49

1K 95 76
                                    


كنتُ اجلِس على أحدِ الأسِرّة استمِعُ لأحدِ السُجناء و هو يَروي لنا لأوّلِ مرّة عن حياته

" لكن منذُ فرّقتنا الحربُ قبل سنواتٍ، لا يعرفُ أحدنا شيئاً عن الآخر، ونادراً ما نسمعُ أخبارَ بعضنا من الغرباء..
حتّى أبي لم يسأل عن أحد من أبنائهِ منذ سنوات، لكنّه حينَ افتتح دكّاناً صغيراً في منفاهُ صارَ يغيّرُ اسمها كل شهر.. كل مرة بإسمِ أحد أبنائه. "

ابتسَم مع تجمّع العبرات في عيونِه و قالَ بحشرجة " الدّكانُ الآن بإسمي.. هذا ما خبّرني بهِ أحد السُجناء الجُدد "

ربّت أحدهم بقوّة على كتِفه.. وتابعَ الحديث مفرغاً ما بصدرهِ من دموع
" أُمي أيضاً، أم العائلةِ الكبيرة التي تحبّ بعضها، ثلاثُ سنوات و لم تنبس بكلمةٍ تشكو بها لأحدٍ فَقدها لأولادها البَعيدين، تكتَفي بأن تُحيكَ المعاطِف الصّوفية الملوّنة و ترتيبها في الخِزانة و تقول" هذا لِحفيدي فُلان، و الوردي لِحفيدتي ابنةُ فُلان..
أمّي كتلةُ عاطفة تسيرُ على قدمين، جنّة على الأرض...
تفكّر للآن بتزويجِنا لنُنجبَ لها أطفالاً يلعبون حولها
لكنّها نَسَتْ!
نَسَت أنّ ارتبطنا بوطنِنا هو أشدّ من أيّ ارتباط
و أنّ الحربَ أنجبت لنا أطفالاً كُثر.. الأمل،المُقاومة، الحُريّة! "

صمتَ قليلاً و رحتُ افكّر..
لقد نسيتُ ملامحَ وطني على الضفّة
وأنا تناسيتُ ملامحي بجونغ كوك
لقد أنجَبت الحربُ لنا الكثير
ولكنّها أنجَبت لي صَبيٌ عاشَ بي.

" و حينَ ماتَ أخي، جاءنا الخبرُ على فمِ أحد المُعتقلين الّذينَ خرجوا... أخوكُم مات اليوم تحتَ التعذيب
استقبلنا الخَبر وتابعنا حَياتنا، حتّى أُمي أكمَلت حياكةَ المعطَف.. وأبي ذهبَ إلى عملهِ في نفسِ اليوم وكأنّ العائلة لم تنقص فرداً..ولم نُخبر أحداً إلى الآن بأنّ لدينا أخاً مات، وكأنّهُ سِر علينا ألا نبوح به حتى لأنفسنا! و ركزوا على أنفُسنا..

نحنُ عائلة كبيرة يجلِسُ أفرادُها في غُرفِهم الموّزعة في العالم، ويبحثُ كلّ منهُم في آخر الّليل عن سببٍ للبكاء..

تقولُ أمّي بعد أن اعتقلوا بِكرها ، و أحاوِلُ ألّا أسمعها، لكن يصلني من صوتُها عند الفجر :
" أريدُ رؤيتك.. ستنفجِرُ عيناي.. سينفجِرُ صدري "

فينفجِرُ قلبي! فتتناثرُ أمهاتٌ صَغيرات ضائِعات.. و أصيرُ خاوياً بلا قلب..

كانت تُحبُّ أن تنامَ لتراهُ في نومِها، و كانَت تراه،مرةً رأته صغيراً يركضُ حولها و هي تحوِل إيقافه لتمشّط شعره،
مرةً رأت نفسها تكسِرُ القُضبان وتشدّه بيدها لتأخذه معها بعيداً..
أحياناً كانت تستيقظ لتجدَ وِسادتها مبلّلة بالدّموع، و كثيراً ما استيقَظنا على ضَحكاتها أثناء النّوم
كانَت تنامُ كثيراً، كانَت تراهُ كثيراً، ويزعِجها حينَ يقطعُ نومَها أحد، كانت تُسرع بصُنع الطّعام، بتنظيفِ المنزل.. منتظرةً بلهفة أن تنام، أن تراه!
حين انتشَرت صورهُ، لم تَرها، لم تعلم بِموته، كانت نائِمة تراه، أخبروها بذلك لكنّها لم تُصدّق، لم يكُن يعني لها ما يَجري في عالمِهم، كانَت الحَقيقة دائما في منامها.

و في أحدِ الليالي ضَحكت كثيراً في نومها و نامت طويلًا، ولم يتمكن أحد من إيقاظها...
لم يتمكّن أحد..







و لم تستَيقظ






.

VK || 6:06حيث تعيش القصص. اكتشف الآن