P/54

412 48 32
                                    

-
-
يا مقبل الأيّام ماعاد بي حيل
من وين اجيب لباقي العمر رغبة ؟
.
.
آناء الليل ..
ليلة ذات نسمة هبوب دافية ، راح ذاك البراد اللي يلفح الضلوع ، و جاء مكانه دِفء يخفي خَلفه قيظ الصّيف ، قيظ الصيف اللي هالسنة يستمدّ طاقته من قلب روّاف المحروق ، داخله الحارّ من شدّة الضيق و حرقة القهر ..
خرج لبلكونته بهدوء بِـ رِفثة عصاته ، و اغلق نوافذ البلكونة خلفه لأجل ان لا يذهب هواء المكيّف البارد خارج الغرفة و يدخل الهواء الساخن فيزعج دُنا النائمة بهدوء على سرير روّاف الواسع .. ، مشى خطواته حتى وصل للسّور و سند عصاته عليه ، و هو ارخى راحتيّ كفّيه على السور الدافىء ، عيونه تناظر للسماء المُظلمة الواسعة امامه .. اذانه تسمع اصوات مرور السيارات بالشوارع الرئيسية المجاوره و اصوات ابواقها ، انفه يستنشق رائحة الهواء الساخن ، و يديه الباردتين تستشعر دفء حرارة بناية السور .
بهالوقت ، استرجع احداث يومه " الموجع " كالعادة .. من فترة طويلة و روتينه هو روتين مضاعفة ألمه بشتّى الاشكال ، امًا سماع كلمات موجعه ، أو رؤية تصرفات غير متوقّعة ، أو التفكير بأسوأ الاحتمالات أوّلها " إنتظاره ليومه وهو ما عاش مع اخوانه ولا شبع منهم " ، ماينكر ، صار يخاف ! يخاف تمرّ هالأيّام اكثر و كل يوم يزيد الصَدّ مِن مَن حوله من قراب ، صارت فكرة الموت تُخيفه .. تدريجيًا تَقل رغبته بالموت قبل يشبع من احبابه ..
بدأ يفكّر فيهم ، بمشاعرهم لو راح .. مين فيهم بيتدمّر اكثر ؟ وش نهايتهم ؟ يلحقونه بيديهم ؟ او ينتظرون يومهم بألم تركه روّاف يكبر بداخلهم كل يوم ..
شدّ روّاف على قبضة يدّه بِلا شعور منّه و ابتلع غصّته اللي تشكّلت وسط حلقه تضع بصمتها بحلقه بعد ما بصّمت الغصة بقلب روّاف .
فتح فمّه بخفّه و سحب نَفَس طويل نَفخ صدره ثم زفره بهدوء يصاحبه المه المُعتاد مع كل تنهيدة ، يقيده حتى من الراحة اللي هي ايضًا تتعبه .

صارت تُخيفه فكرة الوِحدة ، الوِحدة اللي ذاقها بمُرّها الشين ..
برغم كل هذا ، فكرة الموت لا تزال تُسيطر على اكبر جزء من تفكيره ..
فكرة التحاقه بأمّه لا تزال هي رغبته و مُنياه ..
برغم ارتعابه من فكرة الابتعاد عن اخوانه ، لكن لا يزال مُغيّب عن الوعي بالحقيقة و الواقع ، لا يزال عايش بذيك السنوات قبل 12 سنة ..
الدنيا مالها لون و لا لمذاقها حلو من فراق أمّه ، زادت مرارتها و أسّود لون ايامه من بُعدهم عنّه ..
لكنه .. لكنه مافيه حيل يعيش اكثر ، بكل ليلة يستثقل هَمّ نهوضه بالصباح ، يفكّر هل هو بيفتح عيونه من جديد ؟ ولا ربّه بيقول لمُنيته كوني فتكون ..
غمّض عيونه بتعب من الصراع اللي يهشّمه بداخله ، ابتلع ريقه بمرارة ثم نطق بتنهيدة واسعه :
يا مقبل الأيّام ماعاد بي حيل
من وين اجيب لباقي العمر رغبة ؟
.
.
شَدّ روّاف على اجفانه و ارخى راحة يدّه فوق صدره ثم تدريجيًا بدأ يشدّ بقبضة يدّه ملابسه من شدّة الضيق اللي ضغط عليه و على صدره ..
رصّ على اسنانه بشدّه ، الآمه تتنافس بداخله مين ينتصر هالليلة و مين اقوى ! وجع مرضه ولا وجع روحه ..
فتّح عيونه بدأ يشعر باللاشعور ، بدأ يشعر بِـ ثُقل اكتافه و ظهره عليه ، بدأ يشعر بتلاشي الشعور لساقيه اللي اصبحتا أكثر ثُقلًا ، مسك عصاته استند عليها و التفّ ماشي بصعوبه مُتكئ بكل ثقله على العصا .. فتح نوافذ البلكونه الواسعه يخطو خطواته و تعثّر بالقطعة السفلية للنافذة و سقط على الأرض على وجهه متوجّع غمّض عيونه عاضّ على شفته السفلية بقوّة يقاوم الآمه اللي تتصارع بداخله ايهم الاقوى ، نزف الدمّ من شفتّه اللي عاضّ عليها من شدّته عليها و امتزج طعم ريقه بطعم الدَمّ المَرير ، الدَمّ النازف بشدّه من شفايفه واللي سال على دقنه .. رافقه رعاف انفه اللي بدأ يشعر بالدَمّ يسيل منه و يتخلل شعر شنبه و يشعر بِـ برودة ذلك السائل ..
اقتلب على ظهره منسدح على أرضية الباركية الباردة ،تأوّه من الألم اللي قبض كل عظمة بظهره و ارخى نفْسه و نَفَسه تدريجيًا سامح للألم يعبر بشكل تدريجي لا دفعة واحدة تُهلكه .. ارتخى بأكمله على الأرض و يدّه اليمنى ارخاها على صدره تحسبًا لأي قبضة ألم من قلبه اللي قد يغدر فيه فجأة ..
الاصوات صامتة من حوله ، لا يسمع سِوى نَبض قلبه اللي يُنبِض جسده بأكمله و ينبض بكل خلية فيه .. ابتلع بمرارة ريقه المُمتزج بالدّم و شدّ على غمضة اجفانه يحاول يضاعف قدرته على التحمّل ..
ارخى شدّة اجفانه و زفر نَفَس مُختل مرتجف .. بدأ يفقد الإحساس بجسده و ابتسم بخفّه من نشوة الشعور اللي خالجه و كأنه تحرر من الألم للحظات .. و من ثم غاب عن الوعي تمامًا .
.
.
دخل ثنيّان للبيت بخطوات مُترنّحة مُتثاقلة تارة على القدم اليمنى تصبّ ثقلها و تارة على القدم اليسرى ، اغلق الباب خلفه بقوة سمع صوتها كل من بالبيت .. اكمل خطواته المُتثاقلة لجهة المُلحق الخارجي ، اكمل خطواته بضياع يمشي بِلا وعي ، عقله اللاواعي واللي اعتاد على الطريق هو من يُرشده ..
للتوّ سارة خرجت تطمئن عليه ، و من سمعت صوت ضربة اغلاق الباب فزّ قلبها و اسرعت بخطواتها و هي تقول اثناء مشيها : هذا انت ثنيّان ؟ وينك فيه يا ثنيّا .. ، سكتت و احداقها توسّعت متحركة تنظر لهيئة ثنيّان و حركته المُريبة .. جسد يتحرّك بثُقل و ترنّح ، ماوضحت لها ملامحه بسبب ظلمة الحوش و بـ ردّة فعل سريعه اقتربت للجدار اللي جنبها و هي تتحسس بيدها مفاتيح لمبات الحوش ذات الإضاءة الكريمية ، ارتجف صوتها اللي خرج من جوفها المرعوب : ثنيّان !! .
اسرعت بخطواتها لجهته و من وضحت لها ملامحه شهقت واضعه يدّها على صدرها و عينها على ثنيّان الواقف بمسافة قريبة منها ..
أجفانه مرتخيه بـ ثقل على عيونه تُظهر نِصف بؤبؤ عينه فقط ، ثوبه الأبيض تلطّخ بِـ بعض بُقع الدَمّ ، قلّاب ثوبه مفتوح و ازارير ثوبه العلوية مفتوحه و ظهرت فنيلته الداخلية واللي هي ايضًا وضح عليها اثار الدَمّ ، شعره مُبعثر بعشوائية شديدة و وجهه وضحت عليه الكدمة اعلى عينه اليُمنى ذات اللون البنفسجي المائل للأزرق .. عيونه محمرّة وكأنها تنزف دم من شدّة احمرارها !
ارتجفّ فَكّ سارة اللي عجزت عن اغلاق فمّها و شهقت شهقة مرتجفة و نطقت بصوت مهزوز : ثنيّان .. ، شهقت بخفّه و اقتربت لثنيان خطوتين لكنها وقفت مُتخشّبة مكانها و توسّعت احداقها بشدّة من الرائحة الغريبة اللي شمّتها من اقتربت له .. غطّت فمّها بيدّها و عيونها المتوسّعة احداقها تنزف دَمع بِلا شعور .
ضحك ثنيّان و نطق بصوته الخشن وهو يرمش ببطء : وش فيك وقفتي ؟ ، استمرت الابتسامة المخيفة على شَفَتيه و اقترب لسارة اللي ما تحرّكت مكانها تحاول تستوعب ، تلاشت ابتسامة ثنيّان و اقترب لها بنظرة و ملامح مُخيفه ، مدّ ذراعه جهتها و هي ماتحرّكت ، كانت واثقه انه ما بيأذيها واثقة ان فيه شيء غلط بالموضوع ! لكن خابت ظنونها ..
شدّها بقوّة من شعرها المربوط و سحبها مقرّبها له بقوّة و هي شهقت باكية تحاول تكبح شهقاتها مُغمضة عيونها ماتبي تشوف وجهه حابسه انفاسها ماتبي تصدّق اللي تشوفه و تسمعه و .. تشمّه ! ..

بين الحنان ونبضة البعد منصاب   قلبٍ تعلّق في سرابك و زاحه..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن