اكتست السماء بحمرة الغروب، و الشمس تقترب لتودع هذا النهار الحافل، و السماء تشهد على خروج الفتاة من السجن في عربة اورين، في الوقت الذي كانَ مقرر لها أن تجر إلى المحرقة.
كل من شاهدهم ظنه رجلاً و هي تخفي وجهها تحت اللثام، و تنكرها بملابس الرجال يؤتى ثمره، لم تسأل عن الوجهة بلسانها، لكن الفضول كان ينخر داخلها كالسوس، واكتفت بالنظر و ترقب الطريق على العربة التي يجرها الحصان، متقدماً تجاه الأمام حيث البوابة الأمامية تنتظرهم، وقفَ عند الحراس و أبلغهم بنبرة متعجلة: ساخرج لأكتشف الأجواء، و احدد بنفسي مكان العدو، و ساعود في أقرب فرصة لدي، لا تدع احد يخرج من هذه البوابة بعد الآن.((امرك سيدي!)) اجابه حارسَ البوابة، و تمكن اورين من العبور، و أخذها خارجَ اور_يم، بسهولة و يسر، و مضى بها دون أن يتوقف لبعض من الزمن. حتى ابتعدا عن اسوارها و بلغا مغارة صغيرة، متخفية خلف تلال صخرية منخفضة كونتها الطبيعة الجرداء. نَزل من عربته بخفة، و فعلت مثله، إلا أنها سقطت ارضاً حينما وثبت بتت كطفلة صغيرة، مدَّ كف يديه نحوها، فالتقطته و احكمت امساكها و وقفت على قدميها بثبات، قامت بنفض التراب بينما تقدم هو من دون كلمة نحو المغارة، دخلَ أولاً ليكتشفها و سرعانَ ما خرج و نظر في الأرجاء، و لم يكن هناك سوى الفضاء الفسيح. فامتعضت قسمات وجهه و لم تفهم هي سبب ذلك، ثم التفت لها و خاطبها: ادخلي لترتاحي قليلاً.
و فعلت ما أمر و انتظر هو خارجاً يراقب الأرجاء، و كأنه بأنتظار شيئاً ما. ظل يراوح في خطواته، جيئة و ذهابا، حتى أسلمت الشمس مودعة و لم يتبقَ سوى اخر خيط من الغروب.
دخل المكان و وجدها جالسة بهدوء، تخفي وجهها عنه بصمت، جلس على الأرضية مرهقاً، ثم ما لبث حتى تثاقل جسده، و مدد بهدوء نفث الثقل من أنفاسه، و اغمض عينيه، أحس بحركة اشبه بالحفيف، ففز من مكانه جفلاً، و جلس دفعة واحدة، ويده تنوي ضربها؛ ضربها هي حينما سولت لها نفسها لتقترب منه؛ ربما قلقاً منها عليه، او فقط لتشعر بالأمان قربه. لم يصدر منها صوت أو تبرير فقال لها: أعدتِ للعب دور الخرقاء من جديد!رفعت رأسها ،تطالعه بعين وجلة، و نبرة مترددة: أود سؤالك عن ماذا ستفعل بعد.
اجابها :ننتظر!
جواب مختصر منه، ربما لا يود ان يفصح عن المزيد، لذا لا يجب عليها أن تسأل، او علّه لا يمانع بذكر المزيد و لا بأس لها، بين ذاك و ذاك وقفت حائرة بين أفكارها المشوشة و ارائها الغير ثابتة، فقاطع حبل أفكارها صوت جاء من الخارج، فنهض اورين منتفضاً، و خرج مسرعاً، شعرت بالذعر فسارت خلفه لترى السيد نندانيش قد جاء محملاً ببعض الصناديق الصغيرة. عرفت وقتها أن من كان ينتظره هو؛ والد إهراسيم. قالَ له اورين معاتباً لكن بنبرة تحافظ على الاحترام: لقد تأخرت! هل واجهتك متاعب؟
هز السيد رأسه، و هو يقوم بمناولة اورين جرار الماء:كلا، لقد جئت مسرعاً، خرجت من البوابة الغربية كما قلت لي، لم يعترضني احد بفضل علامة هويتك، لقد كانَ خروجاً سلساً، اظنني سأحتفط به.
تبسم اورين: لا أعتقد انهم سيسمحوا لكَ بالمرور بعد عندما تريهم إياه من جديد.
حمل أورين جرار الماء، و صب بعضها للأحصنة، ثم وضع بعض الفواكه التي احضرها بتلك الصناديق، و الباقي اخذه إلى الداخل.
كانت ايتانا واقفة في المقدمة، و لازالت تحتفظ بتلك النظرة الخائفة، فانزل الصندوق الخشبي من يديه حينما دخل السيد خلفه و هو يحمل جرار الماء، فقال اورين وهو يتناولها من يديه: انتما تعرفان بعضكما لذا لا حاجة للرسميات أليسَ كذلك.
تبسم السيد نندانيش بلطف في وجهها، و ردت له التحية بانحناءة بسيطة، و قالت: اسفة لتعريضك للخطر سيدي!
مسح بيده على رأسها و كأنها طفلة صغيرة: لا بأس، لم أكن لارفضَ طلب القائد على اي حال!
نظرت إلى القائد،رالذي كانَ يلملم نفسه مستعداً للرحيل، و هو يقول: ساغادر الان سيدي، انا اتركها في عهدتك لبعض الوقت، إنها متهورة و تميل التصرفات الإنتحارية لذا راقبها من فضلك.
و إبتسامة رائعة كانت تزهر على وجهه، ثم إستدار و توجه للخارج. اضطرب كيانها، و ازدادت مخاوفها، فلحقت به وقفت و هي تطالعه يغادر، ما الذي يجب قوله، ما الذي يجب فعله، إن عادَ الان فأي عقوبة ستنزل بحقه، ماذا لو كان العقاب وخيماً، ربما عليها ان تتوسله للبقاء. تعلقت اناملها بإذياله، فاستدار متفاجئاً ليراها محنية الرأس، فسألَ:ما الأمر!
رفعت رأسها، وغصة في القلب منعتها من الحديث، و دموعها قد فتحت مجراها على خدها، فخاطبها بوجه مندهش: لماذا تبكين!
و كأنه قد طلبَ منها ان تبكي اكثر، فراحت عينها تسبل الدموع كما لو تهاوى السد ففاضت البحيرة، و تنهيداتها المتحسرة، المتألمة بغصتها، و لم تجد ما تستطيع أن تشرحه او تفسره، فجاءت يده الرحيم لتحط على وجهها، بلطف و عناية مسحت تلك الدموع، و طالع تلك العينين الجميلة: عينك الخضراء مع الدموع لا تليق سمو الأميرة!... لا حاجة للبكاء أنا أعدك أنني سأحقق العدالة لأجل الجميع، و ستنالين حريتك في القريب العاجل فقط ثقي بي!
لم تكن دموعها لأجل حريتها، و لا لأجل العدالة التي بحثت عنها منذ أن خطت خطواتها نحو اور_يم! لقد تغيرت نواياها، تبدلت مطالبها، لم يعد يهمها الأنتقام كما كانت تظن، بل حياته المهددة الان هي التي تبكي لأجله. ثم أخرج من داخل ملابسه صرة صغيرة، و وضعها بيدها، و هو يقول: إستخدميها لأنقاذ نفسكِ، إذا دعت الحاجة.
ضرب على يديها، و التف مغادر، لقد اعادَ لها ما كان سبب في تلك الفوضى، علها تكون حبل نجاتها إذا ضاقت بها السبل.
نادى من الخلف السيد نندانيش على القائد الذي غادر للتو بعربته: لا تنسى التحقق مما اخبرتك به، لا تغض النظر عن الامر مثل ابني الأحمق!
هز القائد رأسه من بعيد بإيماءة بسيطة، و بقيا الاثنان يطالعان مغادرته، حتى توارى عن الأنظار. وضع السيد يده على كتفها، إدارت برأسها نحوه، فقال لها: لا تقلقي! سيكون بخير، لديه قدرة على الخلاص من المصاعب مهما كانت.
قالت:أخشى أن يكون حسابه عسيرا و لا خلاص منه.
_تعالي لندخل و نتناول الطعام و الشراب، و لندع الأمور تجري لمجرها، تحلي بالإيمان و ثقي به كما طلبَ منكِ.
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.