انطلقت الملكة منذ الصباح، و خلفها ميباتا، و بعض الخدم، و ثلاث حراس في المؤخرة، يتبعون خطاها اينما ولت. رغبت أن تشرف بنفسها على الأعمال التي أمرت بها، على الطباخون و ما ينون تحظيره لوليمة يوم العيد الكبيرة، الحرفين، و متابعة أخر ما صنعوه لها من أدوات المائدة المزينة حسب اختياراتها، على من سيخيط لها لباسها. صرخت في وجه من ازعجها بعمله الكسول، او من خالف تنفيذ ما امرت به، و مدحت من اجاد عمله و صنعه.
و حينما اقتربت الشمس على بلوغ كبد السماء، حثت خطاها متجهة نحو المعبد الأبيض الكبير، المقام على ثلاث مصطبات، ترتقي له الملكة صعوداً، رافعة ثيابها عن موضع قدمها، كاشفة عن ساقيها، حتى بلغت اخر مصطبة، فأنزلت ثيابها، و استقامت ظهرها، و شرعت في خطوات هادئة رزينة نحو المعبد، رأت استعدادات الكهنة هم أيضاً، الدكة التي سيقام عليها مراسيم الزواج، موضع القرابين التي ستقدم، استمعت بهدوء إليهم و خرجت منهم و هي راضية تماماً.
كانت الاجراءات تعمل في سرعة و انتظام، كل منهم يسارع في انهاء عمله، ومثل تلك الفوضى كانت داخل قاعة العرش، إلا انها كانت فوضى من الخمول و الضحك و الاستمتاع، الملك على رأسهم، يشاركه المجلس اعضائه الخمسة المستشارون، من ضمنهم إيلكو، الذي كان بطريقة ما يتجنب الشرب و العبث في قاعة العرش، و يتواجد لينكال الذي تمتع بعناية الملك في قصره، و لم يزر لينكال المعبد إلا مرة واحد، و الذي يفترض فيه أن يقضي وقته هناك.
ميلام كان يراقب قاعة العرش يبحث عن نبيشوم بعينيه دائماً، و يغطي بذلك بضحكه الصاخب، و مواضيعه الساخرة، ثم في لحظة من الجد سأله الملك: لم تخبرنا سيد ميلام، ماهي خططكم التي تنوي اتباعها في حكمك على لارسا؟تنهد ميلام، و راح يشرب من كأسه بزهو، ثم طالعه، كمن يطالع كرة سحرية تخبره بالمستقبل المنذور: ألتطور، العمران، سأفعل كل شيء ليكون للارسا أسم تعرفه الاجيال القادمة، لن نكون لقمة سهلة لكل من أراد العب بنا.
ثم أحجم عن الحديث، و راح ينظر للملك بنظرات مترددة، و لما ألفى ذلك منه السيد لينكال راح يقول له: أرى ان لديك ما تقوله سيد ميلام، فلماذا تتردد في ذلك؟
ندت عنه ابتسامة زائفة، و هو يعود لشرب من كأسه بنهم، ثم مرره نحو الخادمة، لتملئه من انية الشراب الموضوعة إلى جانبه، و راح يقول: لدي بالفعل حديث مع صاحب الجلالة ، إلا أني أتردد في قوله، خشية ان لا يلاقي أستحسانه!
رد لينكال بنبرة مرحة يخاطب بها الملك: ما قولك يا صاحب الجلالة، هل تسمح له بالحديث؟
فرد الأخير بسماحة: تفضل سيد ميلام، لا ضير من التناقش في وجهات النظر المختلفة، و ربما ما ستقوله سينال على رضاي عكس ما كنت تظنه.
أنكفأ أيلكو نحو الأمام بجسده، كله أذان صاغية، يترقب ما ستنطقه شفتا ميلام المشكوك بأمرهن ليقول الأخير و هو يتمهل في نبرة صوته: إن عدواً واحد، كان و لا يزال يهدد مدننا الثلاثة، نحن الدويلات المتجاورة نجلس في مجمع واحد؛ إلا تلك المدينة فهي في جهة أخرى من توجهاتنا، حتى تعارضت طرق صلاحنا... لجش يا مولاي تتوسع في طرقها خارج حدود مدينتها، و حينما يخامرها فكرة الحرب، ستكون لارسا اول واحدة في طريقها، و أسهل مدينة يمكن لها اجتياحها، و ما أن تسيطر عليّ لن تتردد في أحياء الماضي العابث بينهم و بين مدينتكم و ستسفر الحرب عن أوزارها، ثم تليها اريدوك بالتأكيد، التي ستستسلم بسهولة، لأنها اعتادت أن تكون مسالمة، و لم تكن لتجهز نفسها للحرب.
