القاعة الملكية هي أوسع قاعات القصر، عريضة المساحة وعالية الأسقف، مشاعل من النار معلقة على الحائط في مسافات متناسبة، تضيء القاعة ليلًا، وفي النهار يعتمد على ضوء الشمس، الذي يندلق من الفتحات المربعة العريضة المحفورة في الجدران، تُزين جدران القاعة، بحجر الكوارتز الأزرق والفخار الملون.
يتخذ العرش المصنوع من الخشب موقعه فوق ثلاث مصطبات، ينزل لها ليتخذ ممر طويل، تحاذيه من اليمين واليسار مقاعد لجلوس ضيوف القصر، أو المسؤولين.واهم المسؤولين المستشار الأول للملك؛ السيد إيلكو. رجل هزيل البدن، لحية فضية تخط سيماء وجهه، ولم يتبق سوى بعض السواد الذي بدأ يفنو تحت سيطرة البياض الذي اجتاح رأسه، هو رجل الحكمة في هذه القاعة، ذو رأي سديد وعقل نابغ، لا يتفوه بكلمة إلا حينما يدعو الأمر لذلك.
واليوم اتخذ من مجلسه في قاعة الملك السكوت، يراقب الحديث بين الملك وكاهن أريدوك المقدسة.جذب أنظاره أحد تابعي الكاهن حيث يقف على ميمنته، متوسط القوام رشيق الجسم، يغطي سائر جسده بملابس سوداء تستر جسده بالكامل، وعلى خصره حزام من جلد الماعز يربُط عليه سيف قصير، يتسم بنظرات حادة رزينة وأنف دقيق، وشفتين ناعمتين، شعره مرفوع ومجموع فوق هامته، ليكشف عن رقبته البيضاء، وجبهته العريضة؛ ولما أبصر الشاب مطالعته إياه، أحنى رأسه احتراما له ولكبر مقامه، وبدوره إيلكو قد فعل المثل، ولم يترفع بنفسه عن ذلك. في لحظة مباغتة، قاطع الملك شرود مستشاره قائلًا: إيلكو، أراك صامتًا!
بابتسامة متكلفة أجاب: كلا يا مولاي، أنا فقط أستمع إلى حديثك مع الكاهن.
لم يكن من عادة إيلكو الأخذ بالحديث مع شخص يلتقيه لأول مرة، هو طبع اكتسبه من والده الذي كان يخدم بدوره الملك السابق، لذا كان يأخذ وقته في دراسة سلوك الشخص، ومعرفة دواخله؛ كي يعرف؛ كيف يجب أن تكون طبيعة علاقته معه في المستقبل.
دخل الحارس الذي يقف عند البوابة ليعلن بعد التحية لصاحب الجلالة بصوت جهور: الملكة المعظمة، النين العليا، مولاتنا بو_ آبي شبعاد تدخل القصر، ويرافقها حامي حمى أور_يم، سيد الحرب؛ القائد أورين
*
تمعنت بأفريز السقف المدهون بزيت الحيوانات، وضوء الشمس انعكس عليه ليبرق كالمرايا. أخذ لبها زُخرف الجدار بكتابات مسمارية، ورسوم لآلهة أور_يم المحبوبة؛ وملكة السماء الزهرة العالية؛ اينانا! أو كما تُطلق عليها الممالك الأخرى بـ عشتار المبجلة.
حدقت نبيشوم بالحوض المحفور في الأرض على شكل دائرة قطرها مترًا واحد، مملوءة بالماء، تسقط عليها، وعليها فقط أشعة الشمس النازلة من فتحة دائرية بذات القطر، لتساعد في تدفئة مياه الحوض، وفي الليل يندلق ضوء القمر منها لينير ظلام المكان الدامس.تلقت ضربة على كتفها حين غرة، قطعتها من التحديق في تفاصيل المكان، ولما استدارت وجدت اتاما ممتقعة الوجه، محتدة المزاج. صاحت فيها وهي ترمي الثياب في وجهها: أيتها الغبية! هل سمعكِ ذهبَ مع صوتك؟ ... هيا اغتسلي وتنظفي... وارتدي هذه الثياب!
