٣٤

26 8 0
                                    

وصلَ إيلكو إلى المكان الذي تَم حبس الاميرة فيه، ترجل من العربة، و أمر الذي يقودها بإنتظار في هذا المكان، أحنى الآخر رأسه بالسمع و الطاعة، و تركه وزير الشؤون و دلفَ إلى داخل السجن.
   استقبله الحراس استقبالا طيباً، و كأنه يدخل إلى قصرهم المعمور. كان المكان في مجمله بسيطاً، خال من مظاهر البناء و الممرات الكثيرة، فقط اقتصر على ممر واحد يربط البوابة الخارجية بالداخلية، و ينتهي بغرفتي عل مفترق طريقين، أحدى الغرفة معدة للحبس، و الأخرى كانت للتعذيب، و هي الطريق الذي سلكه إيلكو بتوجيه الحراس. لا يعد هذا السجن رئيسياً للمدينة؛ إنما هو فرعي، و الآخر الكبير يقبع خارج سور المدينة، بعيداً عنها.

    دخل المستشار الحجرة؛ في أعلى الجدار كانت هناك نافذة ضيقة، بشكل مربع، أعدت للهوية فحسب. و رغم سقوط بعض من أشعة الشمس إلا أنها كانت شبه، مظلمة، بالكاد تُرى الوجوه ومكان الأشخاص، و مجسمات المكان.
كانت معلقة في منتصف الغرفة، على عمودين مثبتين بالأرض، ربطت يداها من الأعلى ربطاً وثيقاً قاسياً، و تُركت قدماها حُرتين، بدا على وجهها الأرهاق الشديد، و هي بالكاد تعيّ ما يدور حولها، شحبَ لون يديها، و لم يعد يصل إليها الدماء، وقدماها هاويتان بعدما سُلبت منها المقدرة على رفع نفسها.

التف إيلكو حولها، و ورأى ظهرها المكشوف، بعدما مزقوا لباسها، و اثار السياط تركت مكانها على جسدها، ثم عادَ ليقف أمامها، مقابل وجهها بالضبط، و تفحص إن كان بأماكنه الحديث معها، فقال أحد الحراس قبل أن يوجه له الكلام: لقد قمنا بالتحقيق معها كما أمرت، لكنها عنيدة بصمتها حتى أثارت غضبنا أكثر.

اشارَ إيلكو بيديه، فأستجاب الحراس للأمر طواعية، و تركوهما، بمفرديهما. اقترب منها حينما خلا المكان من غيرها، أطال النظر بحالها المرثي له، تمتم بكلمات شفقة: من الجيد أن والدك قد توفي قبلَ أن يراك على هذه الشاكلة.

رسمت على شفتيها إبتسامة منهكة، ونبرة سخرية متعبة بانت من حنجرتها: لم تستطع أن تحضر لتواجهني بنفسها فدفعتك انت… خادمها الأوفى.

لم ينم عنه الغضب، او حتى التأثر، بل التزم الهدوء المطلق، سار في الحجرة شابكاً يديه خلفَ ظهره: كنتِ تتوقعين رؤية أحدنا على ما اظن.

اجابت: توقعت أن يكون أبكرَ من ذلك… فجميعكم يودُّ أن يعرف مكان المفاتيح الذهبية.

فتوقف مكانه، و التفت نحوها و قالَ بنبرة لا لين فيها: إذن افصحي عن مكانها قبل أن ينالكِ الأذى الأكبر.

اغمضت عينيها، و فتحتها و كأنها تحاول أن تعيد لنفسها توازنها: أنا سأُحرَقُ عند الغروب على أي حال، لقد اقسم الملك على ذلك، لذا لن تستطيع اقناعي بغير ذلك، و سأخذ السر معي إلى قبري.

أمسك برقبتها بلحظة مباغتة سريعة، يحاول أن يضيق الخناق عليها، قال و نبرته يتلظى الشرر منها: لقد كنتُ متسامحاً… أنه خطأي لأني فعلت، يجب أن تكوني شاكرة لي لأني لم أفضح امرك عند الملكة مبكراً.. كنت أحاول أن أكون ودوداً معكِ من أجل والدك، و لكن الآن أنت تثبتين أن الموت هو استحقاقك الوحيد.

ازرقت سحنة وجهها، و انقلب لون عينها إلى الابيض الشاحب، حتى بانت على شفا حفرة من الموت، إلا أنه تلاحق نفسه سريعاً و أفلت اصابعه الغليظة عن رقبتها الصغيرة، تاركة اثاراً حمراء واضحة، لو كتب لها يوم آخر لتنجو فهي حتماً ستتحول إلى اللون البنفسجي في الغد.

صرخَ في وجهها، دون أن يترك لها مجال للفظ أنفاسها: تكلمي! تكلمي قبل أن أُعجل في موتك… اين اخفيتيها!

سعلت كثيراً، حتى اغرورقت عيناها بالدموع، و انقلب وجهها للون الأحمر، لو أنه يناولها رشفة من الماء فقط، إلا أنه لم يكن رحيماً لتلك الدرجة.
بعد أن استعادت أنفاسها، قالت و هي مجهدة الأنفاس: قل لي أولاً… لماذا شاركت في خيانته!

نظر لها بحدة، ثم زفرَ عالياً: لم يكن هناك خيار أخر، لقد كنا مجبرين على غض النظر عنه… انا فقط عاملتك بالحسنى لتأنيب الضمير، لذا لا تجعلني أندم على ذلك.

هزت رأسها بوجع، و كابدت لترفع نفسها و تقف على قدميها بصعوبة مفرطة، ثم خاطبته: إذن أخبر مولاتك أن تأتي لتعتذر لي هنا، و أنا سأخبرها عن مكان المفاتيح.

_هل جننتِ؟ كيف لجلالتها أن تعتذر، أن النين العليا منزهة من الأعتذار لأحد و خصوصاً لمن هم بأقل منها.

_هذا فقط ما لدي لقوله، أخبرها أن تسرع بالمجيء، فأن المغرب يقترب من السماء كما ترى.

جحضت عيناه غضباً، يود لو يقتلها الان على وقاحتها، و هي تقف أمامه شامخة بنفسها، تشع بالجرأة و القوة، لم يعد الترهيب يفيد بها، و لا حتى تهديده، فالموت بالنسبة لها هو خلاصها الابدي، و لن تفرط به تحت أي تهديد او خوف.

وجد إيلكو نفسه محاصراً بنظراتها، و هي تثير الرعب داخله، أنها شخص لا يخاف، شخص كان يجب توخي الحذر منه، ذئب كان يخادعه بلباس الحملان.
أضطر المستشار مرغماً على المغادرة، حتى زفرت الصعداء بتعب شديد، و عادت لتتلاشى قوة أقدمها، و لم تعد تستطع أن ترفع نفسها لوقت أطول من ذلك.

اجتاز إيلكو الممر باضطراب شديد، و اختلاط من الأشياء يضج رأسه، حتى سمع احد الحراس يقول له:سيدي هل نكمل عملنا معها؟

نظر من بعيد إلى الطريق الذي يؤدي لحجرتها، نظرة عميقة طويلة ثم تمتم باستسلام: لم يعد هناك فائدة.

و فتح الباب و غادر في عربته متجهاً صوب القصر، صوب ملكته التي لابد و أنها تنتظره بالأخبار.

الهاربة والمفاتيح المفقودة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن