ولو بعد حين، الفصل الخامس عشر.
وصل يوسف إلى بيته أخيرا بعد نهار عمل طويل ليجد والدته تجلس على الأريكة في شرود تام.
يوسف: السلام عليكم يا أمي.
يمنى بشرود: وعليكم السلام يا حبيبي، حمد لله على السلامة، أحضرلك الغدا؟
هتف موافقاً: ماشي يا أمي أنا أصلا هموت من الجوع.
قامت وهي تقول: حاضر يا حبيبي على ما تغير هدومك يكون الغدا جاهز.
تركته ودخل ليبدل ملابسه ثم تذكر فجأة أنه نسي أن يبلغ ليلى الرسالة التي ذهب ليبلغها لها.
هب خارجا وهو يقول: مش مهم غدا يا أمي أنا خارج مشوار مهم وجاي على طول.
لم يسمع صوت أمه التي كانت تناديه وخرج مغلقا الباب وراءه ليلحق بمشواره.
..................
كان عمرو يجلس في زنزانته شاردا يتذكر يمنى، فهو للعجب لم يفكر في القضية التي قُبِضَ عليه بسببها وكان كل تفكيره في يمنى.
هل هي صدفة أن تكون حبيبته يمنى، وأم يوسف أيضا يمنى؟
هل هي صدفة أن يكون الاسم الذي اعتاد أن يطلقه عليها هو نفسه الاسم الذي يدللها به ابنها مبررةً أنه عزيزٌ عليها.
وهل هي صدفة أن يكون يوسف يشبهه بهذا الشكل؟
كيف يكون هكذا؟
لا بد أن يتحدث مع يوسف ويعرف منه أكثر عن هذا الأمر.
لماذا يقول أن والده لا يعامله معاملة طبيعية؟
هل هو ابنه؟
لا، لا، غير معقول، عندما طلق يمنى لم تكن حامل.
أرجع رأسه إلى الوراء مسنداً نفسه إلى الجدار وتذكر يمنى.
فلاااااش باك.
كان نهار عملٍ طويل كان يحاول فيه أن يثبت لوالده أنه جديرٌ بالمشفى التي أهداه إياها في بداية تخرجه.
لكنه كان يفكر في يمنى، يمناه التي تركها اليوم في حالة إعياءٍ شديد.
كيف حالها يا ترى؟
لم يستطع البقاء أكثر فجمع حاجياته وترك المشفى ذاهباً إليها.
لقد جعلها تترك العمل في البيت واستأجر لها شقة بصيطة في مكانٍ بعيد، حتى لا يعرف أحدٌ بعلاقته بها.
ليس خوفاً من والده ووالدته بل هو يخافُ عليها.
يعلم جبروت أبيه وأمه.
يعلم أنهما إن عرفا لقتلاها.
تنهد سارحاً بأفكاره لليوم الذي سمع فيه بالصدفة حديثا دائرا بين أمهِ وأبيه بشأن يمنى.
هنية باستغراب: أحمد أنا شايفة إن البت الخدامة الي اسمها يمنى دي لازم تمشي من هنا.
أحمد باستغراب مماثل: ليه كدة يا هنية؟
هي البت دي مدت إدها على حاجة.
هنية: لا، بس أنا حاسة كدة إنها بتحاول تلفت نظر عمرو بحركات مايعة، وحساه كدة بدأ يلتفت ليها.
أحمد بعصبية: انتي بتقولي إيه. عمرو مين دا الي يتجوز خدامة دا والله ما يكفيني موتها.
هنية بقسوة: لا موت إيه، الموت راحة ليها، إلي زي دي نفضحها في البلد كلها ونخليها عِبرة لمن يعتبر.
أحمد بموافقة: صح كدة وبعد الفضيحة دي بقا هنخليها زي الخاتم في صباعنا يمين يمين، شمال شمال.
بقولك إيهيه: رقبيها كويس قوي ولو ااتأكدتي إن فعلا عمرو ابنك حاططها في دماغه عرفيني وأنا أتصرف.
اكتفى بما سمعه وعزم وقتها أن يبعدها عن هذا المكان الذي أصبح يمثلُ خطراً عليها فتجنبها في الأيام التالية تماما حتى ظنت أنه قد مل منها ثم استغل غياب أبويه في مناسبة اعتذر هو عنها بداعي االعمَل وذهب إليها.
كانت تعمل بجد واجتهاد، لا تعلم لما أصبح البيت كله يعاملها باحتقار، فأحمد يهينها لأتفه الأسباب، وهنية تكلفها بالكثير من الأعمال، ولا يعجبها ما تقوم به، ووصلت أنها ضربتها، آه لو كان لها مكاناً تذهب إليه، فبعد موت أمها مريضة في العام الماضي تركها والدها في عهدة من كانت تخدم أمها عندهم وذهب ولا تعرف عنه أي شيئ.
وعمرو، آه من عمرو، زهدها ومل منَها بعدما أظهرت له حبها؟
هو من اعترف لها أولاً.
هو من شجعها فكيف يتركها هكذا؟
كانت شاردة تماماً فلم تلْحظ دخولِه عليها حتى وجدت من يضع يده على كتفها من الخلف.
انتفضت من مكانها والتفتت بسرعة إلى الخلف على صوته الذي اشتاقته وهو يهتفُ مُطَمئناً: يمنى، حبيبتي ما تخافيش، دا أنا عمرو.
أشاحت بوجهها عنه في حزنٍ فأمسك بذقنها مجبراً إياها على النظر إليهِ قائلاً: بتبعدي وشك عني ليه يا يمنى؟
انتي زعلانة مني؟
هتفت هي بحزن وهي تحاول أن تبتعد عنه دون أن يسمح لها: لا مش زعلانة. هو انت عملت حاجة تزعل؟
هتف هو بصوته الواثق: أنا عارف إنك زعلانة مني وفاكراني ما بحبكيش، لكن مش وقته خالص الكلام دا، يمنى إحنة لازم نمشي من هنا، لازم يرجعوا ميلاقوش ليكي أي أثر.
يمنى بخضة وقد توقفت عن مقاومة يده الممسكة بذقنها: نمشي من هنا! ليه؟ هو أنا عملت حاجة؟ أنا ما عنديش مكان تاني أروحه.
قاطع استرسالها هاتفا بسرعة: مش وقته يا يمنى، لمي هدومك وتعالي معايا، وأنا هفهمك على كل حاجة وإحنة في الطريق.
وبالفعل تحقق له ما أراد ليتزوج بها ويستأجر لها شقة بعيدة عن الأنظار.
توقفت أفكاره عند هذه النقطة وهو يضع المفتاح في قفل الباب لينفتح مصدرا صوتا يدل على أن الحياة قد توقفت في هذا المكان.
انقبض قلبه بشدة وهرول إلى داخل الشقة منادياً: يمنى، يمنى، يمنى.
بحث عنها كالمجنون في أرجاء الشقة فلم يجدها.
فتح الدلاب ليجده خاليا من ملابِسها.
فتح الأدراج ليجدها خالية من النقود التي كان قد تركها هنا سابقا.
فتح الدلاب مرةً أخرى باحثا عن الذهب الذي قد اشتراهُ لها كشبكة فلم يجد شيءً.
جلس على الأرض واضعا رأسه فوق يده حتى انتفض من مكانهِ مستنكِراً باحثاً عنها مرةً أخرى.
أخذ يدور في المكان كالمجنون دون أن يجد لها أثراً.
لمح ورقةً مطويةً بعِناية لم يلمحها أثناء دخوله العاصف، فضها ليصدمهُ محتواها.
عمرو، حبيبي، عارفني، أنا يمنى.
أيوة يمنى الي خدعتك.
أنا الي استغليت حبك واتجوزت واحد مغفل زيكخدعته وخدت منه كل فلوسه، آه أنا أخدت االدهب كمان مش كنت جايبه ليا هدية، شكرا يا حبيبي أنا أخدته معايا وأنا ماشية.
آه صحيح، لو راجل وعندك كرامة طلقني علشان انت أكيد مش هترضى تسمع كل يوم عن مراتك وهي في حضن عشيقها، أيوة كل الي حصل دا كان بالاتفاق مع عشيقي عبد الله، فاكره؟ البواب الي بيشتغل عندكوا في الفيلة. يعني هتروْح مش هتلاقيه.
ما تعرفش مامي وبابي بقا بدل ما ياشمتوا فيك ويقولوا لك بقا حتة عيلة خدامة عرفت تضحك على عمرو الي مقطع السمكة وديلها.
خسارة الرجالة يا روحي.
مزق الورقة إلى أشلاء متخيلاً نفسه يمزق رقبة يمنى بيديه وزأر كالأسد المحبوس االذي لا يقدر على شيئٍ إلا السراخ.
عاد من أفكاره أخيرا على حالهِ في زنزانتهِ الضيقة متنهداً بمرارة تشبهُ مرارةً قراءة الورقة لأول مرة.
نفس المرارة لا تتغير.
نفس االطعنة وكأنها تتجدد كل يوم.
يستعيد نفس الصور التي وصلت له عن يمنى وهي في حضن عشيقها عبد الله الذي بحث عنه طويلا دون أن يجده.
تذكر اضطراره لتطليقها بعد ما أجبره أبوه الذي علم بما حدث من مصادرها التي لم يسأل هو عنها وقتها.
آه يا يمنى.
ليه بتخليني أحبك وبعدين تعملي فيا كدة؟
ليه بتعلقيني بيكي طالما ناوية تسبيني؟
آه يا يمنى. آه.
فُتِحَ الباب في هذه الأثناء ليسمع صوت العسكري مخاطباً: دكتور عمرو الألفي.
قام من مكانه بتكاسل فهتف العسكري: هم يا أخويا علشان تروح النيابة.
مش ناقصة دلع هي.
وضع الحديد في يده وتقدمه خارجا إلى مصيره المجهول في جريمة لم يرتكبها.
..................
خرجت سندس من غرفتها على صوت والادتها العالي وهي تخاطب يوسف الذي لم يسمعها فقالت: هو يوسف كان هنا ولا إيه يا ماما؟
يمنى وهي تخرج من الخطبخ: اَلواد دا أنا مش عارفة هو طالع مشعوف لمين! الواد يا دوب دخلت وسبته فجأة مالقتوش.
هتفت سندس بضحك: يوسف يا ماما. يعني هي أول مرة يعمل فينا الحركات دي؟ ومش هتكون آخر مرة بالمناسبة يعني. تلاقيه نسا حاجة وافتكرها وراح يعملها قبل ما ينساها تاني.
هتفت يمنى باقتضاب منهية الموضوع: جايز.
ثم هتفت بحزر: سندس، انتي عايزة تتجوزي عزيز دا؟
سندس برفض تام: لا طبعا يا ماما. عزيز مين دا الي أبص له.
مش بقلل منه والله، بس هو كداب وضحك على البنت الغلبانة الي يا عالم عمل معاها إيه دلوقتي.
دا غير إنه وبعيدا عن أي حاجة هو عايز يشتريني من بابا بالفلوس، ودا يخليني ما آمنش على نفسي معاه.
يمنى بدعم: صح كدة يا حبيبتي، خليكي متمسكة برأيك دا قدام أبوكي وأنا هدعم موقفك لآخر لحظة.
في هذه الأثناء دخل عبد الله من الباب قائلاً: السلام عليكم. مافيش أخبار عن حبيب القلب يا يمنى؟
هتفت سندس مدعية الغباء: حبيب القلب مين يا بابا؟ انت تقصد يوسف؟ هو لسة مجاش. تقريبا لسة عنده شغل.
تجاهلها عبد الله قائلا ليمنى: تعالي معايا جوة أنا عايزك.
قامت يمنى من مكانِها قائلةً: حاضر، لما نشوف آخرتها إيه.
تجاهل قولها وتقدمها إلى غرفتهما مغلقاً الباب وراءهما قائلاً بعصبية: بقولك إيه يا ست انتي، انتي لازم تعقلي بنتك كدة وتخليها توافق على عزيز وإلا قسما بالله لا أعرف ابنك كل حاجة وأقول له هو يبقا ابن مين وليه أبوه سابه وإيه الي عرفه عن زوجته المصون خلاه يسيبها.
وآه ما تنسيش إن في ورق ومحاضر يسبتوا كلامي، وابنك بقا محامي شاطر وهيقدر يوصل لهم بسهولة.
هتفت بقهر: انت عارف إن الكلام الي انت بتقوله دا كله كذب في كذب.
هتف هو بتحدي: أنا بس االي عارف يا قلبي، لكن الباقي مايعرفش حاجة.
يعني عدي معايا الي عارفين الحقيقة كدة، أمم، أحمد بيه، يطيق العمى ولا يطيقق، هنية هانم، سبب الحرق الي في بطن يوسف وفي دراعه، أنا، أنا آخر واحد ممكن يشهد معاكي بحاجة يا قلبي.
فاجأته بصفعة على وجهه وهي تهتف بقهر: حقير، انت حقير ومش راجل، لإن لو عندك نخوة ما كنتش قبلت تشترك في الي عملوه معايا، إنما انت كلب فلوس، خليتهم ياشتروك بالفلوس ويا ريتك يا أخي حتى حافظت عليها، دانت أاااا.
قاطع كلامها بجرها من شعرها قائلاً وهو يصدم رأسها في الحائط: اخرصي يا ولية يا عديمة الشرف.
اخرصي واحمدي ربنا إني سترتك.
ثم مزق ملابسها بوحشية وهو يقول: أنا هوريكي إلي مش راجل دا هيعمل فيكي إيه.
ارتفعت حِدة صراخِها مما أفزع سندس التي كانت تجلس في غرفتها تجنباً لسماع شجاراتهم اليومية المتكررة فهبت من مكانها وتوجهت إلى غرفتهما تترق الباب بشدة قائلةً: بابا، افتح الباب يا بابا، انت بتعمل فيها إيه؟
كان عبد الله في هذه الأثناء يعتدي على يمنى اعتداءً وحشيا ويضربها بعنف في كل مكانٍ ظاهرٍ من جسدها.
أنت تقرأ
رواية ولو بعد حين.، الجزء الأول
Romanceقالوا عنها خائنة فصدقهم وكذبها. حاول أن ينسى فظلم. حاولت أن تعيش فماتت. لم يعرف أنها تمتلك جزءً منه. ولم تعرف أنها ﻻزالت تمتلك قلبه إلى الآن. فهل سيتجدد اللقاء بينهما يوماً ما؟ هل سيعرف الحقيقة؟ وهل بعدما أصبح لكلٍ منهما طريقاً ستلتقي الطرق؟...
