P/36

1.5K 62 17
                                    

-
.
3:40 عصرًا ..
مستشفى الملك فيصل التخصصي ، مركز القلب و عنايته :
يمشي بهدوء بأحد مَمَرات المركز السفلية ، حول رقبته السماعة الطبيّة و بيدّه ماسك ملف يتصفحه بملامحه الباردة بعيونه اللي فضحت اهتمامه بمحتويات هالملف ، يناظر لآخر موعد حضره اخوه او بالأصح اخر مره دخلت فيها رجله للمستشفى كانت من شهر ! نزّل الملف وهو يخرج جواله من جيب اللابكوت و يرفعه ، تذكّر اخر موقف بينه و بين روّاف كان ذاك اليوم اللي طلب منه يعتذر لتميم .. من بعدها وهو ماشافه بسبب انشغال فيصل بدوامه و هروبه من البيت ، نزّل جواله يرجعه لجيبه كبريائه يمنعه يتصل عليه و يقول تعال اتطمن عليك و على صحتك ! او بحثي عن حالتك تعال اتابع حالتك ! .. استمر فيصل يمشي بخطواته داخل لأستراحة الموظفين ، كان يستمع لضحكات و سوالف زملائه كلما يقترب للباب .. فتح الباب و سكنت الاصوات تدريجيًا من دخل ، ناظرهم ببروده المعتاد بعيونه المرتخيه عليها اجفانه ببرود .. طاحت عينه على طلال الجالس على طاولة الإجتماعات الموجودة بمنتصف الغرفة ، معطيه ظهره و ما انتبه لدخول فيصل .. منزّل رأسه على ذراعينه فوق الطاولة ، هذا حاله من نصف ساعة ، استوعب الصمت اللي حلّ فجأة و التفت و فزّ واقف من شاف فيصل و نطق : فيصل ! .
اقترب فيصل للطاولة وهو يحط الملف فوقها و تجاهل طلال كعادته و اقترب للواكر " الخزائن الشخصية " فتح لوكره وهو يخرج مجموعة الكتب المتعلقة بأبحاثه و من ثم قفّله ، التفّ و طاحت عينه على طلال اللي لازال واقف و يناظره ، خطفه فيصل بنظره و من ثم تجاهله من جديد من ناداه طلال ، سحب الكرسي المتحرك وهو يجلس عليه و ينزّل الكتب بجانب الملف ، ضرب طلال بيده فوق الكتب و عين فيصل على يدّ طلال ، رفع عينه ببطء لطلال اللي نطق : لي ساعة اناديك ردّ عليّ ! .
فيصل بعّد يدّ طلال عن الكتب و مسك طلال يدّه وهو يشدّ عليها و يسحبه خارج من الغرفة ..
قفّل طلال باب الغرفة و بيده الاخرى ماسك يدّ فيصل اللي حرر نفسه من قبضة طلال ، طلال التفت له وهو يصدّه عن الباب و يقول : اصبر بكلمك ! ، ارتخى من شاف فيصل سكت وهو يناظره ، تنهّد طلال وهو يقول : عادي تجي معي برا شوي ؟ .
فيصل نطق ببرود ببحّة صوته : تراك طولتها و انا معطيك وجه .
طلال بجديّه و اصرار استغرب منه فيصل : فيصل ابيك ضروري والله ، كلمتين بس .
فيصل : وخّر عن طريقي .
طلال اشتدّت ملامحه و مسك يدّ فيصل وهو يمشي فيه شادّ عليه لا يفلت منه .. سحبه حتى خرجوا من المركز و هبّ عليهم براد المطر القريب .. فيصل حرر يدّه من طلال وهو يقول : اكسر لك يدّك الثانية ؟ و لا هالمرّة رجلك ؟ .
طلال الواقف امام فيصل مباشرة بملامح جادّة وضح عليها قليل من التوتر ، تجاهل كلام فيصل كلّه و نطق بارتباك يحاول يخفيه : دكتور علي كلّفني اقولك .. من امس افكّر بالطريقة المناسبة عشان اقولك بس مالقيت الّا اني اواجهك ، ابتلع ريقه بتوتّر و عينه على فيصل اللي مشتتّ نظراته بالارجاء و متكتّف و مطنشه ، حتى جذب انتباهه بالكلمات اللي نطقها طلال : ابوك .. ابوك موجود من فترة مركز الاورام ، ابتلع ريقه بتوتّر اكبر من انتبه له فيصل و أردف : حسب النتايج هو مصاب بسرطان الدم من الدرجة الرابعة ..
صمت طويل مرّ مابينهم و رياح المطر لفحتهم اثناء نظر فيصل لطلال اللي شتتّ نظراته وهو يشتم نفسه بداخله على طريقته الغبية بنظره ، رجع طلال يرفع عيونه لفيصل اللي يناظره ببرود و نطق فيصل : مين قال لك ؟ و وش دخّلك اصلًا ! .
طلال بعد تردد مسك معصم يدّ فيصل بشدّه قبل يسحب فيصل يدّه منه ، ابتلع ريقه و نطق بجديه : فيصل تعال نشوفه .. تراه من ايّام محد جاه ! .
فيصل : انت وش دخلّك ؟؟ و على ايّ اساس تبيني اجي وراك .. تراك معطي نفسك اكبر من حجمها .
طلال بجديّه سحب فيصل له وهو يقترب من اذنه و يهمس بكلمات قلبت موازين فيصل اللي شتتّ نظراته يحاول يحافظ على بروده , طلال عرف كيف يلمس قلب فيصل بكلماته و يكسر كل حواجز البرود اللي تطغي عليه ، ابتعد عنه وهو لازال ماسك معصم يدّه و التفّ وهو يمشي فيه بهدوء متجه لمركز الاورام ..
مشى فيصل معه و تفكيره لا زال بالشيء اللي همس له طلال ، ناظر بطلال اللي يمشي معه و نزّل عيونه ليدّه اللي لازالت ماسكه معصمه ، رفع عينه لطلال وهو يفكّر بينه و بين نفسه .. وش الشيء اللي يخلي هالانسان عارفه و عارف نقاط ضعفه و قوته ؟ وش الشيء اللي يخليه يصرّ عليه دايمًا برغم اذية فيصل له ؟ شدّ لا شعوري على قبضة يدّه و تخلله ذاك الشعور؛شعوره مع غالب ببداية علاقتهم .. تسلل الخوف قلبه؛خاف يتكرر ذاك الماضي لو اعطى طلال مجال انه يدخل حياته .. سحب يدّه بقوة من طلال،انفاسه بدأت تضطرب و عينه على طلال اللي وقف وهو يناظر بعيونه .. قرأها بكل سهوله؛عايش معه 11 سنة يعرف حالاته كلها ! يعرف الخوف وقت مايكون بعيونه ، يعرف انه بهاللحظة متوتّر يعرف انه بهاللحظه بارد فعلًا او مايهمه احد ، نطق : انا طلال ، طلال مو غالب يا فيصل .. لا تعطي الخسيس اكبر من حجمه و تشوف الدنيا كلها فيه ! ، مدّ يدّه و مسك يدّ فيصل بشدّه : انت الخسران اذا لازلت تبعد نفسك عن الناس بسبب شخص ماعطاك قدرك .. فكّر باللي يحبونك و يمشون وراك برغم كل شي .. مثل سيّاف او .. مثلي انا ! .
صدّ يمشي يكمل طريقه تارك فيصل اللي ارتخت قبضة يدّه اللي تقشعرت حتى وصلت قشعريرتها لقلبه اللي ارتجف ، شتتّ نظراته كاره و بشدّه شعوره و قلبه اللي تحرّك .. رغب بهاللحظة لو انه يطرح طلال على الأرض و يضربه لين يشفي غليله ..
.
.
وقفوا امام غرفة عبدالله ، الارتباك وضح على ملامح طلال اللي التفت لفيصل اللي يناظر بالباب بصمت ، تنهّد طلال و نطق وهو يمسك مقبض الباب : ما يشوف شرّ و ألف لا بأس عليه .. انا انتظرك تحت ، فتح الباب لفيصل و مشى بخطوات سريعة خارج من المكان و هو يلتفت يناظر لفيصل اللي لازال واقف امام الباب ..
لازال واقف امام الباب عينه على ابوه طريح الفِراش .. بغرفة صغيرة بأربع جدران بيضاء بالكامل بلا لون يضيف لها حياة .. خطت خطواته للداخل ، مع كل خطوة يخطيها فيصل يفزّ عبدالله متحرّك من سريره يرفع ظهره بصعوبه وهو شادّ على نفسه بيده المرتجفة اللي ماسك فيها دعّامات السرير .. ينطق بصوت مرتجف مهتزّ : فيصل ؟ .
