٣٢

14 8 0
                                    

في داخل المعبد الأبيض الكبير، يتلوى الكهنة ترانيمهم، حتى ران صداها المكان، دبيب يطن في الأذن، منغمسين في ما يدعونه صلاة، و تتجلجل رنين عقدهم المصنع من الأحجار الثمينة، كلما مالوا بجسدهم، مع ثبات أقدامهم، سربال من الكتان على شكل تنورة طويلة، تغطي ما فوق السرة نزولاً حتى نهاية الساق، على شكل أهداب عريضة، من صفوف ثلاث. مزينة بخيوط من ذهب، و بعضهم بالخرز و الأحجار.

كان. الملك يجلس في القالب يطالعهم مستمع لصلواتهم ظاهرياً، ففي داخله ضجيج من التخبط و الإضراب لا يعرف له مستقر. لم يكن احد بجانبه؛ كما أمر، و أنكفأ على نفسه، منعزلاً عن ضجيج الحكم رغم الضوضاء التي تحاوطه.

لم يسمع الحارس الذي بجانبه، و هو يخبره بقدوم الكاهن لينكال، و لم يوقظ من شروده إلا و الأخير يقول بيد مضمومة لصدره: التحية على ملكنا العظيم.

رفعَ الملك رأسه بملامح متعجبة، و ما أن ألفى نظره وجه الكاهن، حتى تغيرت لسيماء الإرتياح و هو يقول بنبرة بأن عليها الوهن: أهلاً بك جناب الكاهن، تفضل و اجلس معي.

و فعل ما أَمر ملكه، و جلسَ على كرسي إلى جانبه. و بقي يطالع الكهنة و هم يتقربون إلى تمثال إنكي لصلواتهم، و التزم الصمت مع الملك، فقطعه الاخير قبلَ أن يُدم طويلاً: لقد ظننتك في المعبد، إلا أني لم أجدك حينما وصلت.

بهدوء و رزانة قال: لقد عدت إلى مخدعي بعد أن سمعت الأخبار بشأن حارسكم، فوددت الاطمئنان على ابنتي لكني لم أجدها. أخبروني أنها بخير، فاكتفيت بذلك و عدتُ إلى هنا.

هز رأسه و اكتفى بالصمت حديثاً، و شارك الكاهن في جلسة الصمت هذه، لبعض من الوقت: و ماذا عنك مولاي، لِمَ انت مختبأ هنا؟

اطلق الملك ضحكة صغيرة ساخرة، و عينه تطالع أمامه، و أجاب بنبرة اخفت داخلها حزناً: هل تخالني اختبئ لينكال!... ربما انت محق، ربما هذا حقاً ما انا فاعله.

_لا تحمل نفسك إصر التفكير، دع الاحداث لمجرياتها، لا تدري أي قدر يخبئه لك الغد.

_أخشى يا لينكال أن التفكير بحذر هو ما يتحتم علي فعله، إنها الحرب!... فإما سترفع الامة او تسقطها.

_هل ترغب بتجنبها، ام الخوض في غمارها؟

أجاب بشيء من الحدة: ما الذي تظنه بشأني، أمتعطش للدماء في نظرك، لو لم تكن هذه الحرب لحماية اور_يم ما تهيأتُ لها… أنها شرٌ لابد منه.

تنهد الكاهن و اطل بنظرة طويلة على مشهد الكهنة و هم يضعون القرابين المقدمة عند قدمي التمثال الكبير، و يفصلون الغالي من الرخيص، ثم تحدث: انت مسؤول عن هذه البلاد و أمنها، ليس لي الحجة لأوجهك فيما تفعل، إنما فقط أدعو لك في السداد فيما تختار، الحرب من عدمها، فهذا منوط بحكمتك، و رؤيتك. لو كان هناك ما يمكن تجنب هذه الحرب فقط…

_لا يوجد ما تستطيع فعله حضرة الكاهن، إن جنود لجش على مقربة من أسوارنا، انهم فقط ينتظرون اللحظة المناسبة للهجوم، فكيف تريد لي أن أجلس ساكناً متفرجاً و أدعو للسلم و هناك من يعتدي على ارضي!

نهض لينكال و شبكَ يديه أمام الملك و قربها من صدره، كتحية تعظيم لمولاه، و قال و هو يحني رأسه: أنا أثق بحكمك، و نظرتك السديدة، أنه انت حامي هذه الأرض و حامي رعايا البلاد، و أدعو الإله أن يهبك القوة اللازمة في مواجهة عدوك… أنا استأذن حضرتك الان للمغادرة.

أشرَ الملكُ بيده و قال: شكراً لوجودك لينكال، إن أحببت المغادرة إلى اريدوك فلا أمانع… اتفهم أن اور_يم لم تعد امنة لمواطني البلاد القريبة.

_شكراً لتفهمك مولاي.

استدار الكاهن و غادر المعبد بخطوات هادئة رزينة مرتبة، لا يشوبها شائبة، و في الطريق دخلَ حارس ما انحنى للكاهن الأعظم حالَ دخوله، و لم يتحرك حتى ابتعد الأخير عنه ماضياً في طريقه نحو الخارج، ثم توجه نحو الملك و وقف خلفه و على مقربة منه: مولاي لقد فعلت ما أمرتني بفعله.

دون أن يلتفت صاحب الجلالة سأل بنبرة باردة: إذاً من كان أول من اتجه لها!

هسهس الجندي في مقربة من اذن مولاه: لقد كانَ إيلكو… لقد غادرت عربته قبل قليل و شوهدت و هي متجهة نحو المكان التي حجزت فيه الفتاة.

هز رأسه :إيلكو إذاً… و ماذا بشأن الاخرين!

بالنسبة للملكة فهي لا زالت في مكانها، إلا أن الجدير بالذكر أن إيلكو قد خرجَ من مكانها الخاص؛ من قاعة الحريم الخاصة بصاحبة الجلالة.

أطلق الملك ضحكة ساخرة خافتة، تحمل بعض المرارة فيها و هو يُحادث نفسه: اذن يا بو آبي انتِ تثبتين بذلك التهمة عليكِ… و ممن زارها بعد؟

_انه الكاهن لينكال.

رد بتفاجأ: الكاهن!.. هل أرسلته هي لي، ما الغرض من الكاهن، هل هو بجانبي ام بجانبها؟

و اكمل الجندي: و بعد أن غادر الكاهن ثم إيلكو سراً، تمت رؤية ميلام حارس لارسا و هو يدخل حرمها الخاص.

جحضت عينا الملك، و التفت بسرعة، يحاول ان يتأكد من ذلك من علامات وجه جاسوسه، و لم يكن في وضع مناسب للكذب البتة، شذب لحيته بأصابعه، و راح يتفكر عميقاً، ثم قال: حسناً، و ماذا بشأن اورين؟

_انه منشغل بالجنود و تهيئتهم للحرب، و شغله الشاغل في كشف ما حصل للسيد إهراسيم.

_حسناً.. اذهب الان، و أتني بالمزيد، حاول زرع شخص ما لتعرف الحديث الذي سيدور في السجن، و عند الحرم الخاص بالملكة... أو ربما أذهبُ أنا..

نفض الملك بأصابعه، و أخذ الجندي الأمر بالانصراف، و بقي الملك يطالع المكان. بهدوء مطبق، إلا أن داخله ضجيج عارم.

الهاربة والمفاتيح المفقودة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن