الفصل اﻷول:

2.3K 250 48
                                    

في أفخم قصور الأسكندرية، تزينت فتاة بأجمل ما لديها، وارتدت أفضل ما لديها من ثياب، لكنه لا يعرف معنى الحياء أبداً.
هبطت إلى اﻷسفل بتبخترٍ وهي تنثر بعضاً من عطرها المفضل على مﻻبسها بعشوائية حتى لمحت والدتها تجلس في البهو ترتشف بعضاً من القهوة،.
حور بنبرة مرحة: good morning mam, how are you?
ليلى بهدوء مصتنع: أهلا يا حبيبتي، صباح النور.
ثم تفحصت مﻻبسها سريعاً بنظراتٍ ضائقةٍ تهتف بغضبٍ طفيف:
إيه الي انتي لابساه دا؟
انتي رايحة الجامعة، ولا رايحة تستعرضي؟
حور بنبرة حانقة:
ماله لبسي يا ماما؟
ما أنا بلبس كدة على طول.
هي حاجة جديدة عليكي يعني؟
ليلى بضيق:
ﻻ مش جديد. بس أنا من حقي أنصحك وأقومك وأنتي واجب عليكي تسمعي النصيحة للآخر، وانتي ما كبرتيش على التربية.
هتفت حور بتحدٍ عارم:
أولا: أنا بنت عمرو الألفي. ثم زاد ارتفاع صوتها، وازدادت نبرة غرورها وتعاليها وهي تردف:
يعني ما حدش يقدر يقول لي انتي رايحة فين؟ ولا جاية منين؟ ولا بتعملي كدة ليه؟ ولا ما عملتيش دا ليه؟ وﻻ ﻻبسة إيه؟
يعني ما حدش يتدخل في الي مالوش فيه.
ثم رفعت عينيها لﻷعلى بشموخٍ تهتف بأمر:
ممكن.
ليلى  بحدة:
مهما قلتي يا حور،، مش هسمح لباباكي يدلعك أكتر من كدة، وتبقى سيرتك على كل لسان. فاهمة ولا لأ.
حور بنبرةٍ وقحةٍ:
ما تتدخليش يا مامي أنتي بس بيني وبين بابا علشان تعمر. ثم كل البنات اللي عا الموضى بتلبس كدة. أنتي بس اللي تفكيرك قديم حبتين.
ليلى بنصح:
عموماً أنتي بكرة هتندمي على كل كلمة قلتيها لي.
وبكرة هتعرفي إني كنت خايفة عليكي وإني ما كنتش عايزة حاجة غير مصلحتك.
وبكرة تعرفي إن دلع باباكي ليكي هو اللي فسدك وبوظ أخﻻقك بالشكل دا، بس يا رب ما يكونش الأوان فات على الكﻻم دا.
حور بﻻ مباﻻة:
لما يبقى ييجي بكرة نبقى نشوف.
ثم أردفت ببرود:
ؤوك يا مامي، أنتي لسة عايزة حاجة مني علشان أنا كدة هتأخر؟

ليلى بهدوء كي تقنع ابنتها لما تريد قوله:
يا حور، تعالي نجرب تغيري لبسك. والله هيبقى شك.
حور مقاطعة بحسم:
مامي، أنا مش هغير لبسي، وكمان مش هفطر؛ هفطر في الجامعة. عن إذنك.
ثم جرت مسرعة من أمامها؛ حتى لا توقفها مرة أخرى.
بينما صرخت ليلى بعصبية:
أنتي يا عائشة.
أسرعت عائشة نحوها تهتف بتوتر:
تحت أمرك يا ليلى هانم.
ألقت فنجان قهوتها الذي لم تنهِ سوى نصفه فقط على اﻷرض بغضبٍ هاتفة بأمر:
لمي البتاع دا واعملي لي قهوة تاني علشان بردت وتقلي البن.
أماءت عائشة برأسها إيجاباً ولم تجرؤ أن تنطق بحرفٍ ثم سمعت ليلى تستطرد بنفس نبرتها اﻵمرة:
وهاتي التليفون خليني أكلم الباشا عمرو ييجي يشوف له حل في بنته وﻻ يسأل فيها وفيا شوية.
***** .
في أحد المنازل الفاخرة:
استيقظت فتاة تلف جسدها بالغطاء جيدا، ثم رأته يدخل الغرفة وهو يتأفف ويقول صارخا:
يلا يا هانم، ولا البرنسِس لسة ناوية تطول هنا؟
اعتدلت أماني في جلستها قائلة بنعاس بعض الشيء:

مين قال لك إني هطول هنا! بس عايزة آخد نصيبي الاول يا دكتور.