مسحة من الهدوء أخذت تتسيد المكان و كأن الكلمات تغللت في عروقهم كالغاز السام، ثم سأل الملك برزانة و سكينة: و ما الذي تنوي قوله من كل ذلك سيد ميلام.
لمعت عيناه بريق الثقة، و كأنه قد أصاب الهدف المطلوب: مقصدي من كل ذلك، أني أريد ان أضع يدي بيدكم، لننهي أمر لجش المقلق، قبل ان تنوي على دك صفوفنا!
دبت موجة من الطنين في المجلس، أصوات مختلفة شرعت في الهتاف و، منهم من يعارض الأمر معارضة تامة رافضاً اي فكرة للحرب، و منهم من يوافق على ذلك، و يرى أن الحرب الأمثل هي التي ستضمن لأور_يم السلام الأبدي، وحده الملك، و لينكال فقط من التزما بالسكوت بعد ما تفوه به ميلام، ثم جاء صوت إيلكو بسؤاله ليقطع كل ضجة: لماذا لجش ستتجه لنا، بدل أن تواجه اوروك، أليست أوروك المكان الأقرب لكم منا؟
أجاب ميلام و كأنه لم يفاجئه السؤال: أوروك محصنة بسور جلجامش العظيم، لن يقدر الملك انيمود على دكه مهما حاول.
فتوجه لينكال نحو الملك بسؤاله: ما قول صاحب الجلالة في ذلك؟
فكر الملك ملياً، و هو يطالع الجميع و هم يعلقون بنظراتهم نحوه، هادئين متطلعين بصمت، و بترقب، حتى فتح فاه قائلاً بحنكة و هدوء عظيم: ما يقوله السيد ميلام لا يخلو من الخطأ.. لكن الوقت ليس وقت الإعداد للحرب.. نحن في مناسبة الان، و الحديث في مثل هذه أمور سابق لأوانه... دعوا أمر الاحتفال يمضي... و أرسِ أنتَ قواعد حكمك في مدينتك سيد ميلام، و في حين ذاك الوقت، نراقب ماهية توجهات لجش نحونا و نحوكم، لنتخذ عندها القرار الأخير.
أومأ الجميع برأسهم، و دب ضجيج خفيف من الكلام في ما بينهم، و اجمع الجميع على رجاحة قول الملك، و أنه عين الصواب ، و أصوب قرار إلا ميلام الذي انزعج من ذلك. لم يكن يرغب بالرفض الان، على الرغم من إن الملك لم يفصح عن الرفض التام، فزيارة ميلام هذه كانت تريد ضمان موقف أور يم إذا ما اشتعلت الحرب بينه و بين لجش، فأن لم تبادر لجش بالهجوم، ستكون لارسا جريئة و سعيدة في فعل ذلك، و هي تحت رحمة ملكها الجديد المتهور كما يبدو.
لقد قضى وقتاً عصيباً مع نفسه، و هو يكتم غيضه و استيائه، و يواجه بالضحكات المصطنعة، جاهد للبقاء لما يقارب الساعة، حتى نهض من مكانه طالباً الاذن من الملك للمغادرة، و لما خرج أفعمت سحنته حمرة الغضب، متأججة، تقدح عيناه شرراً من الحقد، و رمى بشرره على موران: أين اللعين ايومين؟ هل أحضر تلك السافلة أم بعد!
بنبرة تخفي في طياتها الخشية من هذا الغضب الذي لا يحتمل عقباه: لقد ذهب للبحث عنها في أرجاء القصر.. أنا ... أخشى أنها هربت يا سيدي.
فأطبق ميلام على خناقه، و احكم قبضته عيه، حتى صار يجاهد في تنفسه، و هو يصيح عاصفاً بقسماته: لا يمكن لها ان تهرب، هل فهمتما؟... كلاكما المسؤول إن لم يأتِني خبرها هذه الليلة فسأقتلكما كليكما، هل هذا مفهوم؟
هز موران رأسه بسرعة، سيقول أي شيء ليتركه يلقف أنفاسه، و لما فعل ميلام و تركه، صاح و هو يمضي بسرعة: فلتذهب للبحث عنه حالاً، أريد أخباراً تسرني و إلا!
استنشق و جاهد موران في تلقف أنفاسه، حتى عاد لسحنته لونها، بعد أن أكتسى باللون البنفسجي المزرق.
أنت تقرأ
الهاربة والمفاتيح المفقودة
Historical Fictionفائزة بمسابقة اسوة بأفضل رواية لعام ٢٠٢٠. عن جارية أحضرها قائد الجيش هدية لملكته، فإذا بها تكون حفرة تجره مع مملكته نحو الضياع.