن أبدو غريبة.. سأذهب لأغير الملابس حالاً.

مسكها من معصمها قبل أن تستدير، و حدق بها بافتنان مطلق، و قال لها بنبرة خفيضة، خرجت من اعماقه : كلا! لا تفعلي!... هكذا اجمل!

ضمت شفتيها، و هي تواري خجلها عنه، و ما انفكت يداها تفرغ ارتباكها في خصلات شعرها المنسدلة القريبة من وجهها، و راحت تقول متحاشية النظر إليه: الان ماذا؟

و كأبله غبي رد عليها: ماذا؟

احتارت و واردتها الشكوك أنه حقاً سيريها جمال أوريم في يوم العيد، أنه يسألها بدل أن يجيب!
ثم لوهلة، انتبه لنفسه، تنحنح و قال: أنسة اوكو! فتاة أريدوك مدينة الالهة المقدسة، سوف يقوم أهراسيم بأخذك في جولة رائعة لن تنسيها، داخل مدينة اور_يم.

ضحكت بسعادة على ذلك، و هي تبدي استعدادها التام لتلك الجولة المرتقبة، و لم يضيع أهراسيم المزيد من الوقت، و راح يأخذها في ازقة المدينة المبتهجة، يشاركون بالاحتفالات، العزف، و حتى لحظات من الرقص مع بعضهما البعض، بصخب و مرح و طفولية مطلقة، كأنهما صبيان كأولئك الصبية الموجودون، يستمتعون بالحفل دون قيود، و لم يكن من شيء يرتسم على وجهيهما سوى الضحكة العريضة، و الوجوه الفرحة و السعيدة.

لقد كان يوماً لا ينسى، بل حتى أنها نسيت متى كانت اخر مرة تمرح بها هكذا. نسيت نفسها، و لم تنتبه للوحمة التي ظهرت بعد ان أُرخي الوثاق سهواً عنها، و بقيت لمهب الريح دون ان تعيّ ذلك، كان المكان مرحاً، و لم يكن أحد يلقِ بالاً لما كانت تخفيه طوال حياتها.
 
((أيها الأحمق، أنظر أين تضع قدمك)) صوت غاضب خرج محتدماً من أحد المارة، بعد ان دعس اهراسيم على قدمه دون قَصد، فأستدار يعتذر بشدة للرجل، و لما أبصره، كان رجل كبير في السن، يغزو الشيب لحيته الكثة. تهلل و جه أهراسيم لدى رؤيته، و راح يحتضنه بقوة، يعتصره بين ذراعيه، و لما أفلته، هتف في وجهه بحب ((أبي!، متى جئت إلى هنا؟))

أجاب الأب بمودة: جئت في هذا الصباح، وكنت انوي زيارتك بعد ان انتهي من التجوال هنا و هناك.

ثم أطل بنظرة عميقة على اوكو، متفحصاً إياها ثم حول نظره نحو اهراسيم، يسأله بعينيه عنها، ثم عرف عنها لوالده: أنها اوكو ، أول حارسة تحت قيادة أورين... أوكو! أقدم لكِ والدي، امهر طبيب في مدينة اور_يم الجميلة.

مدت يدها لتصافحه بأدب و كياسة شديدة،، و رحب الاخر بها و هو يقول مستغرباً: فتاة تحت إمرة أورين!!

نمت على وجه أبنه ابتسامة مرحة: إن المعجزات تحصل هذه الأيام يا أبي.

كان السيد نندانيش يرمق أوكو بنظرات غامضة، حتى استشعرت هي ذلك و ارتبكت و حاولت اخفاءه بأبعاد بصرها للجهة الأخرى، شيئا ما يخبرها بألا تنظر إليه، و شيء ما يخبره أن هناك شيء غامض بتلك الأوكو.

نطق أهراسيم و قد بدا مستعجلاً: أن وقتي للاستمتاع قد أنتهى هنا، و علينا الذهاب بسرعة... أستمتع هنا يا ابي، و أوصل تحية لأمي عندما تعود إلى القرية،...ربما ستلقي أورين في الطريق فهو لا ينفك يدور ليتأكد من النظام بنفسه... لا تغادر قبل أن تأتي إليّ من جديد.. . سأذهب الان ، هيا اوكو!

و ترك والده مودعاً، و أخذ فتاته معه و هو يقول لها في الطريق بلهجة بدت لاهثة: علينا الأسراع قبل أن يغضب أزيش منا، بعد أن تركته لوقت طويل كبديل عنا.

أومأت دون رد اعتراض، و انتبهت ليدها و داركها الفزع أن يدها كانت مكشوفة طوال تلك المدة، و راحت تشد الوثاق على يدها، تحاول إخفاءها من جديد. أمسك أهراسيم يدها! منعها!...محدقاً بصمت بها: إتركيها!... هكذا أجمل!.... أنها أجمل ما فيكِ!

ثم غير نبرته، لصوت مرح: لقد قلت أنها قبيحة... يا لك من كاذبة!

أنها المرة الأولى!.. المرة الأولى التي يخبرها أحد بذلك، لم يتقزز منها، لم تشمئز نفسه من رؤيتها،.. ثم يطلب أن تتركها، هذا كثير على قلبها، على روحها التي لطالما اختبأت من أعين الناس الظالمة، تشتت فكرها و قراراها، قالت و هي تغض البصر، بنبرة ممازحة إلا أن الأسى يغلب عليها: ليتك تخبر قوم أريدوك بذلك!

رد بلهجة غير متوقعة، و نبرة حاسمة: إذن لا تعودي إلا أريدوك.. أبقي هنا!... معي!

نظر لها!... نظرة جدية صادقة، تحمل ألف معنى واضح تجاهها؛ ألا أنها لا تستطيع الرد بل لا يجب عليها أن تجيب، فما كان منها سوى أن تخفض نظرها، متحاشية ، مغيرة الموضوع معه برمته.

الهاربة والمفاتيح المفقودة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن