43..بعد سنوات

2.7K 63 12
                                    

ثلاث سنوات كاملة مرّت منذ آخر لقاء بينهما..منذ افتراقهما و انقطاع الصلة بينهما..منذ تحول الحلم إلى كابوس و صار الواقع أمرا موجعا لا قدرة لهما على احتماله..ثلاث سنوات منذ سافر ياغيز إلى مصر ليتسلم وظيفة مهمة في إدارة المتاحف و المعالم الأثرية هناك..ثلاث سنوات منذ فتحت هزان عيونها على حقيقة تخليه عنها و رفضه إعطائها مجرد فرصة للدفاع عن نفسها..لقد احتاجت لكثير من الوقت لكي تلملم شتات نفسها و تداوي جروحها و تلتفت الى دراستها و مستقبلها..لقد تغيرت هزان منذ تلك الحادثة..صارت تقضي معظم الوقت لوحدها..تفكر فيما حدث و تحاول أن تأخذ عبرة و درسا منه..انكبّت على اعداد مشروع تخرجها و أنهته بنجاح و تفوق..لم يكن امامها من متنفس سوى الدراسة و التحصيل العلمي لكي تدفن نفسها فيهما و تحاول أن تتلهى بهما عن التفكير فيه و في الجرح العميق الذي خلفه داخلها..ثلاث سنوات كانت كافية لكي تتخرج بتفوق و تتخصص في علم الآثار و الحفريات..و سافرت الى الكثير من البلدان لدراسة بعض الأدوات الانسانية المستعملة قديما و للبحث اكثر في تاريخ المواقع الأثرية الشهيرة كبرج ايفل بفرنسا، قصر الحمراء في إسبانيا و الحدائق المعلقة بالعراق..رافقتها بتول في كل سفراتها بعد ان تخصصت في التأريخ و كتابة المقالات و البحوث الخاصة بالآثار المنسية و المجهولة..كانت لها نعم الصديقة و الأخت و الرفيقة..كانت تساندها و تدعمها دون أن تسأل كثيرا عما حدث في تلك الليلة لكي لا تزعجها و لكي تساعدها على النسيان و التجاوز..لكنها لا تستطيع أن تنكر بأن هزان تغيرت كثيرا منذ تلك الليلة..لقد صارت جديّة أكثر حتى معها هي..تصبّ كل اهتمامها و تركيزها على بحوثها و عملها..صارت تعتمد على نفسها أكثر و تسعى الى تحقيق ذاتها بعيدا عن ثروة أبيها الطائلة..كانت تريد أن تخلّد إسمها لكي لا تُنسى بمجرد ذهابها من هذه الدنيا..و كأنها ترغب أن تثبت للجميع بأنها لم تعد تلك الفتاة المدللة و المستهترة التي يسهل عليها الحصول على ما تريد بإشارة من اصبعها..صارت تسافر و تدخل الى المواقع بنفسها غير آبهة بالغبار و الوحل و الحشرات..أغلقت كل حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي و لم تترك معلومات عنها الا في الصفحات الخاصة بعملها..و صار إسمها معروفا لدى بعض اللجان العالمية للحفر و التنقيب و صاروا ينسقون معها لكي تشاركهم في بعض البحوث و الدراسات..
أما ياغيز..فكان استقراره بمصر و عمله فيها بمثابة الانقاذ له من كل ما مرّ به هناك في بلده..وهب نفسه لعمله و صار يترقى بسرعة بفضل مجهوداته و تفانيه..و كوّن علاقات صداقة مع الموظفين الزملاء و الزميلات و حتى مع بعض السكان من الطبقات الراقية و من المشاهير..و كان إيلكر نعم الرفيق و الصديق بالنسبة إليه..يلازمه و يساعده و يعرّفه على بعض المسؤولين و الشخصيات المؤثرة..كان يقضي أغلب وقته في الإدارة ثم يعود الى الشقة المطلّة على النيل التي اشتراها صحبة إيلكر و إستقرّا فيها معا..عاش ياغيز بعض العلاقات العابرة لكي يحاول تخليص نفسه من هالة هزان التي ما تزال تحيط به..لكن دون جدوى..مازال غاضبا منها..لكنه صار يلوم نفسه في اغلب الأحيان على تصرفه القاسي معها و على عدم اعطاءها فرصة للتفسير او التبرير..خاصة عندما عاد الى تركيا بعد أشهر قليلة من سفره لكي يحضر حفل زفاف إيلا و لافانت بعد أن أصرت إيلا أن يكون حاضرا..كان حفلا مقتصرا على المعارف و الأصدقاء المقربين..و التقى ياغيز يومها بالسيد نجاتي مدير الكلية و الذي كان صديقا مقربا من العم فؤاد والد إيلا..عاتبه الرجل يومها على القرار السريع و الغير مبرر الذي اتخذه خاصة بعد أن حاز على احترام و تقدير كل الزملاء و الطلبة..ففهم يومها بأن هزان لو كانت قد تحدّثت كما اتهمها بالسوء عنه و عن علاقتهما لما كانت سمعته ماتزال ناصعة هكذا في الأوساط التعليمية..لكنه لم يستطع مسامحتها و لا نسيان الطريقة المذلّة التي سمعها تتحدث بها عنه..يومها..سأل عنها بطريقة غير مباشرة فاخبره السيد نجاتي بأنها تخرّجت بتفوّق و كانت الأولى على دفعتها كما تعوّدت فأسعده ذلك لأنه كان يتمنى من كل قلبه ألا يؤثر عليها ما حدث بينهما سلبا و أن يؤخر تخرجها او يضر مستقبلها..كان يوما واحدا فقط حضر فيه حفل الزفاف و هنأ فيه العروسين من كل قلبه قبل أن يعود إلى مصر على متن طائرة الفجر..كان إيلكر يحاول احيانا أن يسأله عنها و عم حدث لكنه كان يتهرب و يحتفظ بالإجابة لنفسه..و كأنه كان يخشى أن تستعيد ذاكرته ما حصل..أو ربما كان يخاف أن يحضر خيالها أمامه فيضعف من جديد و ينسى كل غضبه منها و يحتضنها بقوة و يعاتبها و يسمعها..لكنه كان مطمئنا الى المسافة الشاسعة التي كانت تفصل بينهما..فكل واحد منهما كان مستقرا في قارة بعيدة و اللقاء من جديد كان احتمالا مستبعدا بالنسبة إليه خاصة أنه كان يجهل تفاصيل حياتها الجديدة بعد تخرجها..

الجريئةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن