-
وسط المزرعة الخلفية لدار شاهِر
تحديداً أمام تلك البركة البائسة كان يقف بوجه لا تتضح تعابيره يربع يديه أمام صدره ويتأمل كل شبر بتلك البركة يسترجع أبشع ذكرى له بطفولته..بل بحياته كلها
بالوقت اللي حاولوا أعمامه ينتزعونه مع هارون إبن السنتين من حظن أمهم
وكان راغب،يشهد الله بكل طاقته كان يبي يروح لبيت أبوه ويعيش بملك أبوه مثلما خُرص بإذنه بأن الولد ببيت أخواله مثل الضيف
كان ساخط ومعترض..أيبقى ويعيش طوال حياته كضيف هنا؟وبيت والده موجود!
صحيح بأن أبوه غير مبالي بهم وغير مهتم سواءً حضروا أو بقوا في حضرة شاهِر
ولكن ياسيّن كان مبالي جداً،ذاك اليوم اللي يحمل أبشع ذكرى بتاريخه
-
كان ببدايته سعيد وجداً يرتب أغراضه بفرحة طفل راجع لبيت أبوه، فرحة ناقصة بالطبع كون والدته لن تعود معه ولكن يبقى إسمها فرحة!
قبل يصدح بالمكان صوت بكاء هارون الحاد والمؤذي لطبلة الإذن مما تركه يستنكر فخرج يهرع ملبي لنداء أخوه تتبع أثر البكاء فأنتهى به واقف بالمزرعة الخلفية وهو محتجز بحضن جدته مودة يناظرون لتلك الي غادرها العقل وباتت كمجنونة وهي تنتفض بجزع ورفض:والله ما يأخذونهم مني،تفهم يبة ؟ عيالي لي يبة والله لو يأخذونهم لأموت من قهريكان يحاول يهديها ولكن خوفها والرعب ذاك اللي بسببه يغادر العقل تمكن منها ناظرت لياسيّن بنظرة لهذه اللحظة يتذكرها،نظرة خيبة الأمل
والحسرة والغضب صرخت بلوعة وهي تضرب صدرها بكل عنف:هذولا عيالي أنا يبة ، هو ماربى ماتعب ما سهر حتى هو ما تولع بهم ولا حبهم نصف حبي لهم يبة بأموت والله ، بأموت ولا أشوف اللحظة اللي بيأخذهم فيها مني وهم فرحانين
هي موقنة لو رحلوا لما عادوا لذلك إرتدت للخلف وهي ترمي نفسها بتلك البركة اللي هذه المرة كانت ممتلئة لآخر رمق فيها وهي ما تعرف السباحة تركت نفسها للموت وهي تدفع كل من حاول أن ينتشلها كانت فعلاً مغيبة من شدة قهرها ووجعها بعد طلاقها اللي ضيع رشادها بسبب توافه أمور وبعد واقع أخذه لعيالها ليربوا بعيداً عنها حتى شاهِر بنفسه قفز لأجل ينتشلها ولكن جنونها كان محتد وحامي بشكل مخيف جداً وكأنه تربصها شيطان فبث بها كل قوته، كانت تشهق تحاول أخذ نفس ولكن الماء من حولها يمنعها وعقلها الي يؤمرها بالخروج كان تخمد أوامره بمشاعر أمومية مخيفة فتتركها للتخبط كادت تقتل نفسها أمامه !!!وكان هذا أبشع حدث قد يعيشه طوال حياته
ركض وهو يرتدي الهلع كرداء لقلبه وقفز وهو يحتضنها بكل قوة،شيطان الرعب مقابل شيطانه هو تشبث فيها بكل قوته وهو يدفعها للأعلى بجسده الصغير وصوت بكاءه المحتد يعلى بالمكان وهو يهتف بجنون:يمة تكفين وش تسوين أنتي؟يمة والله ماعاد أروح معه وببقى معك طوال حياتي يمة لا تموتين تكفين لا تغرقين بسببي والله ماعاد أفرح أذا رحت معه ولا بروح أصلاًكانت تتلوى وبطبيعتها البشرية تبحث عن طريق للخلاص من هالموت وهي تحاول تتنفس ولكنها عاجزة سحبها شاهِر بصعوبة بالغة بسبب وزنها اللي يفوقه بينما ياسيّن كان يبكي هلع ورعب وجسده النحيل يرتجف كورقة في مهب ريح عاصرة وجهها مسود وشفاهها مالت للزرقة، دقائق
يالله والله كانت دقائق قليلة جداً كيف ممكن تنسلب فيها روحها بلمح البصر
كان يراقب جده اللي يرتجف لأول مرة والدموع تجمعت بمحاجر عيونه بينما جدته تبكي بفجعة وهي عاجزة تتحرك من الرعب
-
إنحنى شاهِر وهو يضغط على صدرها ويسوي لها تنفس إصطناعي أعاد الكرة مرة وثنتين وثلاث
وياسيّن يغطي وجهه بكفوفه ويبكي بكل قوة وهو يتمتم"يارب لاتموت، والله ماعاد أروح لأبوي،ببقى هنا طوال عمري،يارب"