((قل لي أورين، هل كانت رحلتكم آمنة؟)) سألت الملكة سؤالها وهي تشرع بعبور بوابة المعسكر ويحفها خدمها وجواريها، ويقف القائد بمحاذاتها ممهدًا الطريق للوصول إلى بيت الراحة، حيث ينتظر التجار وحمولتهم هناك. أجاب بهدوء ورزانة تامة: مطلقًا يا مولاتي، لقد كانَ الطريقُ سالكًا، ولم يتعرض لنا جنس مخلوق... حتى جعلني في حيرة وتساؤل من أمري.
قبلَ أكثر من شهرين، غادرت قافلة صغيرة قاصدة أماكن مختلفة من المدن التي تحاذي أور_يم، وكان والد إهراسيم معهم، قد انضم إلى ركب المرتحلين ليحضر بعض الحبوب والأعشاب بعضًا منها لدراسة مفعولها الطبي، وبعض منها لقلة توافرها في المملكة، فقد كان يبرع في المداواة والطبابة، ولسوء حظه فقد تعرضت القافلة التي مضى فيها إلى هجوم غير متوقع من قطاع طرق، قتلوا وسلبوا ونهبوا. كان والد إهراسيم رجلًا ذي شيبة بيضاء عالية، إلا أن جسده قوي، فاصطدم مع أحد المهاجمين وحاول الدفاع عن نفسه، صد َّ هجومه ومن دون أن يدري تلقى ضربة من الخلف! من شاب فتيّ مغطى باللثام ولا تظهر سوى عينيه، وجلد حيوانٍ ملفوف على ساعده الأيمن.
أرادَ السيد نندانيش أن يحمي نفسه من السقوط فتعلق بذاك الجلد الذي يربط ذراع الرجل، فانخلع وانفك الرباط وسقط أرضا. شاهد الفتى وهو يفرغ جلَّ اهتمامه على تغطية الوحمة الكبيرة في ذراعه، وغاب وعي السيد في تلك اللحظة.حالفه الحظ حينما وجدَ نفسه لا زالَ حيًا، ولم يصبه قطاع الطرق بسوء؛ لابد أنهم ظنوا أنه جثة أخرى بين الجثث المترامية لأفراد القافلة. كان الطريق خاليًا منهم حينما استيقظ، فرفعَ نفسه ووجد ثلاثة آخرين من قافلته لا زالوا يصارعون للبقاء رغم جراحهم، وجاهدوا وجاهد نندانيش معهم للعودة إلى مدينتهم؛ أور_يم.
بلغت أخبار القافلة المنكوبة أذان المدينة، وتسلل الفزع إلى النفوس التي اعتادت أن تكون مطمئنة، ولم تخرج أي قافلة للتجارة بعد ذلك اليوم .
لما بات العيد المقدس على الأبواب، كان للملكة رغبات في تزين نفسها ومائدة قصرها بذوقها المميز، لم تكن لتعتمد على الموجودات فقط بمملكتها؛ بل تعدى طموحها إلى خارج المدينة، لقد كانت انسانة تحب التزين و التفرد بزينتها عن جميع من سبقها و عاصرها، تهوى الجميل و البديع، مهما كان و إينما كان، لذا أمرت رجالها أن يُخرجوا لجلب الغالي والنفيس، من مملكة نفر البعيدة، أرض الحرفيين والصناع المهرة، وخشيت أن تلاقي مصوغاتها وبضائعها النفيسة والنادرة؛ المصير الذي لاقته قافلة السيد نندانيش، أوعزت الأمر إلى قائد حصن مدينتها، وحاميها؛ أورين ورغبت بمساعده أن يكونَ معه هو الآخر لتشديد الأمن على القافلة لِما لها من أهمية عندها.لم يكن لأورين أن يعترض، وترك مقاليد الأمن لأيننتوم؛ الذراع الثانية من بعد إهراسيم. حينما خرج القائد بقافلته معَ مساعده الأول، كانوا على أهبة الاستعداد والحذر من أي هجوم مباغت، إلا أن الهدوء هو كل ما هاجمهم. ومضت رحلتهم بسلام مطمئنين.
توقفت الملكة عند البضائع التي انفرجت أمامها، يسحر البريق لبها. ويفرج لمعان الذهب قسمات وجهها. راحت تنتقي هذا وذاك، وتوصي بصنع المزيد، أباريق لسكب بيرة القمح مصنوعة من الذهب، اقداح للشرب، وأواني لتناول الطعام، حاملات للفواكه، صحون، وكؤوس؛ كلها كانت من الذهب والفضة، واشترطت أن تكون مزخرفة، بعضها بورق الغار، والآخر بالأحجار الكريمة.
*
في تلكَ الأثناء عندَ بوابة القصر؛ موكب السيد لينكال كاهن مدينة أريدوك المقدسة، قد وصلَ أخيرًا إلى دولة أور_يم، بدعوة مخصوصة من الملك والملكة، ليكون الكاهن المختار في إقامة شعائر العيد المقدس. الذي سيقام في المعبد بعد أيام قليلة، ويحفه جنود لحماية موكبه وبعض الخدم، والجواري.
لم تكن أريدوك مدينة ثرية، ولا مترفة العيش، كانت بسيطة كبساطة سكانها، تنتعش بفضل المعابد لا غير، وأيام القرابين وموسم الحصاد هو جلَّ اهتماماتها، بعيدة عن مستوى أور_يم كل البعد في المظاهر والعادات. ولكن كان للمدينة قداسة خاصة بين الدويلات المجاورة، فهي مسالمة، ولذلك لم يعتدِ عليها أحد قط، ومرحب بكهنتها أينما حلوا في أي مملكة كانت!هرع الجندي المرسول إلى القصر لإبلاغ اصحاب الجلالة بقدومه، فدخل على الملك في قاعة عرشه، الملك آباركي. هناك قد رفعَ صاحب المقام رأسه، بعدما انحنى المرسول في حضرته: مولاي! الكاهن الأول لينكال قد بلغ مدينتنا المعظمة.
نهض الملك من عرشه، وبان طوله المتوسط، لحيتهُ الكثة السوداء التي تغطي سحنته الباردة، مئزره الأبيض يلتف بطريقة حلزونية حول جسده، ويترك الجزء العلوي الأيمن مكشوفًا. على سيمائه السماحة والرحمة. وعينه الضيقة توحي بالهدوء والحكمة.
هبط بدرجتين ليتمشى نحو الباب، وخلفه يتبعه مساعده ومشاوره، وخدم يسيرون على خطاه، وقال متجاوزًا المُبلغ: سأرحب به بنفسي!كانَ موكب لينكال قد بلغَ منتصف الطريق إلى بوابة القصر، إذ لاقى ترحيبًا حارًا من سكان المدينة، يتهللون بقدومه ويتبركون بلمسته، كونه العبد الأقرب للآله.. دعواته مسموعة، وقرابينه مقبولة، هو الذي يتكلم بما ترغبه الآلهة إذا ما ارادت أن تخاطب عبيدها.
انفرجت أبواب القصر الخشبية الكبيرة، وأصدرت جلبًا يثير انتباه النفوس، وانبثق منه صاحب الجلالة بنفسه يصحبه موكبه الخاص. تقدم نحو مكان لينكال حتى بلغه. شرع الملك بفتح ذراعيه، متهلل الوجه، وباش السريرة في وجه كاهن أريدوك الأول، احتضنه بأذرع مفتوحة: التحية لكاهننا المعظم.. لقد استضاءت مدينتنا بقدومك.
استبشرت قسمات وجهه، وشعر بالاعتزاز لهذا الترحيب الحار من المدينة والملك بنفسه: أشكرُ حسن استقبالك يا مولاي.
مد الملك يده باتجاه الداخل حالما وصلوا إلى أعتاب القصر، شرع الكاهن بالولوج إلى هناك، وخطواته لم تتعدَ خطوات الملك، حتى بلغوا قاعة العرش، ثم جلس الملك على عرشه بوقار، ليجلس من بعده، جميع حاشيته.
*
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.