حتى وقف فيصل امامه تمامًا .. رقت عينيّ عبدالله وهو يشوف فيصل بـِ لباسه الطبّي ، وكأنه لأول مرّه يراه فيه ، بدأ يستوعب الأشياء من حوله مع تأخّر الوقت و اقتراب يومه .. ارتسمت إبتسامة باهته مرتجفة على شفتيّ عبدالله ، ابتلع ريقه برجفه و نطق بنبرة صوته اللي اضمحلت خشونتها : ولدي فيصل ! .. ، تقوّست شفتيّه بخفّه و عضّ عليها وهو ينطق بصوت مرتجف : لا تجافيني يا فيصل .. معك انا مقصر كثير ، لكنك اقلّهم شرهة و عتب عليّ .. اسندني يا ابوك ، اجتاحت الغصّة نطقه وهو يقول : انا مابي منك الّا قرب يشفيني .
اقترب فيصل بخطواته الهادئة بنظراته الباردة اللي ما حطّها ولو للحظة بعين ابوه ، مسك ذراع ابوه المكشوفة وهو يناظر للكدمات الحمراء الموجودة بأماكن مختلفة على جلده ، مسك كفّ يدّه يناظر لإزرقاق اطرافها ، تحسسّ برودة جلده الواضحة ، مررّ ابهامه على كفّ يدّ عبدالله .. تحسس شحوب جلده ، ارخى يدّ ابوه و رفع عينه لملامح ابوه ، مدّ يدّه ماسك وجه ابوه و ابهامه على خدّه ، يتحسس جفاف بشرته خصوصًا حوليّ فمّه و شفتيه المتجرّحة بوضوح .. نزّل يدّه لرقبة ابوه يتحسس مكان غدده اللمفاوية ، واللي وضح له تضخّمها بشدّه مما اثرت على ملامح وجهه ، نزّل يدّه لذقن ابوه المنتفخة غُدده ايضًا ، ابعد يدّه يناظر بعيون ابوه .. سلّط نظراته الباردة على عيون ابوه ، نظراته اللي تحمل الف خيبة و تساؤل .. تنطق احداقه قائله : وينك يا يبه ؟ .. وينك يوم الدنيا عذبتني ..
عبدالله ارتخى ظهره على السرير بعجز انه يتحمل ثقل جسده خصوصًا بعد تعبه الشديد بآخر ثلاث ايام ، نزلت دمعة من عينه على خدّه الايسر وهو يناظر بعيون فيصل ، مسك بيده الباردة يدّ فيصل وهو يقول بصوت مهزوز : سامحني .. سامحني مابيدي حيلة اعوّضك سامحني ..
ابتسم فيصل مستهزئ وهو يناظر لأبوه و يقول : اعرف شعور كيف انك تكرهني و انا ولدك ، لأني جربته و جربت كيف انك تكره شوفة ولدك من كل قلبك .. كيف تبيني اسامحك على شعور مثل هذا ؟ .
عبدالله ابتلع غصّته و سكت بفمّه اللي يرتجف بحروفه اللي تناثرت وسط حلقه مو عارف كيف يرتّبها .. شدّ على يدّ فيصل وهو يقول : الأب عمره ما يكره عياله .. هذي حقيقة ما ادركتها الى ان وصلت هالمكان .
فيصل بأستهزاء : لا غلط ، انا اكرهها و اكره اللي جابني .
عبدالله ابتسم برجفه وهو ينطق بصوت مبحوح : مهما كان .. مهما قسيت .. الدمّ يبل ريق القلب و يفزّ ، ارتجف صوته وهو يقول : اكرهني مثل مابغيت .. بس بنتك لا تعيشها اللي عشته ، شدّ على يدّ فيصل اللي حاول يسحب يدّه : سامحني خلني اموت مرتاح .. طلبتك يا فيصل طلبتك يا ولدي ، غمّض عيونه يبكي بصمت .. فتّح عيونه على نظرات فيصل اللي ماتحرّك فيه شي ، نطق عبدالله بصوت مهزوز : اجمع لي اخوانك ، خلني اتحللّ منهم .. تكفون خلوني اموت مرتاح خلوني اعيش لحظة من عمري هنيّه معكم ! .
فيصل سحب يدّه من ابوه و استقام بوقفته ، سكت لثواني و عينه على عبدالله اللي يبكي بصمت ثم همس ببحة صوته : اذا انت على كبر قساوتك و ظلمك ندمت .. يعني انا بندم بيوم ؟ .. ، ابتلع ريقه ثم ناظر لأبوه : نفس ماعيشتني بقلق طول عمرك ، نفس ما خليتني احتاجك بكل لحظة ، نفس ما كسرتني بكل وقت بغيتك فيه ، ماراح اعطيك اجابتي سامحتك او لا .. عيش ربع اللي عشته يا .. يبه .
صدّ خارج من الغرفة تارك ابوه خلف ظهره ..وقف امامه علي اللي تنهّد وهو يقول : فيصل ارفق على ابوك يا فيصل .
تجاهله فيصل و اكمل خطواته خارج من المبنى ..
-
مرّت ساعة ..
امام العيادات الخارجية ، تحديدًا جهة بوابة الطوارئ الواسعة ..
يصعد الدرج بخطواته الهادئة برفقة قدمه الثالثة " عصاته " و اللي اصبحت جزء لا يتجزأ من مظهره .. برغم شفائه من إصابته بنسبة 90٪ واستطاعته للمشي بشكل كامل لكن اصبح يعتمد عليها بعد ما تعوّد و حبّها .. بثوبه الأسود القاتم، بدون شيء يغطي رأسه تارك شعره مكشوف يلعب فيه الهواء ، رفع رأسه للسماء اللي بدأت تتشكّل اطراف النهار فيها سامحه لبدايات الليل بالحلول ..
التفت للي بجانبه يمشي لطلال اللي يسولف عليه وهو يقول : كنت ابيه بشغله مهمه .. و انت عارف عناده و كيف انه مايسمح لأحد يُملي عليه او يأمره بشيء خارج نطاق عمله ، يمثل بروده و لامبالاته و..
روّاف ابتسم و رفع حاجبه وهو يصعد اخر عتبه : غريب ! فيصل يسمح لك تعرفه لهالدرجة ؟ .
طلال ضحك : طبعًا لا ، لكن معك شخص معاشره من 11 سنة .. و تقدر تقول ، همس مازح وهو يقرّب لروّاف : مهووس بحياة فيصل و تفاصيله ، ابتعد واعتدل وهو يقول بإبتسامه ويدينه خلف ظهره : صح انه مو سامح لي اقترب منه بس مايمنع اني احفظ اقل معلومة تخصه .
روّاف ميل فمّه وهو يهزّ رأسه من فوق لتحت بخفّه ، أردف طلال : المهم ف هو رفض كعادته بعناده و كبريائه .. لكن اقنعته بطريقة وحدة ، عقد روّاف حاجبيه و ابتسم طلال وهو يأشر على روّاف : انت طبعًا .. لأنك الشيء الوحيد اللي مشغل بال فيصل هالفترة ، ماتصدق وش كثر يقلّب بملفّك و حالتك بالساعات ، ضحك بخفّه : اساسًا لي يومين اشوفه هنا واضح انه مارجع للبيت ، ناظر لروّاف اللي مسك ابتسامته و أردف طلال : فـ استدرجته بهالطريقة ، قلت له بقنع روّاف يجي يكمل ويحجز مواعيده و يسوي تحاليله .. ماتصدق كيف سحبته بكل سهوله من وحل كبريائه ! .
روّاف اللي ماسك ابتسامته : لهالدرجة يحبّني ؟ .
طلال ابتسم و اكتفى بالصمت ، سكت ثواني ثم نطق بملامح جديّه : هو حاليًا داخل هنا ، يهرب للطوارئ وقت مايتضايق ، يمسك اغلب الحالات و يتعامل معها بشدّة لكن شدّته تنفع بأعجوبه ! اقولك هالانسان انا معجب فيه و بشخصيته و بقدراته و..
قاطعه روّاف : وينه الحين ؟ .
طلال اشر على البوابة : تحصله داخل عند طوارئ البالغين ، وقتها هو عنده كلام بيقوله لك .
عقد روّاف حاجبيه : انا ؟ وشو ؟ .
طلال طبطب على عضد روّاف وهو يلتفّ بيمشي فيه : الموضوع عنده تعال نشوف ..
مشى روّاف معه خطوتين بصمت ثم وقّف وهو يحطّ يده على صدر طلال و يطبطب عليه وهو يقول : هنا انتهى طريقك يا ... ذكرني بأسمك ؟ .
طلال همس مصدوم يحاول يخفي صدمته : طلال .
روّاف رفع حاجبه : اي اي طلال ، خلني انا و اخوي اتفاهم معه ، ماقصرت حبيبي .
التفّ داخل بعد ما سمحت له البوابة الأوتوماتيكية و انفتحت اثر اقترابه لها ..

بين الحنان ونبضة البعد منصاب   قلبٍ تعلّق في سرابك و زاحه..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن