كان الناجي الوحيد لا زال مرعوباً و لم يستعد أنفاسه، اذ بدا عليه الصدمة، ورغم محاولات الجنود لتهدئته؛ لكن تأثير ما رآه كان عظيم على نفسه. و لما وصل اورين وقف ماسين ليؤدي تحية الاحترام، ومن دون تأخر أو تردد سارع اورين ليسأله عن حقيقه ما جاء به من أخبار. وبتلفظ الانفاس و بجهد جهيد قال: لقد جرى كل شيء بسرعه أنا حتى لا أعرف كيف أصف الامر أو من أين أبدا.
تدخل ايننتوم قائلاً: لا بأس حاول أن تخبرنا كل شيء و من البداية ان استطعت. خذ نفساً عميقاً و اهدأ أنت الان في أمان.
فعل الشاهد ما اشار له ايننتوم، وسحب نفساً طويلاً، ثم بنبرة متهدجة تحاول الا ترتبك قد روى حديثه: كان موقعي في نهاية القافلة مع الخدم والحراس المسؤولين عن أمننا، لم تكن عربة المستشارين قريبة مني ولكن على الاقل كان لبصري أي يَصلها من بعيد، كل شيء كان يسير على ما يرام، كلما حاولت أن أتذكر ما جرى بالضبط لم أفهم… لقد كان الامر سريعا، فجأة ومن دون سابق إنذار دوى صوت صراخههم، تشتت القافلة في هلع، لم نكن نعلم ما جرى نحن الذين في الخلفية، فتقدم الحرس مسرعين ليعاينوا ما يحدث، من ثم لم نرهم بعد ذلك مطلقاً، و تناقلت الألسن عن مقتل المستشارين.. فدَّب الرعب بين الجمع و رغم محاولات التهدئة إلا أن كل شي كان متبعثر في الأفق، لم نرَ من كان مسؤولاً عن هذا، لكن ما إن أنجلت الغبرة حتى كشفت عن حصيلة قتلى كبيرة، لم تكن لديَّ الشجاعة لأمضي و أتقدم، لكني جاهدت رغم ذلك لأرى.. فقط لأتأكد بعينيّ هاتين من مقتل المستشارين، و وجدتهم مطروحين على الأرض مخضبين بدمهما، تسلل الفزع لداخلي حتى شلّت قدماي عن الحركة، لم أعرف ما علي فعله، نظرت إلى اصحابي و الفيتهم موتى و بعض منهم يتشبث رغم جراحه برمق الحياة.. بعضهم قال لنعود إلى اورين، و بعضهم قال لننتظر و نرسل أحدهم كي يأتي إلينا، و هناك من اقترح ان نأخذ جثامين الموتى إلى مدينته، اوروك الخاصة بهم، لكن!!.. لم نزل بالكاد نتناقش حتى جاء رجال بوجوه مكفهرة، و مزاج محتقر، الغضب على سيمائه كغيمة تنذر بنزول العاصفة. لبثنا في مكاننا لا نعرف ما نفعل… نحن مجرد خدم يا سيدي، و لا علمَ لنا بما علينا فعله، ننظر إليهم بصمت و فضول و ترقب، عما يحمله لنا سراب الموت المتقدم، و لما دنو، و وقعت ابصارهم على الموتى، و تأكدت أعينهم من المستشارين صرخوا باهتياج محتدم ((أيها اللعناء، أبناء اور_يم كيف تجرؤن على مقتل مستشارينا… الموت لكم)) ... و لم نرَ سوى الرؤوس تنفصل عن أجسادها، و تتطاير مثل كرة من القش.. أطلقتُ قدماي للريح في لحظة فزع لم أرَ لها مثيل، لقد نسيت ان أتنفس حتى، لكنهم بلغوني رغم ذلك، و تمكنوا من إمساكي، صرخ أحدهم من الخلف منادياً ((لا تقتله!)) شكرت الالهة في سري.. قلت لنفسي أن أملاً في الحياة قد كُتب لي، و لما وصل ذاك الرجال خاطب من يمسك سكينه بالقرب من عنقي ((أنه الأخير.. اتركه ليحمل رسالة لنا)) لم أفهم ما قصد لذا استدرت برأسي بتردد مرعوب، و شاهدت ما كانَ يخشاه ناظري.. تمكن الموت من كتم أنفاس الجميع إلى الأبد و لم يكن سواي من بقى حياً، ثم خاطبني من بدا قائدهم ((عد إلى مدينتك يا هذا و أخبر ملكك و قائدك، إن اوروك ارسلت لكم رجالها بحب و جازيتم هذا الحب بالغدر و الخيانة، فلتعلم اور_يم أن اوروك قد اعلنت الحرب عليكم)) عُقد لساني من الخوف و لم أستطع ان انبس بحرف أو أن اتي بكلمة أوضح بها ما جرى.. رفسني برجله على ظهري و صاح بي لأمضي، و نهضت متعثراً مسرعاً أسابق الريح حتى حملتني اقدامي دون توقف، دون أن استرد انفاسي، حتى بلغت البوابة بالحالة التي شاهدني بها الحراس.
ساد الصمت بين الجميع، العيون تحدق بالقائد مترقبة، و بعض الحرس القريبين الذين قد بلغ اذانهم ما قيل؛ قد داخلهم التوتر و القلق، تنهد اورين بتعب شديد، و لم يبدُ انه سينطق بحرف، فتولى ايننتوم تلك المهمة سائلاً الشاهد: أتقولُ ان جنود من اوروك قد جاؤوا لينتقموا!
_نعم سيدي!
عقب سيده و في صوته حيرة: أليس هذا غريب، كيفَ بلغوا المكان في تلك السرعة، بل حتى كيف علموا بالأمر لكي يأتوا على تلك الشاكلة المرعبة كما تصفها انت!
علامات الجهل و الضياع كانت ترسم نفسها على هيئة ذاك الرجل، فمن أين له أن يعلم تلك الأمور و ماهو سوى خادم ذو حظ بائس، و لم يكن اخر همه معرفة ما جرى؛ بل النجاة بحياته المرثيّ لها.
نظر ايننتوم إلى القائد، و وجده تائهاً في افكاره و حيرته، و كأن لزاماً عليه أن يخرجه من صمته:سيدي! ما قولكَ في الأمر!تنهد بصدر وسيع، و اغمض عينيه في إحباط شديد، ثم فتحهما، وخاطب أحد الحراس القريبين منهم : خذ بيد هذا الرجل ليغتسل و يغير ثيابه، اعطه بعض الطعام و الشراب و اتركه ليستريح في مهجعه… أذهب الان.
اطاع الحارس و الرجل و مضيا في أمريهما، ثم نهض اورين من مكانه، و ضم الزهرات الذهبية في قطعة قماش، و احتفظ به داخل ملابسه، و تمشى بعض الخطوات بعيداً عن أَسمُعَ الناظرين، ولحقَ به مساعده تباعاً: في الصباح كان تهديد لجش و الآن اوروك، لا اعرف ما الذي ينتظرنا عند الغروب!.. على أية حال إن في الأمر لغز ما، لذا أرسل أحدهم ليستطلع لنا الحقيقة… ثم ضع عيناً على ذاك الخادم تراقبه، و أرسل خبراً إلى جلالة الملك، و إيلكو كذلك.
سأل بحيرة: هل اذهب انا لإعلم صاحب الجلالة! وماذا بشأنك!
أجاب اورين:لدي شيء يجب أن أفعله، لذا سأعتمد عليك في تدبير الأمور لبعض الوقت، حينما أعود أريد أن أسمع اخباراً من الكشافين المراقبين، ثم تأكد من تحضيرات الجنود و اكتمال العدة و العدد، تكفل بتلك الأمور ريثما أعد… و يا ايننتوم!
إلتفت نحوه،و بنظرة جانبية باردة قالَ له:لا تخذلني!
اقشعر بدنه و اومأ برأسه بهمة، و غادر القائد و هو يقول في نفسه "أيها اللعين إهراسيم، اين انت حينما احتاجك!"
نهض الرجل المذعور والتفت مغادراً برفقة احد الحراس، فَشاهده ايننتوم وهو ينحني لشخص ما. وحين استدار ليرى تفاجئ حينئذ بوجود الكاهن، انحنى هو الاخر وقال: سيدي الكاهن المعظم، أهلاً بك!
بهدوء و كياسه اجاب المعظم: تحية لك ايها السيد الكريم.
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.