ثم قامت من الفراش، وهي تسير ببطء  تتغنج بجسدها وتتمايل؛ حتى تثيره أكثر قائلة بميوعة:
ولا سيادتك ما عجبتكش الليلة؟
عمرو الالفي هو: طبيب في جراحة المخ والأعصاب، لديه عيادة تخصه يذهب إليها ليلا كل حينٍ وآخر؛ لأنه يترك العمل لشمس والتي سنتعرف عليها في ما بعد. يذهب إلى المستشفى الخاص به كل يوم، ثم يذهب ليلا للأماكن المحرمة، التي نهانا الله ورسوله عن الذهاب إليها,  ولا يعير اهتماماً لزوجته ليلى ولا لابنته حتى.
أبعدها عمرو عن طريقه قائلا باحتقار:
لا مين قال لك إنك مش هتخدي حقك؟
طبعا هديهولك. ما هو دا أصﻻً اللي بيجيب أمثالكم، إنكم كﻻب فلوس.
ضحكت بميوعةٍ هاتفةً وهي تحاول الاقتراب منه بضع خطوات:
ما أنتوا اللي بتحبوا الحاجات دي يا دكتور.
وبعدين عيب كدة أنا هزعل منك على فكرة. وأنا زعلي وحش قوي.
ثم أضافت باستفزازٍ تثير أعصابه بعد صمتٍ قصير:
أنت عارف بقى إن أنا هسيب لك عﻻمة في حياتك يوماً ما.
هتف باشمئزاز:
أنتي مين أنتي علشان تعلمي في حياتي يا بتاعة أنتي؟
أنا آخري أعرفك في ليالي من القذرة اللي زي دي.
وآخر المطاف أرمي لك قرشين.
أجابته بغرورٍ ولم يعد يفصل بينهما سوى سنتيمترات:
لو ما كنتش عاجباك ما كنتش طلبتني مرة و٢ و٣ يا دكتور.
وبعدين بكرة تقول أماني قالت لما أعلم عليك.
دفعها بقرفٍ ثم أخرج من جيبه حفنة من النقود وألقاها في وجهها قائلا بصوتٍ مرتفع:
يلا يا بت بقى، غوري من هنا, بﻻش كﻻم فارغ.
قال تعلمي في حياتي قال.
أنا ناقص عﻻمات قذرة.
امشي مش عايز أشوف وشك تاني.
هتفت بابتسامةٍ ﻻ مباليةٍ وهي تطبق على النقود في كفها:
أنت بتطردني يا دكتور؟
عموماً بكرة أوريك أنا هعلم عليك إزاي.
وبالمناسبة أنا نحست ﻷنك كل مرة بتطردني وبعدها بترجع تطلبني تاني.
ثم رفعت أنفها بغرورٍ هاتفة:
ودا ﻷني أنا الوحيدة بس اللي بعرف إيه اللي بيبسطك وبعمله.
ثم أضافت بدﻻلٍ وهي تلتقط مﻻبسها الملقاة بإهمال من اﻷرض:
وعلى فكرة أنت هتوحشني قوي.
ثم أضافت وهي تتجه نحو المرحاض لغنجٍ مثيرٍ إﻻ له:
ابقى خليني أشوفك تاني.
حدجها بنظراتٍ محتقرةٍ قائﻻً بحنق لنفسه:
كلهم ١، عمري ما شوفت بنت مؤدبة.
ثم أردف بغل:
والله لأخلص حقي منكم واحدة واحدة.
ثم صمت قليلا واستطرد بوعيد:
مش هخلي وحدة تعيش سعيدة، وأما أشوف بقى، يا أنا يا انتم.
استفاق من شروده على صوت هاتفه الذي ارتفع رنينه بصخب ليلتقطه بسأم ناظرا إلى شاشته ليلمح اسم سكرتيرته الخاصة التي تعمل معه في المشفى، فرفعه على أذنه بعد ما ضغط قبول المكالمة يرد بضيق:
أيوة يا نجﻻء.
هتفت نجﻻء على الجانب اﻵخر بعملية:
بفكر حضرتك يا دكتور بميعاد الاجتماع الشهري مع دكاترة المستشفى.
ضرب جانب رأسه بتذكرٍ هاتفاً بابتسامةٍ قلما تزور وجهه:
كويس إنك فكرتيني. أنا كنت ناسيه خالص.
ابتسمت له تهتف ولازالت محافظة على نبرتها الرسمية:
أنا تحت أمر حضرتك يا دكتور. أنا بعمل شغلي.
لم يعقب على ما قالته بل هتف بتساؤلٍ جاف:
حد سأل عليا؟
ليلى هانم سألت على حضرتك، وكمان اﻵنسة حور بتقول تليفون حضرتك مقفول، وأحمد بيه اﻷلفي قبلهم كلهم.
هتفت بها بنبرتها الرسمية وهي تنظر في الدفتر أمامها فهتف باقتضاب:
وأحمد بيه ما قال لكيش عايز إيه؟
هتفت بجهل:
ﻻ. بس هو قال هيرجع يكلم حضرتك تاني.
ماشي يا نجﻻء. شوية وجاي لك. جهزي الاجتماع.
هتف بها باقتضابٍ آمرٍ ثم أغلق الخط في وجهها دون أن يمهلها فرصة للرد عليه.
ارتدى ما بقي من مﻻبسه على عجلٍ ثم حمل محفظته ومفاتيحه وهاتفه مغادراً الشقة نهائياً بعد أن صفق بابها بعنفٍ أفزع أماني التي كانت قد خرجت من المرحاض للتو بعد أن ارتدت مﻻبسها.
*****.
في إحدى المناطق العشوائية ببورسعيد:
يستيقظ شاب في منتصف عقده الثاني  وتزين يده اليمنى دبلة فضية لمحبوبته مريم، فعندما رآها اختطفته من أول وهلة؛ فعشقها بكل ما يملك وبكل ذرة من كيانه.
وهي أيضاً تكن له حباً يكفي العالم أجمع؛ فحكاية حبهما حكاية أسطورية، يعجز الكلام عن وصفها.
فاق من شروده في ذكرياته معها على صوت والدته وهي تهتف بصوتٍ عالٍ بعض الشيء:
يوسف، يوسف.
يلا بقى يا ابني، هاتتأخر على شغلك كدة، وأنت مش ناقص تاخد تهزيقتين من رئيسك يعني. وأنت دلوقتي محتاج كل قرش علشان تلحق تتجوز.
تمطى بجسده بكسلٍ على الفراش وهو يهتف:
حاضر يا أمي هقوم أهو.
يمنى بحيوية وهي تجذب اﻷغطية تخرجها في الشرفة:
يﻻ بقى يا كسﻻن. كل دا نوم.
يوسف بتذمر:
هو فين النوم دا؟
هو أنا بلحق أنام؟
يمنى وهي تفتح النافذة:
خليك كدة اقعد اتكلم لحد ما تتأخر.
قفز من الفراش حتى وقف قبالتها ثم قبل رأسها قائﻻً:
آديني قمت أهو يا ست يمنى علشان ترتاحي.
قرصت وجنتيه وهي تهتف بصرامةٍ مصطنعة:
والله أنا غلطانة إني بخاف على مصلحتك أصﻻً.
هتف بحبٍ وهو يعيد تقبيل رأسها مرةً أخرى ثم أتبعها بتقبيل يديها:
إلهي ربنا يبارك لي فيكي وما يحرمنيش من وجودك أبداً يا أجمل وأحلى أم في الدنيا.
احتضنت وجهه بحنانٍ تهتف بدعاء:
أنت اللي ربنا يبارك لي فيك يا قرة عيني. أنت مش عارف أنا علشانك أنت بالذات اتحملت إيه.
ظهر التأثر في صوتها في ختام جملتها وهي تتذكر ما عانته من أجل أن يكون ولدها بخير.
كاد أن يسألها عن مقصدها إﻻ أن صوت سندس العالي وهي تصرخ في الخارج أضاع عليه هذه الفرصة.
هرولا نحوها مسرعين كي يريا ما يحدث ويمنى تسأل بجزع:
في إيه يا سندس؟
وقفت على مائدة الطعام تنكمش على نفسها وتحتضن جسدها بذراعيها تنظر للأسفل بذعرٍ هاتفة بتقطع:
فار. فار يا ماما. الحقيه.
ثم توجهت بنظرها نحو يوسف تستجديه بهتافها:
الحق يا يوسف الفار. خده من هنا طلعه برة أرجوك.
انفجرا ضاحكين على منظرها بينما هي تصرخ وهي تتابع بعينيها حركات الفأر:
أنتوا قاعدين تضحكوا وسايبينني كدة. أنا خايفة الفار يطلع لي أو توازني يختل فأقع فوقه.
هتف يوسف بضحك وهو يضرب المائدة التي تقف عليها بعنف:
اطلع يا فار لسندس.
قفزت في الهواء برعبٍ وهي تصرخ:
لااا. قلبي هيقف يا يوسف.
هتف بجديةٍ مصطنعةٍ وهو يحاول كتمان ضحكاته:
لو وقعتي على اﻷكل مش هموت الفار. يا تنزلي يا تثبتي.
بينما كانت يمنى تقف بعيداً عن مرمى الفأر منكمشة على نفسها رعباً هي اﻷخرى هاتفاً بصوتٍ حاولت أن يخرجَ ثابتاً إﻻ أنه خانها وخرج مرتعشاً:
يﻻ يا يوسف علشان سندس قلبها هيقف. موت الفار بقى.
هتف يوسف بعبث:
سندس بردو اللي قلبها هيقف يا يويو.
أعاد لها هذا التدليل أحلى وأمر ذكرياتها فشردت عنهما تتذكر ما مضى بعينين دامعتين وقلبٍ ينزف ألماً.
ارتجفت سندس عندما سمعت يوسف يضرب اﻷرض بمقشةٍ غليظةٍ فصرخت بفزع:
إييه؟ إوعى يطلع.
بينما صرخت يمنى باعتراض:
مقشة الكنيس يا يوسف؟ ارميها في الزبالة.
ابتسم يوسف من ردود فعلهما وهو يلوح بها أمام ناظريها هاتفاً:
إيه يا يويو. دي مقشة عزيزة عليا. مموت بيها فار مفترس.
والله ما هستخدمها تاني. خلصت خﻻص على كدة.
هتفت بها بحسمٍ بينما هتف بابتسامةٍ مرحة:
طب واحدة فيكم بقى تيجي تشيل الفار دا. أنا موته كفاية عليا.
صرختا بفزع:
ﻻ.
ثم أضافت يمنى بقلة حيلة:
يوسف يا حبيب ماما. هعمل لك اللي أنت عايزه بس خلصني من البتاع دا في أبعد ترعة.
أحضر كيساً أسوداً من المطبخ القريب ثم وضعه فيه هاتفاً بنفس مرحه:
إيه رأيكم لما نسيبه لبابا يكبه في الزبالة؟
هتفت سندس باعتراض:
ﻻ. مش هيقعد في البيت دقيقة واحدة. انجز وتعالى نزلني.
توجه ليغسل يديه بعد ما وضعه في الكيس المخصص للقمامة عازماً على حمله عند خروجه لعمله ثم اتجه نحوها يحملها بخفةٍ على ذراعيه يجلسها على المقعد، لكنها نهضت برعبٍ هاتفة:
ﻻ. مش هقعد على الكرسي دا. اقعد عليه أنت.
جلس هو مكانها هاتفاً:
خﻻص يا ستي براحتك. هقعد عليه أنا. بس خلي بالك الكرسي اللي هتقعدي عليه ممكن يطلع تحته فار.
انتفضت من مكانها فتوجهت يمنى نحوها تقدم قدماً وتؤخر اﻷخرى هاتفة بهدوء:
اهدي يا سندس. أنا هنضف الشقة كلها النهاردة وإن شاء الله مش هيبقى في حاجة تاني.
ثم استطردت وهي تتخذ مكانها على المائدة تشرع في تناول طعامها:
يﻻ بقى علشان اﻷكل برد جداً.
جلست سندس أخيراً على وجلٍ ثم شرعت في تناول طعامها وهي تهتف بتساؤل:
أومال بابا نزل من بدري وﻻ إيه؟
أجابها يوسف وهو يلوك الطعام:
أكيد طبعاً يا بنتي، وإﻻ كان فاته دلوقتي مقطعك من الضرب على الصريخ دا كله.
شردت سندس قليلاً في تعامل أبيها الجاف معها هي ويوسف وهذا على عكس تعامل والدتها اللين معهما؛ فوكزها يوسف بمرفقه في خصرها قائﻻً:
إيه يا حاجة؟ رحتي فين؟
هتفت وهي تعود لتناول طعامها:
ﻻ مافيش حاجة.
توجه يوسف ببصره نحو يمنى يهتف بتساؤل:
هو بابا يا ماما ما قبضش الجمعية اللي كان قايل عليها؟
أجابته يمنى بنبرةٍ خاليةٍ من التعبير:
ﻻ. ما جاب ليش سيرتها.
سندس بلوم:
أنت اللي غلطان يا يوسف. ما حدش قال لك تسلفه الفلوس دي كلها. وأنا كنت متأكدة إنه مش هيجيبهم لك علشان دي مش أول مرة.
يوسف بتسامح:
دا بابا يا سندس. لو طلب عينيا هديها له.
جت على شوية فلوس يعني.
وبعدين ما هو لو كان معاه كان فاته جابهم.
كلنا عارفين الحال، وإنه شغال صنايعي وأجرته على قده.
هتفت يمنى بتحسرٍ في نفسها:
بقى واحد زي عبد الله يكون دا ابنه؟
خسارة.
ألف خسارة.
استفاقت من شرودها على صوت سندس المعاتب:
بس أنت كدة يا يوسف بالطريقة دي مش هتتجوز، طول ما أنت بتتعامل بطيبتك الزايدة دي مع اللي حواليك.
يوسف مجادلاً وهو ينهض من مكانها عازماً التوجه إلى عمله:
يعني لو كنتش معاكِ فلوس وهو طلبهم منك ما كنتيش هتديهم له؟
سندس بحسمٍ قاطع:
ﻻ. ﻷنه ما يستحقهاش.
يمنى بصرامة:
عيب كدة يا سندس طريقتك في الكﻻم دي عن باباكي.
صمتت سندس مرغمة عن حديثٍ طويلٍ يعلمه الجميع عن طباع أبيها النزقة احتراماً لوالدتها، وغيرت دفة الحوار هاتفة:
أنا هقوم بقى علشان اتأخرت على المكتبة.
يمنى باعتراض:
أنا مش عارفة والله ﻻزمة المكتبة داهي إيه؟
أنا بفضل طول اليوم قلقانة عليكي لحد ما ترجعي.
ما كفاية يوسف وتنطيته في اﻷقسام من هنا لهنا.
يوسف ضاحكاً:
طب يعني أعمل إيه بس يا يويو؟
أقول لﻷستاذ معلش والله أنا محامي آه بس ما بدخلش أقسام؟
وبعدين أنا محامي محترم، وبنقي القضايا كداهو عا الفرازة.
أردفت سندس مؤيدة:
ما أنتي عارفة يا ماما إن الحال تعبان عا اﻵخر، وأنا في احتياج لكل قرش بيجي لي من المكتبة.
انتفضوا من أماكنهم بفزعٍ على طرقاتٍ عاليةٍ كادت أن تخلع الباب من مكانه وصوتٍ جهوريٍ يهتف بغلظة:
افتح الباب يا عبد الله.
*****.
بورشة المعلم كمال:
دخل عليهم ملقياً تحية السلام ومنادياً بصوتٍ جهوري:
يا معلم عبد الله.
توجه إليه رجلٌ في منتصف عقده السادس تقريبا وقد هذا الشيب رأسه قائلاً في احترام:
أيوة يا معلم كمال، أنا هنا أهو.
سأله المعلم كمال بصرامة:
حليت مشكلتك مع الديانة جلا لسة يا معلم عبد الله؟
ارتبك عبد الله من سؤاله وهتف بإحراج:
لسة والله يا معلم، انت عارف الدنية صعبة قد إيه، والمعايش زي ما انت شايف على القد.
ثم سأله بفضول:
لكن حضرتك بتسأل ليه؟
جلس المعلم كمال في مكانه المعتاد ثم وجه نظره إلى عبد الله وهتف قائلاً:
هات كرسي وتعالَ اقعد جنبي هنا.
استجاب عبد الله على الفور وفضوله يحرقه لمعرفة السبب الذي يجعل المعلم كمال صاحب العمل يتحدث معه هو، بل ويطلب منه أن يجلس بجواره.
جلس في مكانهِ منتظراً أن يبدأ المعلم كمال حديثه والذي لم يجعله ينتظر طويلاً حيث قال:
شوف يا معلم عبد الله، أنا عارف إن الظروف صعبة جدا اليومين دول، وعلينا كلنا، وأنا عارف كمان إنك عليك فلوس كتير.
هتف عبد الله بمسكنة:
وهنعمل إيه يعني يا معلم؟
أديك عارف وشايف.
هتف المعلم كمال بغموض:
عارف يا معلم، وعندي الحل لكل مشاكلك.
احترق عبد الله فضولاً وهتف قائلاً:
إزاي يعني يا معلم؟
هتف المعلم كمال بخطورة:
شوف يا عبد الله أنا عايزك تركز معايا هنا.
انتبه له بكامل تركيزه وهتف قائلاً:
معاك يا معلم.
هتف متسائلاً:
انت مش عندك بنوتة كبرت وبقت عروسة؟
استغرب سؤاله ولكنه رد عليه قائلاً:
أيوة فعلاً يا معلم عندي سندس بنتي الي بتشتغل هنا في المكتبة الي في الشارع الي ورا الورشة.
هتف المعلم كمال بنبرة من يعرف هدفه جيداً:
البت دي بقى يا عبد الله تلزمني.
ظهرت علامات الفضول على وجه عبد الله وسأل باستغراب:
تلزمك إزاي يعني يا معلم؟
هتف المعلم كمال بنبرةٍ طامعة:
عايز أتجوزها يا حاج.
شهق عبد الله بصدمةٍ وهو يهتف بذهولٍ مردداً خلفه:
تتجوزها؟
أجابه المعلم كمال ببساطةٍ بعد ضحكةٍ قصيرةٍ تنم عن استغرابه من صدمة عبد الله:
آه. وفيها إيه يعني؟
هتجوزها على سنة الله ورسوله.
ولا أنا ما أشبهش ولا إيه؟
سأله عبد الله بفضول:
بس حضرتك متجوز. ست كمل كلنا نعرفها. غير إن ابنك عزيز من دورها تقريباً.
رد المعلم كمال بلا مبالاة:
الشباب شباب القلب يا عبد الله. وبعدين فلوسي هتخليني صغير. ومين قال لك إن أنا هاجي على سناء؟
وعزيز ما لوش حكم عليا.
المهم أنت تكون موافق يا عبد الله.
ولا الحريم عندكم هما اللي بيمشوا رأيهم؟
ثارت أعصابه فهتف بحمائية:
لا طبعاً. أنا الرجل على بنتي. وأنا اللي أقول تعمل إيه؟ وتروح فين؟ وتيجي منين؟
المهم البيعة دي بكام يا معلم؟
هتف بها بطمعٍ فأجابه المعلم كمال بإغراء:
بورشة جديدة باسمك يا عبد الله.
تهللت أساريره، واتسعت ابتسامته، وظهرت  علامات الموافقة المبدئية على وجهه، لكنه طمع في المزيد فأردف قائلاً:
ديوني كلها تتسدد.
وتجيب لي مهر حلو كدة للبنت فلوس في إيدي.
راعي إن أنا بدي لك بنتي الوحيدة.
وجميلة الجميلات في بورسعيد.
ارتسمت صورتها في مخيلته فظل يمني نفسه بها فبدت الموافقة على وجهه رغم كثرة ما طلبه عبد الله فأجابه قائلاً:
موافق يا عبد الله. بس ياريت تخلص لي الموضوع دا بسرعة. مهد لهم في البيت. وبعدين آجي لك نتكلم في تفاصيل البيعة كلها.
قصدي الجوازة.
هتف بها مصححاً وهو يرمق ابتسامة عبد الله الطامعة والسعيدة في آنٍ واحدٍ وهو يجيبه بالموافقة التامة:
استبينا يا معلم كمال.
.....
في الجامعة:
دخلت حور بخلاءٍ إلى قاعة المحاضرات باحثةً لها عن مكانٍ وسط جموع الطلاب.
ظلت تسير بينهم بتبخترٍ حتى لمحت صديقتين تجلسان بجوار بعضهما متهامستين فرمقتهما بنظرةٍ متعاليةٍ يشع منها الحقد الشديد، ثم بحثت بنظرها عن من يشبهها حتى لمحت صديقيها يجلسان في آخر صفٍ بالمدرجات فتوجهت نحوهما بلهفةٍ.
كان علي وأنس قبلها بلحظاتٍ يتهامسان وهما على جلستهما في الصف الأخير بالمدرج عن حور.
هتف علي بطمع:
بقول لك إيه يا واد يا أنس.
إحنة مش هنشوف سكة للبت حور دي بقى؟
فلوسها كتير، ومش عارفين نطول منها حاجة.
مع إنها تبان سهلة ورخيصة.
أجابه أنس بطمعٍ مماثل:
هي آه بتكلمنا وتمشي معانا، بس هي عارفة هدفنا كويس. ومش سهل إن يتضحك عليها.
هتف علي بيأس:
يعني إيه؟
هنرضى بالفتات اللي بترميه لنا وبتمن علينا بيه؟
لا هنستمتع بالقاعدة الحلوة ولا هنستفيد بالفلوس؟
خلاص مافيش حل يعني؟
أجابه أنس بثقة:
لا. مين اللي قال كدة؟
أنت تعرف كدة عن أنس صاحبك؟
تعرف إنه بيسيب حاجة تضيع من إيده؟
وخصوصاً لما تكون حاجة تستاهل زي حور.
سأله علي بفرحة:
يعني في حاجة في دماغك ولا إيه يا برنس؟
ارتسمت ابتسامة واثقة على شفتيه وهو يجيبه:
طبعاً. بس اتقل على الرز لحد ما يستوي.
واسكت بقى علشان هي جاية هناك آهي.
أسرعت نحوهما بابتسامتها العذبة تلقي عليهما تحية الصباح بمرح:
صباح الخير يا حلوين.
استقبلاها بابتسامةٍ واسعةٍ وهما يفسحان لها مكاناً بينهما في المنتصف هاتفين:
صباح الورد.
ثم أردف  أنس بجديةٍ مصطنعة:
المهم. عملتي حاجة في اللوحة المطلوبة مننا ولا إيه؟
هتف علي بلا مبالاة:
يا عم سيبك. لوحة إيه بس وحنة جانبنا لوحة فنية أبدع فيها الخلاق؟
ابتسمت حور بغرورٍ وهي تهتف:
لا موضوع اللوحة دا ما تقلقوش منه.
سألها أنس بفضول:
إزاي يعني يا برنسس؟
اعتدلت في جلستها محاولةً إبراز مفاتنها وهي تجيبه ببساطة:
إزاي دي بتاعتي أنا.
بدى عدم الفهم على وجهيهما فهتف علي يحاول استدراجها أكثر:
ما تفهمينا يا كبيرة.
علشان نبقى معاكي على الأقل.
توجهت بنظرها ناحية الفتاتين التين تتهامسان بعيداً عنهم ثم أردفت:
قلت لكم بتاعتي أنا.
لاحظا نظراتها ناحية الفتاتين فهتف أنس بحيرة:
طب إيه علاقة مريم وندى باللوحة؟
بتبصي لهم ليه؟
ثم أردف علي مكملاً:
أنتي بردو لسة  حاطاهم في دماغك؟
أجابتهما بحقدٍ مشوبٍ بالغموض:
وموضوع اللوحة دا هيكون أكبر درس ليهم.
هيعرفوا بعد كدة مين هي حور الألفي.
وهيتعلموا إزاي يتعاملوا معايا.
هتف أنس بلا مبالاة:
كل دا علشان الموقف اللي حصل ما بينكم في أول السنة؟
هتف علي بضحكةٍ والموقف يمر أمام عينيه:
لا يا أنوس. بس بردو الموضوع ما يعديش.
أنت متصور لما حور هانم الألفي تتضرب بالقلم من حتة بت لا راحت ولا جت؟
مر ما حدث سريعاً أمام عيني حور وهي تتذكر شماتة زملائها عندما صفعتها ندى على وجهها ودون سببٍ يُذكر -من وجهة نظرها-
وتساءلت في نفسها:
ما الذي فعلته يعني لكل هذا؟
كل ما في الأمر. أنها أظهرت الحقيقة. وأكدت لزملائها أن ندى على علاقةٍ بالدكتور في الجامعة وتحاول استدراجه كي تأخذَ منه الامتحانات وأنها تفعل ما حرمه الله معه دون علم أهلها.
وإلا لماذا كانت تنجح هي وصديقتها بكل هذه التقديرات الممتازة؟
ثم هي لم تفترِ عليها.
لقد رأتها بعينيها تقف معه بشكلٍ وديٍ يتضاحكان ويتهامسان. ولربما يتلامسان.
وهي التي اعتقدت أنهما تذاكران لكن اتضح أنهما تأخذان كل شيءٍ -على الجاهز- كما يقولون بفضل علاقات ندى المتعددة.
هي كل ما فعلته أنها أظهرت الحقيقة.
فهل يكون جزاؤها أن تصفعَها ندى على وجهها بدلاً من أن تدافعَ عن نفسها أو تتوقف عن ما تفعله.
هي الحق عليها أنها تنصحها.
لكنها لن تسكت على هذه الإهانة.
لن تكونَ حور الألفي حتى تردها الصاع صاعين.
