كاد ايننتوم أن يغرق في ثيابه من فرط التعرق الذي انتابه تحت ضغط التوتر و هو يقف بلا حراك أمام نظرات القائد الجانبية الحادة، جلَّ ما يفعله هو إزدراد ريقه باستمرار.
بينما كانت ميش تجابه القائد بشجاعة، و هي تسلمه الزهرات الثلاث، و في داخلها تكابد لأقناع نفسها أن هذا هو العمل الصواب. مكتفياً بالصمت كان تعقيب اورين على ما يجري، يطالع ما وضعته بيده، و الأخيران في ترقب شديد لردة فعله، و تبعاتها. إلا أنه حدق طويلاً بتلك الزهرات، لمس أحداها بيده، تمعن في نتوءاتها و دقة صنعها، ثم رفع رأسه بعد برهة من الزمن، و طالع مُحدثي المتاعب الذي أمامه وقال بلهجة هادئة: انت تقولين أنك أحضرتها من خارج الأسوار إذاً، و تظنين أنها متعلقة بمسألة الاميرة و المفاتيح المفقودة؟
اومأت بتوتر، و تحاشت النظر في عينيه، و رغم محاولات الاثنين بأخفاء فعلتيهما، إلا ان القائد كان يحدق بتفحص شديد و كأنه يرى ما تضمره دواخلهما فراح يفرج عن كلماته الحادة: هل تعلمين ما العقوبة التي ستقع على رأسيكما لو علم صاحبي الجلالة بأمركما؟!رفع ايننتوم رأسه ،و حدقت ميش بحيرة، و قلب اورين نظره بين هذا و تلك، و استطرد: ستقتلان على الفور!.. انتَ على علم بالإجراءات هذه ايننتوم، فكيف تتجرأ على العصيان؟!
ردت بحماس : لكنه لم يقصد فعل ذلك.. أنها انا من ذهبت إلى الخارج، لا…
امسك ايننتوم ذراعها فجأة، فانقطعت عن الكلام، و تساءلت تعابير وجهها و هي تنظر له، فقال لها بنبرة متعبة: أنه لا يتحدث عن المفاتيح… انه يتحدث عنا!
جحضت عيناها من الخوف، و نظرت إلى القائد فكاد الآخر ان يستشعر الخوف المنبعث منها، ثم طاطات رأسها سريعاً تخشى أن يرى القائد ذعرها، فراح يكمل القائد تأنيبه: من غير المسموح لك أن تتخذ لنفسك خليلة دون أن تامر جلالتها لذلك، انت هنا لتُسخر لنفسك، انت تعمل ضمن الجنود الموكلين لحماية الملك و الملكة، روحك مرهونة بسلامتها و لا شيء آخر و هما و حدهما من يعطياك الأمر في الزواج، و انتِ… انتِ مجرد خادمة، عبدة من العبيد، لقد امضيتي طفولتك هناك فلابد أنك على دراية تامة بقواعد القصر الكبير، كان يجب ألا تتجاوزا الحدود، و أن تتناسيا أن حياتكم ملك لكما.
قال ايننتوم مبرراً: لكن!.. هو فقط حدث دون أن تعي نفسي لذلك، كنت أعلم انه ممنوع إلا أن قلبي لم يكن تحت تصرفي… كلانا يعلم عواقب الأمور، لكننا تركنا تلك العواقب للمستقبل.
نظرت له ميش و العاطفة تفيض من مقلتيها، و بادلها صاحبها بابتسامة صادقة، فقاطعهم القائد بضحكة هازئة: انتبه لحالك ايننتوم، و بينك و بين الواقع فراسخ، عليك أن تعي لنفسك، و تثبت أقدامك في الأرض، فأنت لن تستطيع أن تطير مهما توهمت بجناحيك.
اطلق تنهيدة عميقة و سدد نظره نحوها: عودي الان إلى عملكِ، و لا تذكري لأحد عما أخبرتني به للتو، فإن فعلتِ فحياتكما انتما الاثنان ستنطفئ في نفس اللحظة.
اومأت بخوف و حطت يد ايننتوم على كتفها بهدوء، إستدارت لتراه ينظر لها بهدوء و عطف، و كأنه يطلب منها أن تمتثل لأمر قائده، ففعلت ذلك بصمت و غادرت دون أن تعقب بحرف يذكر.
فاستطرد القائد كلامه و هو يحكم لف المفاتيح بقطعة القماش و يخيفها داخل ملابسه: لقد تعرض إهراسيم للاختطاف بسبب تهورك… لا تظن أن ذلك سيمر دون عقاب ايننتوم.احنى الآخر على ركبتيه و قال بخضوع: انا طوع امرك، و اتقبل العقوبة مهما تكن!
شيء من المرارة و الحنق كانت تعتصر دواخل اورين، لقد شبه ذلك بالخيانة، الطعن في الضهر، لم يظن لوهلة انه سيتخلى عن واجبه لأهوائه المضلة، كان خذلان لم يهيأ نفسه له. شد على قبضة يديه، مانعاً نفسه من الإفراج عن ذاك الغضب، فالوقت حرج لإنزال عقوبة فيه، فهو في أمس الحاجة إليه في هذه الأوقات الصعبة، و جاء على عجل من قاطع خلوتهما المتوفرة، رجل من حرس البوابات الخارجية، يلهث مسرعاً، يتصبب عرقاً، مجهداً تعباً. جعد اورين جبينه مستغرباً و سألَ عما أصابه فاجاب بعدما كابد لاستعادة انفاسه: سيدي!.. أنها مصيبة!... مستشارا اوروك قد تم اغتيالهما في طريق العودة، و الدولة تتهمنا بفعل ذلك.
_ماذا!
_أنه هناك… الرجل الذي جاء إلينا بهذا الخبر… هناك عند البوابة الامامية.
((انهض)) هتف اورين و هو يحث الخطى مغادراً خلف حارس البوابة، و ايقن ايننتوم انه المحاطب؛ و قال في قرارة نفسه "لابد أنه يرى الوقت غير مناسب لعقابي في هذه الظروف، لكنه بالتأكيد لن يتغاضى عنه للأبد… فقط للان سأحاول ان أعيش لأجل واجباتي، و متى ما حان الوقت لتلك العواقب المرتبة، فلا بأس… سأكون لها… سأكون عند كلمتي كما وعدت! لن اغدر بميش و لا بالقائد"
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.