نظرت نبيشوم إلى الثياب التي تحتضنها بين يديها بالقرب من صدرها، ثم إلى اتاما وهي تضيق ذرعًا من بلادتها: لا يهمني كونكِ هدية من القائد بنفسه، وكم لكِ قيمة عند الملكة! أنت هنا جارية مثل غيرك، ولا تَعلين شأنًا مني ومن ميباتا. فهمتِ؟
وأشارت إلى الوصيفة الثانية، التي تجلس بهدوء وكلها أذان صاغية. صحيح أن نبيشوم خرساء لكن على الأقل كان لها أن تومئ برأسها لتجيب، بدلًا من التحديق في وجه الأخرى ببلاهة. على الرغم أن اتاما تكرهها في سرها كونها صاحبة العين المميزة، والتي نالت دون غيرها مديح أورين؛ لذا لم تكن لتعذر وقاحتها في هذه الساعة، وهمت لرفع يدها لتصفعها، فاعترضتها خادمة تدعى ميش، بلطف وهدوء قالت: سأقوم أنا بإعدادها سيدتي.
تطلعت أتاما إلى نبيشوم التي ما انفكت تطالعها كما تطالع الموجودين بالغرفة بنظرات فارغة، أخفضت وصيفة الملكة يدها وسمحت للخادمة بتحضيرها: فلتنتهي من الأمر بسرعة!
تقدمت ميش صاحبة الطلة الفقيرة، بملاسها الرثة ذات اللون البني، المصنوعة من القماش الخشن، وبشرتها السمراء المتعبة، ترسم على سيمائها ابتسامة صافية، بعثت لنفس نبيشوم الخائفة؛ الطمأنينة والراحة، حتى سلمت لها عنان الثقة. مدت ميش يدها نحو الدبوس البرونزي المزخرف على شكل سعفة نخيل، جذبها دقة صنعه وتراود في داخلها الفضول عن خلفية هذه الجارية، وإلى أي عائلة كانت تخدم حتى تمكنت من ارتداء دبوس مثل هذا، وما أن انخلع الدبوس سقط الفستان، وقبل أن يكشفَ عن صدرها أحكمت نبيشوم قبضتها عليه، واحتضنت نفسها. انجذبت أعين الموجودين نحوها، بعض الخادمات، وثلاث وصيفات أقل مرتبة من اتاما وميباتا، لم يكن تمنعها من العري أمامهن هو ما أثار حفيظتهن؛ بل تلك الخدوش التي غطت يدها، ذلك الجرح العريض على ساعدها، وضمادة مغطاة بورق شجرة الموز ملفوفة على ساقها، نطقت ميباتا لأول مرة، بلهجة سائلة حائرة: من أين أنت؟
فردت اتاما: بل قولي.. ما الذي فعلتِ!
حاولت تغطية نفسها عن عيون المحدقين في جسمها البض الابيض الترف، البارزة فيه حتى خدوش الاغصان الصغيرة، ولما شاهدت ميش ارتباكها وهي واقفة تعر نفسها أمامهن، سارعت لمساعدتها في دخول الحوض الدائري، حتى غمرت فيه كامل جسدها. غسلتها وأزالت اثار الدماء عنها، وبهدوء مسحت قرب جراحها. جففتها بقطعة قماش ناعمة، ثم دهنتها بزيت معطر، وألبستها ثيابها الجديدة، التي تعلنها جارية للملكة بو-آبي، ورمت ثيابها التي مكنتها لتنتمي لعائلة أخرى.
حملقت الخرساء بثيابها القديمة، تودع الماضي الذي حملَ معه الذكريات، وإلى المستقبل الذي ارتدته الآن. همست ميش لها بوجه سمح وابتسامة محبة: تبدين أجمل من الوصيفات العُليا، لكن لا تخبري أحد بذلك.. فلتمنحك السماء رعايتها، ولتبارككِ هبة الآلهة التي في عينيكِ.
شبح ابتسامة طفى على وجهها، وما لبثت حتى اقتادتها أحدى الجواري لموكب الوصيفات المتجه نحو القاعة الملكية.
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.