انتبهت من شرودها على كفي علي وأنس يخبطانها على كتفيها كل من اتجاه فهتفت بصوتٍ عالٍ:
في إيه يا ابني منك ليه؟
هتف علي بضحكةٍ:
إيه يا قمر رحتي فين؟
ثم أردف أنس مكملاً:
بقى لنا ساعة بنكلمك وبننادي عليكي وأنتي ولا أنتي هنا.
نهضت من مكانها وهي تهتف:
أنا زهقت من المحاضرة.
عايزة أروح أغير جو في الكفيه وأفكر في اللي أنا هعمله.
تحسس علي المكان الفارغ منها وهو يهتف:
سبت فراغ كبير.
ضحك أنس على دعابته بصخبٍ وهو ينهض من مكانه قائلاً:
ما نسيبكيش لوحدك أبداً يا جميل.
ثم انطلقوا خارجين من قاعة المحاضرات بأكملها قبل أن تبدأ المحاضرة بدقائق قليلة.
.....
في قهوةٍ  بلدي:
كان عزيز ابن المعلم كمال يأخذ عدة أنفاس متواصلة من النرجيلة أمامه باستمتاعٍ ثم وجه نظره من وسط الدخان الكثيف إلى الشاب الذي يجلس في المقعد المقابل يسحب بعض الأنفاس من النرجيلة التي أمامه باستمتاعٍ مماثلٍ وهتف قائلاً:
فهمت هتعمل إيه يا جمعة بالظبط؟
انتبه له جمعة فهتف من وسط أنفاسه:
طبعاً يا معلم. هو إحنة صغيرين ولا إيه؟
هتف عزيز بحذر:
المهم أنا عايز الحكاية تخلص بنظافة. وزي ما خططت لها بالظبط. لا تزود ولا تنقص. مش عايز غلط يا جمعة.
الغلطة فيها عمرك.
توتر جمعة من تهديده ثم أجابه بثقةٍ:
ما تقلقش يا معلم. هي دي أول مرة أساعدك تعمل نمرة على بت؟
هتف عزيز بخطورة:
بس المرة دي غير كل مرة.
المرة دي أنا ناوي على جواز.
هتف جمعة باعتراض:
وأنت كان إيه بس اللي يربطك بجواز ومسؤولية؟
تنهد عزيز بضيقٍ ثم سحب نفساً طويلاً من نرجيلته ثم أردف:
لكذا سبب يا جاهل.
أولهم إن البت دي سكتها ما بتجيش غير بالجواز.
وتانيهم إن أمي وأبويا أصلاً كانوا بيزنوا على دماغي من فترة في الموضوع دا.
وشايفين بقى إن أنا مش هستقيم إلا لما  أتجوز.
برزت أسنان جمعة صفراء إثر إطلاق ضحكة صاخبة وهو يهتف بسخرية:
استقامة؟
وهو إحنة اللي زينا ليه استقامة.
لا ونعم الاستقامة يا معلم.
ضحك عزيز %bصخبٍ مماثلٍ هو الآخر وهو يهتف من بين أنفاسه:
على رأيك.
ثم استدرك بجدية:
المهم أنا عايزك تركز في مواعيد خروج المزة.
ابتسم له جمعة بثقة يجيبه:
ما تقلقش يا معلم. إحنة هنلبد جنب المكتبة من بدري. اتطمن خطتك هتمشي زي ما رسمتها بالظبط.
هتف عزيز ببعض القلق الفطري الذي يصيبه كلما أقدم على تنفيذ هذه الخطط من هذا النوع:
لما نشوف يا أخويا ثقتك دي هتودينا لفين.
ثم أردف محذراً:
المهم مش عايز أتعور.
هتف جمعة بهدوء:
لا ما تقلقش خالص يا معلم من الناحية دي.
لمح عزيز من مكانه أحد العاملين بورشة أبيه يتوجه ناحيته فصمت فجأةً ولم يرد على جمعة في ما قاله تواً ثم سمع الرجل يقول باحترام:
المعلم كمال كان بيدور عليك يا معلم عزيز. وباعتني أنده لك.
تأفف عزيز وهو يجيبه بضيق:
ودا عايز إيه دا كمان؟
أجابه الرجل باحترام:
معرفش والله يا معلم. هو بعتني أنده لك وبس.
نهض من مقعده وهو يهتف بنفس ضيقه:
ماشي يا أخويا. قدامي لما نشوف هو عايز إيه.
ثم أشار خفية لجمعةٍ ليؤكدَ له أنهما على الموعد. وانطلقا خارج المقهى.
.....

رواية ولو بعد حين.، الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن