٢٧

18 8 0
                                    

جلست بخضوع و تذلل، و الأعين ترقبها، تحملق بها، بعضهم بشفقة، و بعضهم باشمئزاز و استحقار خالص. لكنها جابهتهم بكبرياء ورفعة، لم تخفض رأسها، و لم تضعف.

كانت تشد شعرها إلا أنه لم يكن مرتباً البتة، على ذيل ملابسها بعض الدماء، كانت تنتظر محاكمتها، الأعلان بالتحقيق معها، لن تُختم هذه الجلسة على خير؛ هي على علم بذلك بالتأكيد... إلا أنها تكابر، تستتر على وجلها المسجور. لكن الجميع كان في صمت بهيم، لم تكن سوى الهمسات فيما بينهم، هسهسات الحاقدين، تصرّ في آذانها كالغوغاء.
في أنتظار القائد... في انتظار سيد هذه الأمة وحاميها... ليكون متهماً، شاهداً، حكماً على ذات العين الخضراء.

راحت تُحدق بسكينة مداد البشر أمامها، إلا أن تطلعاتها بروح فارغة، خامرَ فكرها أحداث الأمس الدامية، بتلك السرعة، و بتلك اللحظات العاجلة، تغير كل شيء بلمح البصر.

*

لازال صوت اهراسيم الضعيف يناديها، تسمعُ اسمها الجديد: نبيشوم! لم يكن هناك أحد في مقدار سعادتها بعدما استيقظ أخيراً من غفوته المخيفة، تبسمت بوجهه، و غافلتها دموعها، لكنها على الأقل دموع الفرح، قال لها، و هو يتهدج في كلماته: كنت أقول لأبي قبل قليل، أنك لا زلتِ حية لكنه يصرُّ على كونكِ ميتة... و الان ابي هل تصدقني!

نظر الأب نحو ايتانا راسماً على هيئته ابتسامة متكلفة، و عاد ليحتضن يد ابنه من جديد، تمتم بعبارات اللطف الشديد: أنا أصدقك... لا داع لتجهد نفسك في الحديث، ابق هادئاً.

و كأن اهراسيم لم يستمع، بل حتى أنه حاول أن ينهض بصعوبة من مكانه و هو يقول: اوكو... انها في خطر لابد أن أجدها.

حاول الأب أن يعيده مكانه، و ايتانا جاءت لتمد يد المساعدة و هي تقنعه عاجزة: انها بخير، لقد كانت هنا قبل قليل.

لكن أهراسيم كان عنيداً جداً حتى و هو في مرضه، فانفعل الأب و انتفض صائحاً في وجهه: لتذهب تلك الحقيرة إلى أرض السافلين.

استغرب من أبيه، و هو بالكاد يستطيع رفع يده، و لم يعد يقوَ على العناد فلا طاقة له، و عاد مرمياً من دون جهد إلى الفراش، ممدد في السرير يكابد للحفاظ على وعيه.

هدأ السيد نندانيش و شعرَ بالندم لصراخه في وجه ابنه، و تقدمت ايتانا في خطوة مترددة: هدأ من روعك سيدي... أنه لا يدري ما يقوله.

تنهد الاب بيأس، و طالع ابنه الذي بالكاد نائم، ثم التفت نحوها و حدق بها مدمدماً: كانت ستبدو جميلة مثلك لو كانت في عمرك!

لم تفهم ما قصد بكلماته، و سألت بلحظة عفوية: عفواً!

أزال السيد نندانيش نظرة الصبابة التي ضاع فكره في اللحظة التي حدق بها، ثم قال بنبرة أكثر ثباتاً و رزانة: هل حقاً اسمك نبيشوم!

هزت رأسها و أجابت: كلا! لقد كان السيد إهراسيم من أطلقه علي... اسمي الحقيقي هو ايتانا.

بدت عنه ابتسامة محبة: ايتانا كما اسم الالهة المحبوبة عينانا.

الهاربة والمفاتيح المفقودة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن