بعد ما يقارب العشرون يوم
طرقت فوق زجاج باب مكتبه المفتوح من الخارج قبل أن تطل بوجهها تبتسم بلباقة وتنظر إليه بغموض تلألأ بسواد مقلتيها وهي تهتف برزانة : صباح الخير يا باشمهندس .
رفع رأسه من فوق شاشة حاسوبه المحمول الخاص لينتفض واقفا يرحب بها بلهفة شكلت ملامحه فاتسعت ابتسامتها بعفوية وهو يهمس بصوته الأبح : صباح النور يا رقية ، تعالي تفضلي .
تحرك من خلف مكتبه ليستقبلها بترحاب اسكن هواجسها التي تخيم عليها منذ مدة بسبب توقفه عن زيارتها .. ابتعاده غير المفهوم لها .. وانشغاله المريب ، توردت وهو يحتضن كفيها براحتيه يجذبها للداخل قبل أن يغلق باب المكتب وخلفه الستائر فتعبس بتعجب من فعله و تتمتم بعدم رضا : عبد الرحمن هذا لا يصح .
أجاب بسرعة : أعلم ، ولكن ..
صمت دون أن يكمل حديثه لتنظر بتساؤل سكن عيناها فرف بعينيه وهو يشير إليها : اجلسي يا رقية .
استجابت وهي ترفع رأسها لا تحيد ببصرها عنه ليخفض هو بصره ورأسه وهو يجلس مقابلا لها على الكرسي الآخر الموضوع أمام مكتبه فتهمس بسؤالها في اختناق أحكم قبضته على صوتها : هل هناك شيء ما حدث أنا لا أعرفه ؟
تنفس بعمق وهو يستعيد صلابته ليسألها بلباقة : أخبريني بماذا أضايفك ؟
عبست بانزعاج وهي تشعر بحاجز وهمي يرتفع بينهما ، وكأنه عاد ذاك عبد الرحمن الجامد .. البارد .. ذو ملامحه الأجنبية التي لا تشى بعواطفه ، فترف بعينيها بعدما أدارت نظرها عليه وعقلها يعقد مقارنة بين من تنظر إليه ومن تعرفت عليه الأشهر الماضية ، بين المهندس الرزين الذي يجلس أمامها ملامحة نحتت بصلابة فأزادت من مظهره الأجنبي ، وبين من كان يزورها في بيت أسرتها فيبتسم .. يمزح .. يشاكس .. ويغازلها في حدود المقبول واللائق فيثير خجلها وابتساماتها رددت باستنكار : تضايفني ؟! لتتابع دون وعي – هل أنا غريبة لتضايفني في مكتبك يا عبد الرحمن ؟!
أكملت بحدة تملكتها مع صمته المريب : أخبرني ماذا يحدث معك يا عبد الرحمن ؟! صمتت لوهلة قبل أن ترمي بأهم هواجسها في وجهه دون تفكير وهي تتابع – هل أعدت النظر في ارتباطنا وتريد فسخ الخطبة يا باشمهندس ؟
انتفض مرغما ليهدر : ما هذا الجنون يا رقية ؟
نظرت إليه بعتاب أثقل كاهليه أكثر من ثقل حمله وهي تسأل بجدية : إذًا ماذا يحدث ؟ أنتَ مختفي منذ ما يقارب الشهر دون أن أدري عنك شيء ، مطت شفتيها بتفكير لتتبع – هل اختفائك له علاقة بم حدث لأخيك ؟
ارتفع نظره إليها بسرعة فاتبعت ببسمة لائمة : هل تظن أن ما حدث لأحمد سيؤثر علي .. على ارتباطنا .. على حياتي معك ؟!!
اختنق حلقه ليرف بعينيه قبل أن يتنفس بعمق ويهمهم بجدية : بل أنا متأكد .
تراجعت برأسها للخلف في صدمة ألمت بها لتهمس بعدم فهم : ماذا تقصد يا عبد الرحمن ؟ أتبعت بحدة – هل تظن أني سأتركك لأن أخاك قبض عليه في قضية علمت من والدي أنه ليس مدان بها وأن الأمر مخالفة بسيطة في إجراءات شحنة استيراد آتية من الخارج ؟
زفر أنفاسه كامله ليجيبها ببطء : يا ليت الأمر مجرد شحنة آتية من الخارج أو أمر أحمد وتورطه بها .
عبست بتعجب لتسأله بترقب وهي تشعر بقلبها يرتج من القلق الذي تشعره : ما الأمر إذًا ؟
زم شفتيه بقوة ليهمس بصوت أبح وهو يخفض بصره عنها : تعلمين غلاتك ومقدارك عندي يا رقية أليس كذلك ؟ اختنق حلقها بغصة بكاء قوية لا تعلم سببها سوى حديثه الذي تترقبه وينغزها قلبه لأجله - حتى دون أن ينطقه - فيكمل وهو يرفع بصره إليها فتلمع عيناه بزرقة غنية وهو يتابع - تعلمين كم أحبك .. كم تمنيتك .. وكم دعوت الله ليرزقني بك، تعلمين كيف عانيت في بعدك .. وكيف غضبت لنفورك مني .. وكيف تقربت منك بإصرار إلى أن ارتبطت بك ، وتدركين كيف أني لا أقوى على الابتعاد عنك أو تركك ؟
ابتسمت ودموعها تلمع بعينيها ولكنها تحكمت بها حتى لا تبكي بصلابة أسرت قلبه إليها اكثر لتنطق بصوت أبح : ولكنك تفعل الآن .
هز رأسه نافيا بقوة ليهمس بألم : أبدًا ، لا أفعل ولن أفعل أبدًا ولكني سأمنحك أنتِ الخيار يا رقية .
اهتزت حدقتيها بعدم فهم فهمس موضحا : تدركين الجانب الآخر من عملي ، وتعلمين عن الجهاز الذي أقوم على صناعته أنا وعادل ، لقد سبق وأخبرتك .
سحبت نفسا سريعا لتجيبه باستنكار : نعم أخبرتني وأنا أجبتك أن عملك الآخر لن يؤثر على قرار ارتباطي بك .
نظر إلى عمق عينيها ليبوح بهدوء : لأني لم أكن حينها مهددا .
اتسعت عيناها بصدمة وخوفها يظهر في شحوب وجهها لتغمغم بذهول : ماذا ؟!!
احتضن كفيها فآلمه قلبه لبرودهما فيدلكهما بأطراف أصابعه يمنحها بعض من دفء تحتاجه قبل أن يجيبها وهو ينظر إليها : الآن أنا أصبحت في دائرة الخطر يا رقية ، أنا معرض للقتل، ووجودك معي سيجعلك أنتِ الأخرى عرضة للخطر ، هز رأسه نافيا وهو يتبع بصوت ثقيل اكتنف قلبها – وهذا ما لا أرضاه لك أبدًا .
سحبت كفيها منه في حدة فلم يقاومها بل تركها بسهولة وهي تنظر إليه بعدم تصديق فيتابع : أنا خائف عليك ، خائف أن يتعرضوا إليك حتى يصلوا لي ، خائف أن يؤذوك حتى ينالوا مني ، أنا خائف يا رقية .
تساقطت دموعها رغم عنها لتهمس بصوت محشرج : وهل ابتعادك عني سيكون لصالحي يا عبد الرحمن ؟ هل حينما تفسخ الخطبة سأكون بمأمن بعيدا عنك ؟!!
هدر بألم : أنا لا أفسح الخطبة ، أنا أخبرك بم أمُر به حتى تقرري حياتنا سويا ، همت بالرد ليشير بكفه إليها أن تتوقف عن الحديث وهو يتابع - لم أعاهدك انفعاليه يا رقية ، فكري جيدًا ثم أخبريني بقرارك النهائي ، فبعده لن يكون هناك قرار .
جفت مآقيها عن البكاء فتشتد نظراتها بجمود خنق روحه ، لتسيطر على لهاث أنفاسها ، تتحكم في خوفها بصلابة وهي تتراجع بظهرها للخلف قبل أن ترفع كفيها تمسح دموعها عن وجنتيها الشاحبتين ثم تنهض واقفة : حسنا يا باشمهندس ، سأبلغك قراري عن قريب .
تحركت مبتعدة عنه ليقبض كفيه بقوة وهو يقاوم آلام روحه التي تجسدت على ملامحه قبل أن ينتفض واقفا يهتف باسمها في نبرة مشبعة برجاء أجبرها على أن لا تغادر الغرفة فتوقفت عند باب المكتب ، تستدير إليه بتساؤل ، اقترب منها بتؤدة لتوقفه على مقربة منها بكفها الذي ارتفع بالمنتصف بينهما فكاد أن يلامس صدره حينما قرأت رغبته الجلية في احتضانها تسكن عينيه ليلتقط كفها براحته يضغط عليه بتوسل راقي فتشيح بعينيها بعيدًا عنه وهي تهمس باختناق : تعلم أنه لا مسموح لك حتى بلمسي .
رفع رأسه بعنفوان يحاول السيطرة على جنون انتابه فيجيب بصوت اختنق بأنفاسه العالية المتتالية : أعلم ولكني .. أطبق شفتيه بقوة ليتابع بصوت خرج من أعماق روحه المتألمة وهو يكاد أن يلصق جبينه بجبينها – أردتك أن تعلمي مقداري عشقي لك .
عضت شفتها ودموعها تملا حدقتيها لتحرك رأسها بعيدًا تتحاشى النظر إلى عينيه المعتمتين بحزن مزق نياط قلبها فتحاول أن تسيطر على اضطراب روحها لتجيبه بعد قليل حينما استعادت انتظام أنفاسها بصلابة : أنا أعلم .
دفعته بلطف بعيدا لتستطيع الخروج من باب مكتبه فتمسك بكفها الذي لم يتركه حينما همت بالابتعاد فتهمس إليه بوعد: سأبلغك بقراري في الزفاف يا عبد الرحمن .
تلاقت نظراتهما ليجذبها من كفها إليه ثانية ليجبر نفسه على التوقف قبل أن يضمها إلى صدره وجسده يشتد بصلابة شعرتها رغم عدم ملامستهما ، أنفاسه تتلاحق فوق جبينها ليسحب نفسا عميقا مستنشقا عبيرها قبل أن يفلت كفها ببطء ثم يبتعد للخلف خطوتين متمسكًا بجانبه البارد من جديد فحزنت عيناها وهي تشعر بابتعاده وخاصة حينما صفعها ببرودة نبراته التي تلونت بلكنة إنجليزية لا تظهر عادة في حديثه : سأنتظر يا رقية .
اندفعت تغادر مكتبه ليغلق الباب خلفها وهو يزفر أنفاسه كامله ليهدر باختناق وهو يضرب مقدمة جبينه في قائم الباب المغلق مخرجا غضبه .. ألمه .. ضيقه قبل أن تلمع عيناه بزرقة وامضة بانتقام أقسم عليه منذ أن أخبره أحمد بكل ما حدث له !!
***
تنظر إلى جهازها اللوحي تركز بصرها على الصورة التي نُشِرت إليه بجانب الأخرى التي اكتشفت وجودها في حفل سلامة ابن عمته ، تلك الغريبة التي هبطت عليهم من السماء دون أن يدري بها أحد حتى عائلته ورغم غموض هويتها بالنسبة للجميع إلا أن وجودها .. استقباله لها رغم غضبه البادي على ملامحه الوسيمة .. وبقائها بقية الأمسية ، كل هذا وشي بمكانتها لديه ، وها هي صورة أخرى تظهرهما سويا ومزيلة بحديث عن ارتباط وشيك بينهما ، اختنق حلقها وعقلها يستعيد صورهما التي تناثرت في الجرائد والمجلات ، والأخبار التي تداولت عنهما سواء بارتباطهما أو عن العمل الذي سينشأ بينهما ليتأكد عقلها من الخبر الذي يرفضه قلبها
رمت الجهاز اللوحي جانبا لتنهض واقفة تدور من حول نفسها .. قلبها يؤلمها وروحها تختنق وهي تفكر في ارتباطه بأخرى غيرها فتغمض عينيها بصلابة وتمنع نفسها من بكاء كادت أن تستلم إليه وهي تشعر أنها على حافة الإنهيار ، ولكنها كابرت وعاندت وهي تتجه نحو دورة المياه الخاصة بغرفتها فتحصل على حمام سريع أنعشت به روحها قبل أن تخرج وهي تنشف خصلاتها التي تحمل وهج أحمر بني يضيء وجهها النضر ببياض بشرتها المحمر فتضحى بهجة للناظرين ، فهي رغم ملامحها المنمنمة والتي تشي ببراءة و طفولية تجسدت في جسد صغير .. رفيع .. أنوثته ليست فائرة ، إلا أنها تعي جيدا تأثيرها على الذكور من حولها ، سواء زملاء دراستها الذين يتقربون إليها بتودد أو الشباب العاملين من حول أبيها والراغبين في قربها والارتباط بها ، ولكنها لم تأبه بأحد غيره ، حتى الآخر الذي اقتربت منه رغبة في التعرف على ذاك الذي يتحدث عنه سليم باستمرار ولتكون بالقرب من سليم دوما ـ فمعرفتها الوثيقة بابن عمته وصديقه المقرب يجعلانها تتقرب إليه أكثر عن ذي قبل ، ولكنها اصطدمت بعادل الذي لا تنكر أنه لم يروقها بغموضه .. بغضبه .. بغروره الذي يفوح منه فابتعدت بنفور سكن روحها ولكنها ابتعدت متأخرًا – للأسف - بعدما أدرك الآخر مقصدها بسهولة ويسر عائدان لذكائه المقيت واللامع بحدقتيه السوداويتين بطريقة مخيفة ، فهو اكتشف أنها تقربت منه لأجل أن تظل قريبة ممن ملك قلبها دون أن يدري ، اقتربت من مرآتها أكثر تنظر لنفسها من خلالها وهي تتساءل أم لعله يدرك ولكنه لا يأبه ؟
لمعت دموع حبيسة بزرقاويتيها فرفعت رأسها بشموخ وعنفوان وهي تستل مشطها الإلكتروني والذي تستخدمه لتجفيف شعرها وتجعيد خصلاته الملساء إذ أرادت فتضبطه كيفما تريد قبل أن تبدأ في تسريح خصلاتها الناعمة الحريرية لتتركها بتجعيدات خفيفة تمنحها مظهرا بريا لا تفضله والدتها ولكنها لم تهتم، برقت عيناها بعناد حينما تذكرت رؤيتها له البارحة صباحا، كان يساعد أسعد في رص بعض الأشياء التي تخص بيت الأخير بينما وصلت هي برفقة أميرة كي تقومان بالإشراف على العاملات اللائي يقمن بتجهيز أشياء العروس ، لقد تبادل معها الحديث المرح كعادته ، ولكنها لم تقوى على الثرثرة معه كعادتها بل إنها نظرت إليه بعتاب سكن عيناها بوضوح أجبره أن يسألها عن سبب ضيقها الواضح منه ، فابتسمت بتوتر وأجابته بلا شيء وهي تتحاشى النظر إليه قبل أن تهرب مبتعدة عنه وتنغمس مع أميرة في كل التحضيرات التي تقام ببيت ابنة عمها أول حفيدة لآل الجمال الفخورة بابنتها والمتعاونة على إسعادها رغم حزن الأخيرة غير المفهوم بالنسبة لها .
تنفست بقوة وهي تعدل من خصلاتها التي أنهت تصفيفها لتبدأ في وضع بعضا من الزينة الثقيلة التي شعرت بانها تحتاجها ، فهي تريد أن تبدل هذه الطفلة التي تنظر لها لامرأة كبيرة تملك جمال فاتن تدرك وجوده بداخلها ، لتبدأ بوضع زينتها وهي تفكر في حال ابنة خالها التي ترتبط بفارس أحلامها الذي أحبته واحبها منذ صغرهما ليكلل حبهما بارتباط علني ورسمي وزفاف سيقام بعد يومان ، فتتعجب من حزن ابنة عمها وتوترها البادي على ملامحها ، فتضحك بتهكم وعقلها يحدثها أن لا يوجد بشري على وجه الأرض سعيد سعادة تامة .. كاملة ، توجهت لغرفة ملابسها فتستخرج أحد فساتينها المحرم عليها ارتدائها ، بلون أحمر قاني فترتديه ببطء وهي تراقب أنوثتها التي توجت بعري صدر كشف عن أول نهديها وخصر رقيق أظهره التصاق قماش الفستان بجذعها وساقيها الممتلئتان بطريقة أكثر من جيده والظاهرتان إلى منتصف فخذيها بسبب قصر الفستان الأشبه بقميص النوم كما علقت عليها والدتها حينما ابتاعته في فورة جنون ألمّ بها من قبل ورغم اعتراض والدتها وصياحها بأن تعيده للمتجر الذي ابتاعته منه إلا أنها احتفظت به وهي تتخيل بانها سترتديه ذات ليلة لزوجها .
ومضت عيناها بزرقة لامعة وهي تنظر لنفسها برضا فتبتسم لنفسها وتمأ بالتحية لصورتها في المرآة قبل أن تتجه بخطوات رزينة بعدما انتعلت حذاء عالي أزاد طولها ما يقارب الخمسة عشر سنتيمترا فغدت أنثى كاملة كما هُيأ لها لتغلق باب غرفتها عليها تجنبًا لهجوم مترقب من والدتها وخاصة بعدما أدارت مشغل الموسيقى الحديث الواصل بهاتفها فتاتي بالأغنية التي أدارها البارحة في برنامجه الذي حاولت ألا تستمع إليه وهي تقنع قلبها أن لا أمل من تعلقها به ولكنها لم تقوى على الابتعاد بل استمعت إليه كاملا لتفاجئ به يهدي الأغنية الأخيرة له في مرح ظلل نبرات صوته بتمازج مع حيرة شعرتها بحدسها لتتأكد منها حينما تهادت الأغنية القديمة التي تخص عمته إلى أذنيها فصفعتها كلماتها .
القناعة كنز لـ يلي اقتنع .. بس نحنا مركبين على الطمع
لامست هاتفها تزيد من ارتفاع صوت الموسيقى الهادئة ليأتي صوت إيناس الشجي فيملأ أذنيها لتتحرك نحو كاميرتها المثبتة بطريقة تمنحها صورة مجسمة للغرفة قبل أن تسقط على الحائط فتنعكس بصورة مجسمة لما تصوره ، فتتحرك بانسيابية على نغمات الأغنية الحزينة وكلماتها التي تمس عمق روحها وهي تشدو بنبرات باكية رغم جفاف دموعها
عم جرب حبه وقف .. انا عم جرب مش عم اعرف
عم جرب الحق عقلي والمنطق شو بيقلي .. عم جرب مش عم اعرف
فيهتز خصرها بدلال راقص وهي ترفع خصلاتها عن وجهها بكفيها ويعلو صوتها مع صوت إيناس القوي
يا بتفكر يا بتحس .. لا ما فيك تقف في النص
ولا فيك تاخد كل شيء .. نقي واحد مننٌ بس
يا بتفكر يا بتحس
تمايلت بجسدها وهي تدور من حول نفسها في حلقات لا تنتهي ، تنفصل عن عالمها تتوحد مع الموسيقى الشجية وصوت إيناس القوي فتتعالى أوجاع روحها التي أيقنت من خسارتها لحلم تمنته منذ صباها ولكنه غدى حقيقة مغايرة لما أرادت براءة تفكيرها ،
فتدندن بشدو حزين وهي ترفع رأسها لأعلى وتتمايل بجسدها في رقصة أقرب لاحتضار روح يئست فقررت مغادرة الجسد
اي شخص عنده نقص .. لو اد ما بين كامل
تاكد بده اشيا كتير .. عندك اياها ومش سائل
دنيا ما بتكمل مع حدا .. شو نحنا ما بنستاهل
بس اوقات بتظلمنا .. وعم يطلع ظلما عادل
يا بتفكر يا بتحس – شيرين
لتتوقف أخيرًا أمام مرآتها وصوت إيناس يفيقها بقوة نبراته وهي تنهي أغنيتها التي لم تكن تدري عنها قبلما تستمع إليها البارحة ولكنها أعجبتها وقررت الاحتفاظ بها فتغمغم معها وهي تنظر لعمق عينيها من خلال مراتها : يا بتفكر يا بتحس .
تنفست بعمق وهي تبتلع غصة بكاء تكومت بحلقها فتومض زرقة عيناها من خلف ظلال جفنيها السوداء ليسكن الغموض مقلتيها قبل أن تبتسم لنفسها ثانية بثت لروحها ثقة فترفع راسها بعنفوان جُلبت عليه .. وشموخ أورثته لها جيناتها ، لتنفض خصلاتها المبعثرة حول وجهها بفتنة طاغية وابتسامة ماكرة تشكل ثغرها وهي تهمهم بصوت أبح : أنتِ ملك عابد لن يهزك قلبك ولن يكسرك عقلك ،
أخفضت عيناها لترفعها من جديد وهي تضحك بخفة وتتذكر قول الآخر فتردد على مسامعها بقوة : هاك يا دكتور ، سأكون نصف أرنب نصف أسد ، فقط لا تتذمروا من تحولي .
سحبت نفسا عميقا تغلل لرئتيها قبل أن تزفره ببطء فتستعيد هدوء أنفاسها لتتحرك بهدوء نحو غرفة ملابسها من جديد تخلع حذائها وتتبعه بفستانها وتزيل زينتها بجدية قبل أن ترتدي ملابس تبدو عاديه ولكنها مختلفة عن انتقائها التقليدي لتترك خصلاتها بمظهرها الجامح فهي تروق لها وهي تستعد لتذهب مع ابنتي خالها لمساعدة عروس عائلتهم في رص ملابسها كما تطوعن ثلاثتهن .
***
ينظر إلى الأكياس الكثيرة الموضوعة فوق طاولة المطبخ ليسأل بتعجب : ما كل هذا يا لولو؟! هل ابتعت المتجر المجاور أم ماذا حدث لتبتاعي كل هذه الأشياء ؟!
ابتسمت برقة واستدارت إليه تنظر لشعره المنكوش ووجهه المنتفخ من آثار النوم لتهمس بعتاب : لم تكن لتستيقظ لولا رنين هاتفك المتواصل ، أتبعت بمكر ومض بعينيها - لعله خير سبب استيقاظك يا دكتور مازن.
ضحك مازن بخفة ليتجه نحوها يحيط جسدها بذراعيه يحتضنها ويقبل قمة رأسها بحب قبل ان يهتف : بدأنا نغار يا أستاذة .
ابتسمت لتشاكسه : إذًا كانت هي كما توقعت من أيقظتك ؟
ابتسامته المتلاعبة رسمت شفتيه ليجيبها ببراءة : تقصدين جنى ؟ أتبع بغمزة شقية - فهي من كانت تتصل .
رفعت حاجبيها بتعجب : حقا ؟
ضحك بمرح وهو يتجه للمبرد الكبير يلتقط علبة اللبن البلاستيكية يفتحها ليعب منها بشراهة قبل أن يجيبها : جنى وأميرة ونوران أيضا بنات الجمال اتفقن على ايقاظي من النوم ، جنى تريد بعض الأشياء سأذهب بها إليها ، ونوران تؤكد علي الذهاب مع أدهم ليلا لقياس السترات المجهزة لنا عند الخياط أما أميرة هانم عاتبتني بحنق لأني لم استيقظ للان وأني نسيت وعدي لها بأني سأجاور علي في بعض تجهيزات القاعة وأنا لم أنسى من الأساس، أتبع وهو يضع العلبة الفارغة على الرخامة العريضة بجوار حوض المغسلة : هل اتفقت معهن أن يفعلن ؟
بادرته بعتاب أمومي : كم مرة أخبرتك أن لا تشرب الحليب هكذا ، هاك الأكواب أمامك ، لوى شفتيه برفض غير منطوق فتضحك مرغمة قبل أن تجيبه بمشاكسة على حديثه السابق – لتعلم أني لم اتفق مع بنات آل الجمال ولكن الله يعاقبك على إفراطك في السهر البارحة .
أتبعت وهي تشير بسبابتها بعدما استدارت تنظر اليه : ولا تنكر من فضلك استيقظت لأصلي الفجر ووجدتك مستيقظا تتحدث عبر هاتفك ولولا أني أعلم أنك اليوم لن تذهب إلى جامعتك لكنت وبختك حينها لاستيقاظك .
ضحك بخفة ليجيب بعفوية : كنت أحدث أدهم وعلي الدين ونتفق على ما سنفعله اليوم ، صمت قبل أن يتابع موضحا - فديجا لا تتواصل مع أحد بعد منتصف الليل حتى إن كانت مستيقظة .
اتسعت ابتسامتها لتقترب من تقرص وجنته وتهتف به : فتاة جيدة ، ضحك بخفة ليضمها إليه بقوة مقبلا وجنتها ليسألها بجدية - وأنت ما الذي يوقظك فجرا يا أستاذة لمياء ؟ هل لازلت تنتظرين عودة بابا لتطمئنني عليه أم لا تقوين على النوم دونه .
رف جفنها بعصبية لتجيبه بهدوء وهي تبتعد تبدأ برص بعض الأشياء في حقيبة كبيرة تشبه حافظات الطعام : بابا كان لديه مناوبة البارحة لذا لن يعود قبل موعد الغذاء اليوم .
تنفس بعمق وتأملها قليلا ليثرثر بهدوء وعدم اهتمام اتقنه : تعلمين بالطبع يا لوما أن بابا جراح كبير وأمر المناوبات الكثيرة هذه الأيام غير مقنع ، فأبي يقوى على أن لا يناوب أو لا يقضي الأيام نائما في المشفى ، بل من يماثلونه سنا ومكانة علمية يذهبون فقط لإجراء جراحاتهم ومراجعة مرضاهم وكل العمل يتركونه على الأطباء الصغار المعاونين لهم .
استدارت لتخفي ملامح وجهها الشاحبة عنه قبل أن تجيبه بجدية : ولكن أبوك مختلف يا مازن ، إن مسئولياته كثيرة وأنا اقدرها بل ومن واجبي أن اسانده ليقوم بها
أطبق فكيه ليصمت مضطرا قبل أن يقترب منها ويساعدها في رص المعلبات التي ابتاعتها مبدلا الحديث الذي ترفض أن تخوضه معه : كل هذا سيذهب لبيت جنى ؟!! أومأت برأسها فاتبع بتساؤل متفكه - والطواجن التي تعدينها من البارحة ستذهب لجنى أيضا ؟!
تمتمت بجدية : نعم حتى تكن سهلة الطهو فلا أكلفها مشقة إعداد الطعام .
رفع حاجبيه ليسأل بعفوية : والطواجن التي تعدها عمتو لأجلها أيضا ، أتبع متفكهًا - ألن يفعلا شيئا سوى الأكل ، ما هذا الطعام كله ؟!
هدرت فيه بحنق : سمي الله يا ولد
صفق كفيه ببعضهما ليجيب بعدم فهم : لا إله إلا الله ،
تمتمت لمياء بتورد داعب وجنتاها : عمتك تعد طعام ليلة الزفاف .
قفزا حاجباه بتعجب ليهمس بعدم فهم : ألن يأكلا في الزفاف ؟! ما فائدة الطعام الذي تعده عمتي اذًا ؟
أجابت لميا بنزق وهي تشعر بالحوار يحرجها : إنها العادات والتقاليد ، ستكبر يوما وحينها أنا ساعد لك عشاء زفافك ، ولن استجيب لإيمان عمتك التي أقسمت هذه المرة أنها من ستعد طعام جنى بل حينها سأقسم أنا باغلظ الإيمان حتى تستجيب عمتك العنيدة .
ضحك بخفة ليضمها إلى صدره هاتفا : وأنا لن أرضى بطعامك بديلا يا حبيبتي ، ولكن لدي سؤال إذا سمحت لي ، نظرت إليه باهتمام فأتبع سائلا بتعجب - هل تتوقعن أن أسعد سيأكل كل هذا الطعام ليلة زفافه والأيام التالية الكميات كبيرة جدا يا لوما ؟
تمتمت لميا وهي تشعر بخجلها يحضر قويا فتجيب بمواربة : سيأكله هو وشقيقتك .
لوى شفتيه ليهتف بها : بالطبع لن يفعل ، إذا أكل ما تطهونه له سيخلد إلى النوم طوال أيام زواجهما وستكونان قضيتما على مستقبله بإذن الله .
شهقت بقوة لتهتف بزمجرة غير راضية : ولد يا مازن تأدب .
رفع رأسه بعدم رضا ليجيبها : يا لوما يا حبيبتي الرجل يريد أن يحافظ على كفاءته وليس على معدته امهلوه الفرصة من فضلكم .
رفعت وجهها إليه بصرامة لتشير إليه بحزم : إلى الخارج هيا وحينما تتعلم الأدب تعال وتحدث معي .
قهقه بقوة ليقترب منها يريد مصالحتها فتنهره بجدية : للخارج لن أكرر حديثي .
برم شفتيه بطريقة طفولية ليسألها بهدوء : أهون عليك ؟ تحاشت النظر إليه والتزمت الصمت ليهمهم بخفوت متبعا بطريقة طفولية يعلم أنها تؤثر بها - مس لمياء ستغضبين مني حقا ؟
ابتسمت والدموع تغرورق عيناها لتهمس بصوت أبح : لا تكن وقحا وانا لن أغضب أبدًا .
اقترب ليضمها من ظهرها إلى صدره العريض : حسنا اعتذر لن أكررها ثانية ، قبل جانب رأسها ليهتف بمرح متبعا - أرجوك يا ماما لا تغضبي مني.
اختلج قلبها وانتفض بسهولة لتنهمر دموعها دون سابق إنذار فتشنج في بكاء حاد لم يتوقعه ، هلع قلبه لها فأدارها إليه يحتضنها بقوة وهو يسأل بعدم فهم : ماذا حدث ؟! ماما ما بالك يا حبيبتي ؟! فقط أخبريني ، هل أغضبتك لهذا الحد ، أنا اعتذر لم أقصد أقسم بالله لم أقصد أن أضايقك.
هزت رأسها نافية وحاولت الحديث لتخبره أنه ليس السبب ولكنه لم يمهلها فرصة وهو يدفعها ليجلسها على كرسي قريب ويجلس بجانبها القرفصاء يكفكف دموعها بكفيه وهو يسأل باهتمام : أخبريني ما الأمر يا ماما ؟
انهمرت دموعها من جديد لتومض عيناه بإدراك ليسألها بلطف : هل تبكين لأني أدعوك بماما ؟! هل تضايقين حينما أفعل ؟!!
تنفست بعمق لتهمس بصوت ابح وهي تحتضن وجنتاه بكفيها : لا يا حبيبي ، مناداتك لي بها هو فضل ونعمة من الله .
رمقها بعدم فهم ليسألها باهتمام : إذًا لماذا تبكين ؟ هل لازلتما أنت وبابا متشاجران ؟!
رفت بعينيها لتجيب سريعا : من أخبرك أننا متشاجران أنا وأبوك ..
صمتت حينما رمقها بطرف عينه ليهمس بهدوء فغدى نسخة من ابيه بصوته ونظرته الحازمة : أنا لست صغير تدركين هذا، اليس كذلك ؟
تمتمت بحرج : حماك الله يا بني ، بالطبع أدرك .
تنفس بعمق لينهض واقف ينظر لها من علٍ ويسألها بجدية وهو يكتف ذراعيه أمام صدره : إذًا لماذا تتصرفين معي على هذا النحو وتنكرين علي ما الاحظه منذ مدة ولكني مؤثر الصمت ولم أشأ التدخل فيما بينكما ، اسبلت جفنيها دون رد ليتابع – كنت انتظر أن ينتهي الخلاف رغم طول الوقت ولكني كنت انتظر أما الآن بكاءك لا يرضيني يا ماما .
ألقاها وهو يزفر بحنق ويفك ساعديه بعصبية أحست بها فاحتضنت كفه القريب منها لتجذبه برجاء : ولأجلي ستظل صامتا ، لأجل شقيقتك وفرحتها التي لا أريد أن أفسدها عليها ، أرجوك يا مازن لا تتدخل ، نظر إليها برفض فاتبعت وهي تنهض واقفة تتمسك به وتحتضنه تستمد من دعمه المعنوي لها قوة تريدها فيضمها إليه بحنان موروث في جيناته – أنا لست غاضبة ، ثم لا تقف أمام أبيك لأجلي ، فأنا لست ..
دفعها بعيدا عن حضنه لينهرها بحزم مقاطعا لحديثها : ماما ، أرجوك لا تنطقيها .
تلعثمت لتهمس وهي تربت على صدره تسترضيه برقة : حسنا سأصمت ولكن اوعدني أنك الاخر ستصمت ، ولن تضايق أبيك ولن تغضب منه لأجلي ، مهما حدث .
أشاح بوجهه بعيدا فاتبعت برجاء وهي تضغط على ساعده بلطف : عدني يا مازن .
اهتزت حدقيته برفض لتتوسله بنظراتها فيزفر بقوة هاتفا بضيق : أعدك يا ماما .
ربتت على كفه لتبتسم بوجهه قبل أن تهتف بمرح حاولت أن تبثه إليهما سويا : هيا احصل على حمامك وبدل ملابسك إلى ان أعد إليك فطورك وأوقظ حور لتشاركنا الطعام .
تنهد بقوة ليمأ برأسه موافقا قبل أن يغادر المطبخ كاتما حنقه بداخله متمتما : يا الله يا بابا .
راقبته بطرف عينها حتى غادر لتلهي نفسها في إعداد الطعام غير سامحة لروحها بانهيار وشيك لن تتحمله وشوق شديد ينهك روحها ولكنها تجاهده ، رغم أنه حاول مرضاتها .. الاعتذار لها .. ومصالحتها أيضا حينما عاد يومها ولكنها لم تقبل ، لقد شعرت بحزنها يتضاعف حينها وهو يخبرها أنه خائف عليها وأنه لا يقوى على فقدان جديد يكون هو سببه، يومها أشفقت عليه ولكنها شعرت بخذلان لا تفهم سببه ، ربما لأنه أعاد حديثه ثانية عن فقدانه لزوجته أو ربما لأنه تحدث عن إجهاض الطفل ثانية وكأنه أمر مفروغ منه أو ربما لأنه لم يسألها عن حالها أو ربما لأنه ظل بعيدا عنها وكأنه يخط نهاية حتمية لزيجتهما، هزت رأسها بيأس وهي لا تعلم لأول مرة في حياتها ماذا عليها أن تفعل معه ؟!!
تكاثفت دموعها بعينيها لتحاول أن تمنع نفسها من بكاء أخر سيحزن قلب ابنها فاتجهت نحو حوض المغسلة فترمي وجهها بمياه بادرة صفعت وجنتاها مرارًا إلى أن شعرت بهدوء يعم على روحها فتعاود لإعداد طعام سيجمعها بابن روحها .
***
يجلس بصالة الفيلا الحديثة والعائدة لأسرتها التي لم يتبقى منها سواها فهو حينما كان على علاقة بها كانت والدتها متوفاة والآن أصبحت ليس لديها أحد كما بكت وهمهمت أمامه من قبل في أيام انهيارها الأولى . فهو لم يتركها منذ وفاة والدها بل ساعدها في كل شيء وخاصة بعدما علمت والدته بأمر وفاة أباها فأصرت أن تحضر العزاء وأجبرت يمنى غير الراضية على الحضور معها ولكنها اطاعت أمهما في الأخير وصحبتها ، والدته التي التزمت صمت لم يدرك سببه ولكنه لم يسأل فهو مشغول بين عمله وتحضيرات عرس أخيه وزيارتها اليومية ليطمئن عليها فبعد بضعة المشاكل التي حدثت بينها وبين عائلة والدها المتبقية لم يبرح جانبها خوفا عليها وخاصة أنها ترجته ذات ليلة ألا يفعل بل هي نهنهت في بكاء مكتوم وهي تتمسك بكفه القريب تحتضنها بين راحتيها هامسة : لا تتركني يا عادل ، أنت من تبقى لي الآن ، الله أرسلك لي حتى لا أصبح وحيدة في هذه الدنيا بعدما يموت بابا ، لتشنج في بكاء حاد حزنا على أبيها فيحاول أن يهدئها بالقول إلى أن توقفت عن البكاء .
وضع فنجان قهوته الذي أعدته إليه العاملة حينما استقبلت وصوله فيجلس يحتسيها بهدوء منتظرا خروجها الذي لم يتأخر.
اعتدل بجلسته وهو يستقبل خروجها الهادئ يبتسم برزانة وعيناه تدور عليها دون وعي منه من أخمص قدميها المزينتان بحذاء عال أنيق لونه عاجي ساقيها المكشوفتان إلى ما قبل ركبتيها المختفيتان خلف ردائها الأسود الضيق يحدد خصرها الدقيق ويتسع من فوق إلى أن يضم عند رقبتها بحزام ستاني مربوط بكمين يحددان ذراعيها الرفيعة ابتسمت بترحاب وهي تقترب منه لتهمس بتحية المساء فيجيبها وهو ينهض واقفا بأناقة فتضحك برقة : مهما ارتديت أحذية ذات كعوب عالية يظل فارق الطول بيننا واضحا .ابتسم برزانة وآثر الصمت ليعاود الجلوس حينما أشارت له أن يفعل ليسأل باهتمام : كيف حالك اليوم ؟
اغتمت عيناها بمسحة حزن لتهمس : بخير الحمد لله .
كح بخفة ليثرثر إليها بجدية : حبيبة أخبرتني اليوم أن إجراءات استلام الميراث ستبدأ الأسبوع القادم ، وأنها توصلت لاتفاق جيد مع عميك .
أومأت برأسها لتهمس بامتنان : نعم بالفعل ، أستاذة حبيبة محامية ممتازة لقد اوصتني أن لا أتحدث في الجلسة وأدارت هي الإتفاق مع محامي عمي وكانت النتيجة مذهلة لن أتخيل يوما أنهما سيرتضيان أن يتركا لي البيت ، فهما كانا طامعان في الفيلا كثيرا وخاصة أن لدي شقة خاصة بي تركها لي زوجي الراحل ولكني لا أسكنها .
رف جفنه بتتابع ليشتد جسده بصلابة متحكما في صدمته لكنها أدركتها من عينيه اللتين اشتدتا بقساوة شعرتها فاتبعت ببوح أدركت أنه حان وقته : لقد تزوجت بعدما أنهيت دراستي الجامعية ولكن زوجي توفى قبل سنتين وترك لي بعض الأشياء منها الشقة التي أحدثك عنها.
أومأ برأسه متفهما ليردد بجدية : رحمه الله .
ترحمت على زوجها بخفوت ليهتف بحزم : بالطبع أعلم أن الظروف غير مواتية ولكن تعلمين أن زفاف أسعد بعد يومان وجب علي أن أدعوك ولكني سأتفهم إذ لم تأتي .
ابتسمت برقة لتهمس بحرج : والدتك حدثتني اليوم لتطمئن علي وأخبرتني ولأجلها ولأجل ما فعلته معي على مدار الشهر الماضي يا عادل سآتي .
أتبعت بامتنان : ليس بمفردك بل أنت وعائلتك بأكملها أشعر بالامتنان الشديد لها لذا لا أقوى على رد دعوتكم .
تنهدت بقوة لتهمس بحزن : ثم سآتي لعلني اتناسى حزني معكم قليلا .
ابتسم وهمس بصدق : ستنيرين الحفل يا لارا .
توردت وجنتاها لتجيبه وهي تنظر لعمق عينيه بحدقتيها الخضراء الوامضة بشكر فينهض واقفا : سعيد أنك أصبحت بخير .
صافحته بامتنان : شكرا لك يا عادل لا أعلم كيف أرد لك كل ما فعلته معي .
ابتسم برزانة وهو يخطو نحو باب بيتها : لا شكر على واجب يا لارا ، أنت صديقتي ومن واجبي نحوك أن أكون بجانبك حينما تحتاجين لي .
رفعت بعينيها لتهمس سائلة : ستمر لتصحبني إلى زفاف أسعد .
توقف قبل أن يغادر لينظر نحوها لوهلة قبل أن يجيب بجدية : للأسف لن أقدر فأنا سأكون بجوار شقيقي ليس من اللائق أن اتركه في ليلة عرسه
ابتسمت والحرج يعتلي ملامحها : نعم معك حق ، سآتي بمفردي .
تمتم وهو يغادر فعليا : أراك على خير .
ودعته برقة : بإذن الله .
أغلقت الباب من خلفه بعدما غادر لتغمض عينيها وعقلها يفكر فيه ، فهي لم تتخيل أبدا أن بعد كل هذه السنوات التي مرت على نهاية علاقتهما التي خطتها هي بابتعادها عنه سيتقابلان من جديد ويجاورها في مصابها .. بل يساعدها ويحميها ويضعها تحت رعايته ، لقد تصرف برجولة ظنت أنها اإندثرت من حولها ليظهر هو من أمامها مثبتا أنه مختلف عن كل البقية التي عرفتهم من بعده حتى زوجها الراحل لم يكن مثله رغم أنه كان يرعها ويدللها ولكن عادل مختلف عن الجميع يكفي هيبته .. رزانته .. ثقل شخصيته .. وعائلته ، تنفست بعمق لتتحرك نحو غرفتها وهي تفكر في قرار حضورها لحفل زفاف شقيقه هل هو قرار صائب أم هي تسرعت في قبول دعوته !!
***
تقف أمام حقيبة كبيرة تحتوي على ملابس العروس التي ترص في غرفة ملابسها بمنزلها الذي ستسكنه تعبس أميرة وهي تنظر لمحتويات الحقيبة قبل أن ترفع رأسها لجنى الجالسة بوجوم غير مفهوم سببه فتتنهد بقوة قبل أن تسألها : جنى أين قمصان النوم الحريرية ؟ أنا لا أرى هنا سوى أطقم للعمل وللخروج ولاستقبال الضيوف ومنامات شتوية لا أفهم ما سبب وجودها من الأساس !!
توردت جنى بعفوية ليأتيهن صوت نوران الضاحك والتي تنظر للعطور وعلب الكريمات الخاصة بالبشرة وأدوات الزينة التي ترصها بأدراج قطعة كبيرة موضوعه بجانب غرفة الملابس : سبب وجودها أن جنى سترتديها فالجو بارد وأنت تعلمين ابنة عمك تشعر بالبرد سريعا.
كتمت ملك ضحكتها وهي تساعد أميرة في رص ملابس جنى بالشماعات لتعلقها في أماكنها المخصصة فتنهر أميرة نوران بصوت خفيض صدر من بين شفتيها بينما زجرت ملك بعينيها قبل أن تلتفت إلى جنى التي احتقن وجهها بحمرة قانية ثم تجيب : بالحقيبة الصغيرة فلميا أصرت أن تضعهم سويا وهي تخبرني أن لهم مكان مخصص بالصوان مغلق غير كل بقية أماكن الملابس.
أومأت أميرة دون حديث لتتحرك نحو الحقيبة وقبل أن تحملها صرخت بها نوران ألا تفعل لتنهض جنى وهي تهتف بحنق : أخبرتك أن لا ترهقي نفسك وأن تجلسي ولا تفعلي شيء و هاك نوران وملك يرصان الأشياء وستأتي بعد قليل يمنى وحبيبة ويساعدوننا في البقية قبل أن تصل بقية نساء العائلة ولكنك تصرين على فعل كل شيء.
برمت أميرة شفتيها باعتراض لتكمل نوران التي ساعدت جنى في رفع الحقيبة لوضعها فوق صوان صغير فأصبحت في متناول يدي أميرة الواقفة : ولماذا لا ترهق نفسها وتتعب ونذهب بها للطبيب أخر الليل كالليلة الماضية ، احمد الله أني كنت نائمة معها بالغرفة حتى أقوى على الاستماع لها فنهضت مفزوعة على تأوهاتها وايقظت أدهم الذي ركض بنا للمشفى قرب الفجر ، أتبعت وهي تغمز لجنى بطرف عينها دون أن تلاحظ أميرة - ولن أخبرك إن بسببها صباحا كان آل سليمان جميعهم عندنا للاطمئنان عليها.
ابتسمت جنى رغم عنها لتهتف ملك بافتعال متفهم : اها لذلك إذًا ؟!
تبادلت نوران وملك النظرات الوامضة بشقاوة فسألت جنى بعدم فهم حقيقي : إذًا ماذا ؟!
حركت ملك رأسها بحركة طفيفة وعيناها تلمع بشقاوة : أنها ترهق نفسها ليأتي أبيه أحمد ويطمئن عليها دون أن تتواصل معه .
فرقعت نوران بأصابعها في إشارة لصحة حديث ابنة عمتها لتهتف بها بضحكة مكتومة : كان شاحب الوجه ومنزعج يا لوكا كما لم أراه من قبل ولكن شقيقتي القاسية لم تحن عليه بل ظلت على عنادها وأجابت حديثه باقتضاب مغيظ.
رمقتهما أميرة من خلف رموشها : هلا توقفتما عن الحديث من فضلكما ؟
لوت نوران شفتيها برفض بينما هتفت ملك بإحباط : فقط لو تخبرينا يا ميرا لماذا أنت قاسية معه هكذا ، أبيه أحمد يحبك كثيرا بل أنا لم أرى من يحب امرأته مثلك ولكنك ..
قاطعتها جنى بجدية حينما لاحظت تشنج ملامح أميرة : ملك من فضلك اتفقنا أننا لن نتحدث في هذا الأمر فكل إنسان أدرى بما يخصه .
تنهدت ملك بقوة وأومأت برأسها لتهتف برقة : المعذرة يا أميرة .
ابتسمت أميرة برقي : لا عليك يا لوكا ، أتبعت وهي تشير إليها وإلى نوران - تعالي أنت وشقيقتي التي أصيبت بعدوى الدفاع عن أحمد مثل البقية لتختارا معي .
قفزت ملك واقتربت نوران لتنظرا سويا إلام تريد أميرة التي بدأت تقلب في محتويات الحقيبة قبل أن تسأل جنى بجدية : جنى هل أنطي لميا وضعت القمصان البيضاء بمكان خاص في الحقيبة ؟
هزت جنى كتفيها بعدم معرفة لتبدأ الفتيات بالبحث في الحقيبة بناء على أمر أميرة التي نطقت بجدية : القمصان البيضاء والعاجية فقط البقية لا تهم الآن
عبست نوران بتعجب : لماذا ؟
أتبعت وهي تخرج إحداهن من الحقيبة : انظري هذا .
__أووه ، هتفت ملك بانبهار لتتبع بانفعال - ولونه القرمزي القاني يليق بجنى وبشرتها الشاحبة .
ابتسمت أميرة وهي تنظر القميص الحريري القصير للغاية لتكتم ضحكتها وهي تلتفت لجنى التي اتسعت عيناها بارتياع قبل أن تختطف القميص من بين كفي نوران هاتفه : لا طبعا لن أرتدي هذا أبدًا ، تبادلتا الفتاتان النظرات بتعجب قبل أن تزفر أميرة بقوة ثم تستدير بكليتها لجنى ترمقها بهدوء فتتابع جنى بخجل - خاصة ليس بأول الأيام.
تنهدت أميرة بقوة لتهتف بجدية : أنه ليس مناسبا بالفعل للأيام الأولى ولا لليلة الزفاف ، فليلة الزفاف لابد أن يكون القميص أبيض أو على الأقل عاجي ، اتبعت وهي تطمئن جنى بعينيها - وسننتقيه مغلق وطويل .
رفت جنى بعينيها لتخفضهما بحرج فتلوى نوران شفتيها مهمهمه برفض : مغلق وطويل ، ذكريني يا ميرا أن لا تنتقي لي قميص النوم الخاص بليلة الزفاف.
ضحكت أميرة بخفة فتتهكم ملك بمزاح : واو سترتدين قميص نوم ؟
هزت نوران كتفيها لتجيب بلا مبالاة : أفكر أن لا أفعل فهو بالأخير لا فائدة منه .
شهقت جنى بقوة بينما تعالت ضحكات ملك الشقية لترفع أميرة عينيها فوق هاتفه بمرح: يا الله لو استمع لك ابي سيصاب بأزمة قلبية بسببك .
هتفت ملك من بين ضحكاتها : أدعي لعاصم فشقيقتك ناوية أن تطير عقله .
فرقعت نوران بأصابعها في وجه ملك : هاي لا شأن لك أنت ، ثم هو فقد عقله وانتهى الأمر.
تعالت ضحكاتهن ما عدا جنى التي سكنت بمكانها فالتقطت سكونها أميرة التي أخرجت إحدى القمصان من الحقيبة فاستدارت لها تفرده أمامها : انظري يا جنى هذا جيد ومعه مئزر أيضا.
ازدردت جنى لعابها لتهمس : قصير يا أميرة .
هتفت نوران بتبرم : لا ليس قصير فهو سيصل لركبتيك ومئزره أطول قليلا ، أتبعت برفض - هذا ليس جيدا يا أميرة ، ارحموا الرجل قليلا هذا القميص لا يفرق شيئا عن المنامة التي كانت تنوي ابنة عمك ارتدائها للمسكين الذي سيصدم بسبب انتقائكما لأشياء غريبة
أتبعت وهي تتجه للخارج : أنها ليلة زفافهما هل ستتحجب ليلة زفافها ، انتقوا شيء قصير.. عار مفتوح وليست هذه القمصان التي تعلم المرء الفضيلة.
تعالت ضحكات ملك من جديد لتهتف بها أميرة وهي تراقب استعدادها للانصراف فتتجاهل الإجابة على حديثها وتسألها مستفسرة عن سبب انصرافها : أين تذهبين ؟
أجابتها وهي تحمل اشيائها وترتدي حذائها : لدي موعد عمل ثم أنا أنجزت المهمة الخاصة بي لذا سأنصرف .
رن جرس الباب لتهتف ملك : ها قد وصلوا .
هتفت نوران : سأذهب لأفتح أنا واسلم عليهن قبل أن أغادر، أشارت أميرة لملك بعينيها فهتفت متفهمة - انتظري يا نور سآتي معك .
تنهدت أميرة بقوة واستدارت لابنة عمها – بعدما غادرتهما الفتاتان – فالتقطت ارتجاف جسد جنى برعشة أثارت مشاعر أميرة لتقترب منها بعدما أغلقت باب الغرفة عليهما من الداخل لتجذبها إليها تضمها بقوة وتهمس بحنو : ما بالك يا حبيبتي ؟ أخبريني يا جانو ، بوحي بم يؤرقك يا ابنة عمي.
نهنهت جنى ببكاء تحاول أن تكتمه : لا شيء ، تمتمت أميرة باسمها في رجاء لتتابع جنى وهي تمسح وجهها بكفيها - أنا بخير فقط مضغوطة بسبب الركض غير النهائي بين العمل والتحضيرات والزفاف وصالون الزينة أشعر بأن هناك مئات الأشياء من المفترض أن افعلها وأنا لا أقوى على إنجاز حتى نصفها .
تنهدت أميرة بقوة لتربت على كتفها وهي ترمقها دون اقتناع : كل شيء سينجز لا تشغلي راسك أنت استرخي فقط وكل شيء سيكون على ما يرام .
ابتسمت جنى بتوتر لتهتف بأميرة : بإذن الله ، أتبعت بتساؤل - أليس من المفترض أن تذهبي أنت وملك لعمتو ؟
أومأت أميرة برأسها : سنفعل فعمتك تريد مني أن أتحدث مع منسقة الزفاف وملك ستعود للبيت لأجل بعض الأشياء الخاصة بها .
أومأت جنى برأسها متفهمة لتهتف بها : حسنا هيا اذهبا فيمنى وحبيبة وصلتا فلا تخافا لن أبقى بمفردي .
ضمتها أميرة لتقبل وجنتيها : سأعود مع عمتك وابنتها ثانية وسآتي لك بقميص نوم خاص بليلة زفافك فأولئك لم يرقني أحدهم ونوران محقة لابد أن يكون قميص ليلة الزفاف مميزا كالليلة نفسها يا جنى .
ابتسمت جنى ورفت عيناها تزداد لتتأكد أميرة من حدسها ولكن آثرت الصمت وخاصة برنين هاتف جنى التي همست بلهفة : أعتقد أنه أسعد .
ابتسمت أميرة بحنان لتهتف بابنة عمها : حسنا تحدثي على راحتك .
ألقتها وهي تغادر الغرفة لتترك جنى التي أجابت الاتصال بلهفه وتهتف بعفوية وصدق : اشتقت إليك يا أسعد.
***
زفر عمر بقوة ليهمهم سائلا : أريد أن أفهم لماذا تسحبني معك هكذا ؟! ولماذا أتينا إلى هنا ألن تحضر ليلة الحناء التي تُقام في منزلكم ؟
أجاب بجدية وهو يدور من حول أنحاء المنزل الصغير : سأخبرك الآن ، فقط انتظر ، أتبع أسعد بنزق – وبالطبع سأفعل هل أقوى على عدم الحضور ليلة الحناء التي تصر عليها ماما؟!!
رفع عمر حاجبيه بدهشة قبل أن يعبس بتعجب وهو ينظر إليه يدفع الباب الزجاجي قليلا فتومض عينا أسعد ببريق انتصار ليهمس : ها هو ذا .
رمقه عمر بعدم فهم قبل أن يسأل بجدية : هلا أخبرتني ماذا تفعل ؟!
أجاب اسعد بتلقائية : أبحث عن منفذ للداخل .
نظر إليه عمر بدهشة : ألا تملك مفاتيح المنزل ؟!
زفر أسعد بقوة ليغمغم بحنق : بلى املكها طبعا .
لاحت الصدمة على ملامح عمر الذي هتف بضجر : إذًا ادلف من الباب بطريقة طبيعية
لوى أسعد شفتيه بنزق : ليمنعنني من رؤيتها كالمرات الماضية .
ارتفعا حاجبي عمر بصدمة ليسأل على الفور : من هم ، ولماذا يمنعونك ؟!
تنهد أسعد بقوة : خطيبتك المصون وشقيقتي الغالية ، بناء على أوامر أمي ، أن لا أرى العروس ليوم الزفاف ، أطبق فكيه ليكمل بضيق - وهي وافقت أمي وأنا رأسي ستنفجر .
كتم عمر ضحكته حتى لا يغضبه أكثر ليسأل بابتسامة لطيفة : والآن ماذا ستفعل معهما ؟
ومضت عينا أسعد بمكر : هذا دورك يا بطل ، اشغلهما واجبرهما على مغادرة البيت حتى أدلف أنا للداخل .
اعتلى الذهول ملامح عمر ليهمهم : ولكن هذا لا يليق يا أسعد ، أنت لا تراضاها لي .
عبس أسعد ليهدر بخشونة : إنها زوجتي يا عمر ، ثم أنهما دقيقتان فقط ، ظهرت الحيرة بحدقتيه الزرقاء فاتبع أسعد بأقناع - اذهب بم أتيت به أنا للداخل واشغل معك حبيبة .
همهم عمر بعدم اقتناع : سأقوى على إقناع حبيبة وأن اشغل عقلها معي ولكن يمنى ستلتقط الأمر من أول وهلة يا أسعد ، ثم بأمانه انا لا اقوى على شقيقتك .
زم أسعد شفتيه ليهمس بجدية آمرة : حاول لأجلي .
سحب عمر نفسا عميقا ليهمهم : حسنا ولكن تذكر أنت مدين لي بواحدة .
أشار أسعد على رقبته : دين وجميل لك في رقبتي يا عمور .
زفر عمر وهو يحمل العلبة الكرتونية ويقف أمام باب المنزل بعد أن رن جرسه منتظرا أن يفتح له أحد وعينه ترمق أسعد المتخفي بجانب الحائط الخارجي ليفتح الباب اخيرا ويطل وجه يمنى التي نظرت اليه بدهشة قبل أن تهتف : عمر ، تفضل مرحبا بك .
ابتسم عمر بتوتر ليهتف : المعذرة أني أتيت ولكن أسعد أجبرني على أن أجلب لكن الطعام بدلا منه .
عبست يمنى بتعجب وهمست بتساؤل : أين هو إذًا ؟!
كح عمر بحرج ومد كفيه لها بحافظة الطعام الكبيرة نوعا ما فحملتها منه لتهتف : إذًا تعال حبيبة بالداخل .
عبس بتعجب قبل أن يهتف بحنق تقمصه كما استطاع : حبيبة هنا ، كيف هذا ؟
لوهله توترت يمنى قبل أن يصدح صوت حبيبة : لم أصدق اذناي حينما سمعت صوتك أنت هنا ؟!
هتف بحنق انطلى عليها على الفور : بل لا أصدق أني أراك هنا يا أستاذة ، كيف تكونين هنا وبيننا موعدا ؟!
عمت الدهشة ملامحه حبيبة لتجيب بتلعثم : موعد ، أي موعد هذا ؟!
كتف ساعديه ولم يهتم بإجابة سؤالها ولكنه هتف بغضب رسمه فوق ملامحه : كنت سأعود من أجلك إلى منزلكم حتى أصحبك يا حبيبة ، كيف لا تخبريني حينما بدلت مخططك ،هل أنا غير مهم بالنسبة لك لهذه الدرجة ؟
احتقن وجهها بقوة لتنظر إلى يمنى التي وضعت العلبة من بين كفيها على أول طاوله قابلتها لتهتف بجدية : اهدأ يا عمر الأمر بسيط .
هتف بجدية : لا ليس بسيط ، لقد نسيتني وأنا هذه المرة غاضب بالفعل .
هم بالحركة فامتقع وجه حبيبة لتهذر سريعا : انتظر يا عمر ، أنا أتذكر اني أخبرتك البارحة أني سأصحب يمنى وجنى لمساعدتهما في تنسيق بقية البيت.
ازداد عبوسه ليهتف : أنا لا أتذكر أنك فعلت ، أتبع دون أن يمنحهما فرصة - عامة على راحتك يا آنسة حبيبة .
ارتفعا حاجبي يمنى بتعجب ليتشكل البؤس على ملامح حبيبة التي حاولت مراضاته : لا تذهب وأنت غاضب يا عمر أرجوك .
هز كتفيه : لا يهم أن أغضب أو لا فأنت لن تكلفي نفسك عناء مصالحتي .
ألقى جملته وهو يتحرك خطوتين مبتعدا فنظرت حبيبة إلى يمنى تنشد دعمها لتهتف يمنى بجدية وهي تدفع ابنة خالها لأن تتبعه : انتظر يا عمر.
تحركت حبيبة على الفور لتتبعها يمنى وهي تهتف باسمه لتستوقفه لينغلق باب الشقة حالما أصبحتا خارج الشقة ، نظرا إلى بعضهما بعدم فهم لتبرق عينا يمنى بإدراك فوري فتهتف بحنق : إنه أسعد .
رمشت حبيبة بعينيها بعدم فهم لتسألها : ما باله أسعد ؟
سحبت يمنى نفسا عميقا لتتكتف وهي تنظر إلى عمر الواقف أمامها فيصدح صوت مزلاج الباب من الداخل ، هتفت يمنى وهي تغمض عيناها بحنق : خطيبك افتعل شيء ليجبرنا على الخروج ليدلف أسعد إلى جنى دون أن ننتبه له .
اتسعت عينا حبيبة بصدمة لتلتفت إليه بتساؤل فيبتسم ويسبل جفنيه فتهتف حبيبة بعدم تصديق : حقا يا عمر ؟!
همهم بخجل اعتراه : أسعد قصدني في خدمة ولم أستطع أن ارده .
صمتت حبيبة قليلا قبل أن تهتف بتساؤل مهتم : إذًا أنت لست غاضب مني ؟
زفرت يمنى بيأس ليضحك عمر ويجذبها من كفها نحوه : لا يا حبيبة عمر .
زفرت حبيبة بقوة قبل أن تلطم كفيه الممسكتان بها : مخادع .
همهم وهو يجذبها نحوه من جديد : ليس بيدي يا حبيبتي .
تأففت يمنى بصوت مسموع وهتفت بحنق : إذًا يا عمر بك ، هل سنظل بالخارج هكذا ؟
هز كتفيه دون معرفة ليجيبها : أسعد وعدني أنه لن يتأخر .
زفرت حبيبة بإحباط : الطعام سيبرد ، أنا جائعة .
لمع الحنان بزرقاويتيه بينما هتفت يمنى بحنق : هذا ما يهمك ، والفتاة الأمانة معنا والتي وعدنا أمي بأن نحافظ عليها لا تهمك .
هتفت حبيبة بعدم فهم : ماذا سيحدث بها ، ابتسمت بشقاوة وهمست بخفوت - أسعد سيزيل عنها الضيق والاختناق اللذان تشعر بهما .
نظرت إليها يمنى بصدمة لتهمس إليها :عمر أفسد أخلاقك .
تمتمت حبيبة : العقبى لك يا ابنة العمة .
تنهدت يمنى بيأس ليهتف عمر : ما رأيكما نذهب لنبتاع الطعام ونعود ؟
هتفت يمنى بحنق وهي ترن جرس الباب بإصرار : إنه لوقت طويل يا عمر .
كتم عمر ضحكته لينظر إلى حبيبة فتهتف : أنا سأذهب معك ، أتبعت وهي تربت على كتف يمنى التي تدق الجرس باستمرار - وأنت انتظرينا هنا ازعجي اخاك إلى أن يفتح الباب .
ضحك عمر رغما عنه ليهتف بجدية : أنا أرى أن اصحبكما سويا ، هيا يا يمنى .
نظرت إليه برفض لتهتف حبيبة بقلة صبر : لن يؤكلها أسعد يا يمنى ، وحتى إن فعل عرسهما بعد غد .
شهقت يمنى بعدم تصديق ليقهقه عمر ضاحكا هاتفا من بين ضحكاته : الجوع تأثيره عليك فتاك يا أستاذة
احتقن وجهها بقوة لتتلعثم : لم أقصد أنت من تملك نية سيئة .
هزت يمنى رأسها بقلة حيلة لتضحك رغم عنها هامسة : هو من يمتلك نية سيئة ، جملتك لم تترك شيء للنية يا بيبا .
احنت حبيبة رأسها بخجل لتهمهم : لم أقصد .
أشار عمر بذراعه ليمنى أن تتقدمهما ليقف منتظرا حبيبة أن تسير بجواره فيجذبها من كفها يقربها منه أكثر ليهمس بجانب اذنها : أنا من يريد أن يلتهمك كلك يا بيبة ولكني سأنتظر فالمدة الباقية على الزفاف ليست كبيرة .
تضرج وجهها بحمرة قانية لتهمس اسمه وهي تهز كتفها بعتاب : عمر .
ضحك بخفة ليهمس لها بخفوت متوعدا : هزي كتفك دون قصد أو بتعمد فأنا سأعضه إلى أن أشبع يا بطتي .
تعالت ضحكتها رغما عنها لتبتسم يمنى الماشية أمامها وهي تشعر بالفرحة لأجل ابنة خالها التي تحيا بسعادة مع نصفها الآخر الذي يكملها حتى لو أنكرت حبيبة ذلك وحاولت أن تقنع نفسها به ، لكن كل من يراهما سويا يدرك من الوهلة الأولى أنهما نصفان اجتمعا سويا وانتهى الأمر.
***
أغلق مزلاج الباب الإلكتروني حينما استمع إلى شقيقته التي أدركت مغزى ما فعله عمر معهما ليبتسم وهو يهنأ نفسه على حسن اختياره له لوهلة كاد أن يصدق تمثيله الغاضب وهو يتساءل حقا هل أتت حبيبة دون أن تخبره ليتذكر أن عمر من أخبره بأن الفتيات هنا قبل أن يحادث جنى ويشعر مدى ضيقها من صوتها المختنق ببكاء لا يعرف سببه ، ولكنه الآن سيعرف ، تحرك ليغلق الشرفة التي تسلل منها واتبعها بالستائر الثقيلة ليتحرك باحثا عنها في الأنحاء قاصدا أن لا يصدر صوتا ينبهها لوجوده ، لمعت عيناه بشوق تدفق لأوردته مليا وعيناها تلتقط جلستها بمنتصف غرفة الملابس الملحقة بغرفة نومهما على كرسي منضدة الزينة الدائري دون ظهر ، ترص بعضا من الملابس بالارفف التي تلف أوتوماتيكيا أمامها فتضع كل قطعة بمفردها لتظهر فيم بعد حينما تلامس الشاشة الصغيرة بجانب صوان الملابس فيمنحها صورة مرئية كاملة للملابس الموضوعة بداخله .
تهدجت أنفاسه وهو يمرر عينيه عليها بتمهل يمشط جسدها الذي نحف قليلا عم كان فظهر في بلوزتها الخفيفة ، التي ترتديها وخاصة مع جو البيت الدافئ - والتي حددت عظام كتفيها وظهرها ، واوزعه لركضها للحاق بمتطلبات زفافهما وعملها وحالتها النفسية السيئة التي تعانيها بسبب ابتعادها القريب عن أبيها وأخيها وغياب والدتها عنها كما لمحت إليه والدته البارحة .
كتم أنفاسه وهو ينظر إلى مؤخرة عنقها ببياضها الشاهق والواضح لعينيه بسبب رفعها لخصلاتها اعلى رأسها فيجذبه ليضع شفتيه عليه يدمغه بقبلته ، تنهد بقوة وهو يدلف إلى الغرفة يقترب منها بهدوء شديد فانتفضت بخوف اعتراها حينما احتضن كتفيها براحتيه لتشهق بقوة حينما احتضنها وهمس بجوار أذنها التي مهرها بقبلة ساخنة حملت إليها اشواقه : اهدئي أنه أنا
همست باسمه في راحة تسللت إليها وخاصة حينما تلكأت أصابعه في خفة تداعب كتفيها تضغطهما بلطف وتمسد رقبتها بحنان وشفتاه تلامس مؤخرة عنقها وجانب وجهها برقة بعدما جلس وراءها فأفسحت له مكانا بعفوية فيستغل الوضع ليحملها ويجلسها فوق ساقيه غمغمت اسمه بلهجة ذائبة تطالبه بأن يتوقف فلا يأبه لاعتراضها قبل أن يرن جرس الباب بتتابع أفسد الغيمة التي حرص على وجودها لتحاوطهما لتنتفض فزعة ، تنظر له بصدمة وتساؤل خرج عفويا : كيف دخلت إلى هنا ؟ ابتسم برقة وآثر الصمت لتتبع بجزع وهي تحاول أن تتملص من احتضانه لها - الباب يرن ، أنها خالتي ليلى ، أو زوجة أبي لميا ، كيف سأفسر وجودك معي ،
اتسعت عيناها لتشهق بصدمة هاتفة بذعر : أنتَ هنا بغرفة النوم .
ضحك بخفة واحنى رأسه ليتمسك بها حينما همت بالنهوض من فوق ساقيه : أولا إنها غرفة الملابس ، لم نذهب لغرفة النوم بعد ،احتقنت وجنتيها بقوة لتعبس بضيق مغمغمه اسمه باستنكار ليتابع بلا مبالاة - ثانيا من تدق الباب هي شقيقتي آخرة صبري بعد أن خدعتها هي وحبيبة وطردتهما خارج المنزل .
قفزت واقفة بغته فلم يستطع الاحتفاظ بها بين ذراعيه هاتفه بصدمة : أنت معي هنا بمفردنا.
رفع عينيه الذائبة شوقا لها ليغمغم بتسلية : أينعم ، فكرت أن نتمرن على وجودنا في البيت بمفردنا .
تضرجت وجنتيها بحمرة قانية لتتراجع إلى الخلف حينما نهض واقفا فتهمس بتساؤل خائف وذعرها يحضر قويا : أسعد علام تنوي ؟
فرك كفيه ببعضهما لتعتلي التسلية نظراته وهو يقترب منها مهمهما بتآمر تعمده : على كل خير يا جنتي
تراجعت اكثر للخلف لتشير بأصبعها في تحذير : توقف يا أسعد .
رقص المرح بحدقتيه فأنار اللون العسلي بهما ليجيب بجدية : لن أفعل .
اصطدم جسدها بجانب صوان الملابس الخاص به والفارغ من ملابسه الذي لم يرصصها بعد من خلفها ليفتح الباب تلقائيا حينما لامسته بجسدها فيختل توازنها وتسقط بداخله ، تعالت ضحكاته حينما وقعت على ظهرها ليقف فوقها بمشاكسة هاتفا : أنت من تغريني بنومتك هذه الآن .
حاولت النهوض ولكنه لم يمنحها الفرصة حينما استلقى بجوارها ليحيطها بذراعيه وهو يدلف بكامل جسده في الدولاب العريض الفارغ ويسحبها معه فينغلق الباب أوتوماتيكيا عليهما ويعممهما الظلام ،حاولت التملص من أسر ذراعيه ولكنه تمسك بها ليهمس إليها في الظلمة : لا تخافي .
تسارعت أنفاسها بهلع شعر به وجسدها ينتفض فتتمتم بصوت أبح : اتركني .
زفر أنفاسه الساخنة ليضمها إليه مطمئنا قبل أن يهمس بعناد : لن أفعل ، أتبع بحنو وهو يداعب مؤخرة عنقها - انظري لي .
لفت رأسها لتتلاقى نظراتهما فتختلج أنفاسها فيهمس إليها بخفوت شديد وعيناه تحتويانها في الظلام : اشتقت إليك ، عضت شفتها بتوتر ليتبع هامسا - فقط بعض القبلات وسأذهب .
نطقت اسمه بخجل تملكها ليداعب بأصابعه رباط شعرها المطاطي فتنسدل خصلاتها حول وجهها ليهمس : هكذا اجمل ، انا احب شعرك منسدلًا يحاوط وجهك المستدير فيمنحه إنارة ورقة
همسات باسمه في توسل أن يتركها ليقترب منها وهو يشدد على جسدها بذراعه الأخرى : فقط القليل يا جنتي ، امنحيني بعض من القوت لأستطيع الصبر لبعد غد .
ثقلت انفاسها حينما لامس ملامح وجهها بكفه لتسقط في فخ قبلاته الدافئة والتي لامست كل خلية بوجهها قبل أن يلتهم شفتيها في قبلة طويلة شعرت أنها لن تنتهي أبدًا ، ولكنه توقف من نفسه حينما أنّت بوهن وأصابعه تنغرس بقوة شوقه في جانبي خصرها فيهمهم بصوت ثقيل أجش : آسف أني أوجعتك ولكني تشبثت بك حتى لا تسرحان كفي من فوقك .
احتقن وجهها بحمرة قانية لتهمس بتلعثم وهي تتلافى أن تتلاقي نظراتهما : كيف سنخرج الآن ؟
ابتسم مطمئنا ليجلس ويجذبها لتجلس معه فيجيب ببساطة : الباب يعمل تلقائيا من الداخل والخارج أيضا يا جنتي .
ألقاها وهو يلامس الباب بطرف قدمه فيُفتح أوتوماتيكيا فتندفع للخارج بسرعة اكتسبتها من صغر حجمها فيظل جالسا بمكانه بعدما وضع قدمه في حرف الباب فلا يمنحه حرية الأغلاق من جديد ، يراقبها بترقب وهي تمسح وجهها بكفيها .. تتحرك في الغرفة بعصبية .. وتلملم خصلاتها بنزق وجسدها يتصلب بغضب لا يفهم سببه .
دعاها باسمها فلم تجبه بل دارت حول نفسها دوره كاملة أجبرته أن ينهض واقفا ويقترب منها ببطء يستوقف خطواتها الشعثاء بكفيه اللذين احتضنتا ساعديها ليجبرها أن تقف أمامه فيهزها بلطف لترفع رأسها إليه فيفلت ساعديها ثم يحاوط وجهها براحتيه هامسا بجدية وهو ينظر إلى عمق عينيها : ما بالك يا جنى ؟! همت بالرد ليقاطعها بحزم – ولا تخبريني أن لا شيء وهذه الكلمات الحمقاء عن كونك بخير ، أنت لست بخير ومنذ مدة أيضا .
رفت بعينيها سريعا فاكمل بحنان تدفق من عينيه : أخبريني ما بالك يا حبيبتي ؟
دمعت عيناها بعفوية قبل أن تميل برأسها لتسندها إلى صدره فيضمها بقوة إليه هاتفا بجدية : اهدئي ولا تبكي وأخبريني عم تشعرين لتكوني حزينة هكذا .
تمتمت باختناق احكم حلقها فتنهنه ببكاء خافت : أنا اشتاق إلى أمي .
أغمض عينيه متألما بوجعها الذي انتقل إليه فيضمها إلى صدره يريد أن يخفيها داخله وهو يهمهم إليها مهدئا إياها : اهدأي يا حبيبتي ، اهدأي وتعالي سنتحدث وأنا اطعمك فأنت لم تأكلي من البارحة .
عبست بتعجب لترفع نظرها إليه تسأله : من أين عرفت ؟!
ضحك بخفة وهو يحيطها أكثر بذراعيه : العصافير من حولك كثر يا جنتي وجميعهن ينقلون لي أخبارك .
ابتسمت من بين دموعها قبل أن تعاود البكاء من جديد وهي تتمسك بصدره أكثر فيشاكسها متعمدا حتى يلهيها عن سبب حزنها الذي اصبح متيقن منه : هكذا سأذهب بك إلى غرفة النوم ولن أبالي بالطعام أو بأن ليلة زفافنا بعد يومان ولا أي شيء سوى أن ازيل سبب حزنك بنفسي .
انتفض جسدها لتقفز بعيدة عنه بخوف هامسة بهلع وخجل غيم عليها : لا تخيفني يا أسعد .
ضحك بخفة وهو ينحي عقله الذي صُدم من ابتعادها السريع جانبا ليمازحها قائلا : الأمر ليس مخيف ، أتبع بغمزة شقية – صدقيني .
احتقن وجهها بقوة ليتنهد بدوره وهو يمد كفه لها : هيا لنتناول الطعام وتحدثين معي كما كنت تفعلين منذ صغرنا ، أم لا قدر الله بعدما أصبحت زوجك ستتوقفين عن الحديث معي ؟!
ابتسمت بألم لتجيبه بعفوية : وهل لي غيرك لأتحدث معه ؟
ابتسم بسعادة سكنت عينيه وراحة تداعب قلبه فيشير إليها بكفه ثانية وهو يهمس بوعد قطعه على نفسه قبلها : وأنا أوعدك أني لن اقترب منك ثانية إلا يوم عرسنا فأهدأي ، أنا الآن اسعد الصديق ، ابتسمت ووضعت كفها براحته فيجذبها قريبا منه يدفعها بلطف أن تسير بجواره إلى الخارج قبل أن يغمزها بعينه معاتبا بمشاغبة – وأخوك الصغير .
أشاحت بوجهها وهي تهمهم بحنق : يا الله عليك يا أسعد .
قهقه ضاحكا : سأستغل نقاط ضعفك أسوء استغلال صدقيني .
تنفست بعمق لتهز رأسها نافية وتجيبه بيقين : لن تفعل ، وأنا أعلم فهذه ليست أخلاقك .
تحرك مبتعدا بعدما جلست على وسادة كبيرة بركنة البيت والتي تبتعد عن صالة الاستقبال وتعلوها بثلاث درجات فتسمح لمن يجلس بها رؤية الشقة كاملة فيعود إليها حاملا حافظة الطعام التي وضعتها شقيقته قريبا من الباب بعدما فتح المزلاج الإلكتروني متحدثا بجدية : معك حق ، عبست بعدم فهم فأكمل شارحا – الصديق لن يفعل ولكن الزوج لا أقوى على وعدك بأن لا يفعل .
ضحكت برقة مرغمة ليجلس مجاورا إليها فيثني ساقه غير المصابة والأخرى يتركها مفروده أمامه فتهمس بتساؤل : هل لازالت تؤلمك ؟
عبس بضيق وهو يمسد أول فخذه : ليس كثيرا ، أتبع وهو يحاوط كتفيها بذراعه – أنا بخير لا تقلقي .
اقتربت منه برقة تريد أن تستمد أمانها من وجوده بجوارها فيبتسم بفرحة غمرته وهو يضمها بحنان منحه لها وأمان غمرها به قبل أن يبعدها بلطف هامسا : الصديق أم الزوج ؟
أجابته بعفوية : الاثنين يا أسعد .
تعالت ضحكاته ليهمس إليها بأنفاس ثقيلة : أنا جائع يا جنتي فهلا أكلت وأطعمتني قبل أن أعود لأمي فهي مصرة على إقامة ليلة حناء خاصة جدا .
ضحكت برقة وهمهمت : أعلم وأنا مدعوة لها بالمناسبة ولكن لدي الكثير من الأشياء لم تنتهي بعد .
أشار إليها برأسه وهو يفتح حافظة الطعام : سنأكل الآن من طعام لولا وبعدها افعلي ما تقدرين عليه والبقية اتركيه .
أومأت برأسها موافقة ليمد لها الطعام فتهم بتناوله منه ليبعد كفه عنها مصدرا صوتا رافضا فتبتسم برقة وهي تفتح فمها لتلتقطه برقه من بين أصابعه ليهمس إليها وهو يعاود إطعامها : هيا ثرثري لي عم يحزنك ، ولا تتوقفي عن الأكل والحديث .
***
تجلس بذاك المطعم الأنيق على يسارها تجلس كنزي الحاضرة معها تنتظران وصول وفد الشركة العالمية التي تريد التعاون معهم ، تنظر لساعة معصمها الأنيقة تراقب الوقت بعد أن زفرت بملل فالوفد تأخر عن موعدهم المتفق عليه بنصف ساعة كاملة
زمت شفتيها بضيق وهمت أن تنهض واقفة وهي تهتف لكنزي بنزق : هيا بنا يا كنزي فإذ لم يحافظوا على موعدهم في المرة الأولى ماذا سيفعلون في اتفاقات العمل فيم بعد ؟!
اتبعتها كنزي على الفور لتتوقفا سويا على اقتراب فتاة حسناء ذات قد ممشوق تبتسم بلباقة وتهتف باعتذار جاد : المعذرة لقد تأخرت عليكما ، رمقتها نوران من بين رموشها باستعلاء قبل أن تنظر لساعتها دون رد فاتبعت الشابة أمامها - للأسف لقد ضللت الطريق .
أكملت وهي تمد كفها بمصافحة : أنا راوية ، مساعدة ومديرة مكتب المدير التنفيذي للمؤسسة .
رمقت نوران كفها الممدودة بتعجب فتصافحها كنزي إنقاذًا للموقف وهي تهمهم : مرحبا بك، أنا كنزي مساعدة الآنسة نوران، المدير التسويقي الخاص بالمؤسسة .
أشارت إليها كنزي بالجلوس : تفضلي .
حدجتها نوران بعينيها فازدردت كنزي لعابها وتوقفت الأخرى فلم تجلس وخاصة حينما صدح صوت نوران بحدة : أين المدير التنفيذي ؟ الم يأتي معك ؟
تلعثمت راوية والحرج يكلل هامتها : للأسف طائرته تأخرت .
أومأت نوران رأسها بتفهم لتجيب بجدية وبساطة : كان الأفضل أن تبلغونا باعتذاركم وتأجلون الموعد ولكن هكذا ، اسمحي لي أنا لا أرى –الآن - أن هناك طرفا آخرا أتحدث إليه أو اتفق معه، اتبعت وهي تلتقط أشيائها تشير إلى كنزي بعينيها - حينما يصل مديركم التنفيذي ويكون متفرغا لمقابلتنا حددي موعدا آخرا ولكن في خلال الثلاث أيام القادمة والا سيعد الاتفاق لاغيً .
القت حديثها باعتداد وهي تخطو مبتعدة فتهمهم كنزي وهي تبتسم للفتاة ذات الوجه المحتقن كمدا : سعيدة بمعرفتك ، بعد إذنك .
هدرت نوران بصوت خفيض وهي تضع نظارتها الشمسية ذات العلامة التجارية العالمية على عينيها : هيا يا كنزي لا تتلكئين من فضلك .
تحركت كنزي بخطوات متسارعة خلفها لتجلس الأخرى فوق الكرسي بنزق واختناق داهمها قبل أن تهتف به حينما شعرت بظله يخيم فوقها : لا أفهم ما الذي استفدته الآن ؟! حقا لا افهم
تنفس بعمق وهو يجاورها جلوسا يهمهم وعيناه لازالت متعلقة بطيفها الذي رحل .. شموخها الذي لازالت محتفظة به .. وعنفوانها الذي أُصقِل بسنوات عمرها التي ازدادت فمنحتها قوة تهدم كل ما حولها لتظل كما هي شامخة جبارة : أهدأي يا راوية ولا تنسي أبدًا إننا أصدقاء وأخوة خارج أوقات العمل أما الآن أنتِ مساعدتي الشخصية وتعملين تحت امرتي .
رفعت عيناها تنظر نحوه لتسأله بجدية : منذ متى أخلط الأمور ببعضها يا أسامة ، لقد عشت عمري بأكمله إلى جوارك ولم أفعلها وحينما أتيت لي وطلبت مني مساعدتك لم أتردد لحظة واحدة ، بل أخفيت عن أبي وخطيبي مساعدتي لك ،
عبس بتعجب وغمغم بحنق : لم أطلب منك أن تخفي أمر عملك معي عنهم
ضيقت عيناها بعتاب أجفله لتهتف بحنق : لا يهم أمر بابا وشريف اتركه جانبا ، الهام في الأمر أني منذ الصغر وبحكم أخوتنا كما تقول وأنت لم تخفي عني شيئا ولم تتصرف بطريقة تبدو مريبة لي ، بل كنت دائما واضحا وصريحا إلا هذه المرة أنت غامض بطريقة غريبة تثير قلقي .
اسبل جفنيه ليهمس : لا تقلقي ، نظرت إليه باستنكار فابتسم برزانة متبعا بتساؤل – ماذا قالت لك ؟
رفعت حاجبيها بتعجب : كما توقعت حضرتك ، أنها لم ترحب بي بل تعالت علي بشكل مهين لأني لست المدير التنفيذي وتركتني وذهبت وهي تخبرني ان لم تحدد موعدا في حدود ثلاث أيام تكون حاضرا فيه بنفسك فهي ستعد الاتفاق لاغي .
ابتسم بثقة ليغمغم : لم تتغير بعد كل هذه السنوات .
عبست بعدم فهم : ماذا تقصد ؟! هل تعرفها ؟!
آثر الصمت وعيناه تومض بانتصار يعد نفسه بانه سيحققه ليهمس باختناق : ومن لا يعرفها، إنها ابنة الوزير وائل الجمّال ، تعرفيه أليس كذلك ؟!
عبست بتفكير : نعم أعرفه بصفته لكن شخصيا ، مطت شفتيها بلا مبالاة – لا أعرفه .
اعتدل بجلسته ليغمغم بتهكم : حقا ، ماما لم تخبرك عنه ؟!!
اهتزت حدقتاها بعدم فهم لتسأله بترقب : ماذا تقصد يا أسامة ! تنهد بقوة ليزفر أنفاسه كاملة وقرر أن لا يقص لها وكأنها شعرت به فهتفت بجدية متبعة - أخبرني يا اسامة ماذا قصدت بتلميحك هذا ؟
سحب نفسا عميقا ليهمس إليها بهدوء : أمك الغالية كانت متزوجة من سيادة الوزير قديما ، قبل أن يكون سيادة الوزير وقبل أن تتزوج هي من سامح غالي ، الذي يكون أبيك وخالي العزيز .
اتسعت عيناها بصدمة لتهمس باختناق : لا أفهم ، أتبعت باستنكار - كيف لا أعرف شيء كهذا !!
ضحك بخفة ليسألها بجدية : وهل تعلمين من الأساس لماذا تزوج أبوك من أمك يا راوية ؟
هزت كتفها بعدم معرفة لتغمغم : هل يتزوج الإنسان لأجل أسباب غير المتعارف عليها ؟
أومأ برأسه إيجابا : نعم حينما يكون بمكانة سامح غالي وتكون هي مجرد فتاة عادية وسبق لها الزواج أيضا .
رمشت بعينيها لتهمس باختناق : لا أفهم إلى الآن سبب نقمتك على ماما يا أسامة ، لقد كبرتك وراعتك وكأنك ولدها .
ابتسم بألم ليهمس بالإيجاب : نعم لا أنكر ، كانت نعم الأم لدرجة أني لم أشك للحظة واحدة أنها ليست بوالدتي البيولوجية ، بل لقد صدمت حينما قام أبوك بفصلي عن العائلة حينما كبرنا لأني احل لك ، بل وأنا صغير كنت أشعر دوما بكون والدك زوج أمي الذي لا يطيقني ولكنه يتحملني لأجل زوجته ، لم أشُك للحظة أنه خالي العزيز إلا حينما علمت اسم أمي كاملا وأنا بالإعدادية وعلمت أن أباك تزوج من السيدة هالة الزيني فقط حتى تربي ابن صديقتها التي تركته لها بعدما توفت اثر دور حمى قوي أصابها بعد ولادته ، شقيقته التي هربت من عائلتها المترفة والتي تعد من أكبر العائلات بالإسكندرية لتتزوج من حبيبها الجامعي المثقف والذي خذلها فتركها وسافر هربا حينما علم بحملها لطفله ، فعاندت وبدلا من العودة لأسرتها التي تبحث عنها ماتت إثر ولادتي . الشيء الذي لم يغفره أبيك – لي – أبدا ، ولكنه كان ممتنا لأمك فتزوج منها وهو الرجل الذي فاته قطار الزواج ولم يكن يحلم بأن هالة الزيني تمنحه عطية الله المتمثلة فيك وفي وجودك .
دمعت عيناها لتربت على كفه القريب بمواساة : أنا أدرك سبب نقمتك على بابا يا أسامة ، وأجده منطقيا مع معاملته القاسية لك رغم أني لأول مرة أعلم هذه القصة وأن هذا سببه ، فمنطقيا أنت لا ذنب لك لا في هروب شقيقته وكونك ابن رجل لم يرضى به لا يعيبك أبدا ، ولكنه رغم كل ذلك لم يلفظك بعيدا ، بل لا تنكر أنه كان يحقق لك أحلامك كلها ، حتى حينما تركت عملك كضابط شرطة ، وأردت أن تعمل أوصى لك بأعماله كلها في دبي .
ضحك ضحكة قصيرة متهكمة ليجيبها وهو يقترب منها ينظر إلى عمق عينيها : حقا يا راوية لا تعلمين لماذا وافق سامح باشا غالي على سفري ؟ تخضبتا وجنتاها بحمرة قانية فاتبع هازئا وهو يعاود الجلوس باضطجاع – أنت تعلمين إذًا ولكنك تخفين كل شيء بداخلك يا صغيرتي
أشارت بكفيها تستوقفه : دعك من أسباب بابا ومن كل شيء أخر ولا تنكر أنه ساعدك كثيرا يا أسامة .
أومأ برأسه موافقا : نعم لا أنكر أنه ساعدني بالفعل كثيرا ولكن ليس لشيء سوى أني شاء أم أبى الوريث الوحيد لإمبراطورية غالي العظمى ، فهو لن يترك ورث عائلته لمن ستنجبينهم من ابن شريكه ، احتقنت وجنتاها فأكمل بيقين – لذا منحني حقي الشرعي كاملا وأزاده ببعض من أسهمه أعطاني إياها لأكون متساويا في المقدار والمكانة أمام شريف بعد عمر طويل .
صمت لبرهة قبل أن يستطرد : ثم لا تنكري أنت أنه دعمني حينما اكتشف موهبتي الفطرية في مجال المال والأعمال ، موهبة اصقلتها بزواجي من بلقيس تلك الزيجة التي ثبتت أقدامنا بالخارج وجعلت أعمالنا عالمية يا أختاه .
جمدت ملامحها المكفهرة بغضب لتهتف بحنق : ماذا تريد يا أسامة ولماذا تسعى وراء هذه الفتاة خاصة ؟ مط شفتيه لتتبع باستنكار صدح بصوتها الذي خرج عاليا – لا تخبرني ، هل هذه الفتاة التي كنت تريد الزواج منها ؟
أخفض عينيه ولم يجيبها لتقفز واقفة تهتف بحدة : أتيت إلي وطلبت مساعدتي لتنتقم من الفتاة التي رفضت منها ومن عائلتها .
نظر من حوله ليهدر بحزم : هل جننت يا راوية ؟! أخفضى صوتك واجلسي نحن وسط الناس .
حملت اشيائها لتهتف بنزق وهي تستعد لتركه : لن أفعل ، فأنا من أخطأت حينما وافقت على مساعدتك دون أن أسأل أو أفهم ، أتبعت بضيق – لم أكن أتصور أبدا أن تزجني في أمر قديم دون أن تخبرني يا أسامة ، ظننته أنه عمل فقط .
نهض بدوره يستوقفها متمتما من بين أسنانه : توقفي عن جنونك يا راوية .
أجابته من بين أسنانها : الجنون هو أن أبقى معك واشترك في هذه المهزلة ، همت بالابتعاد لتتوقف ثم تعود إليه تسأله بغضب ومض بمقلتيها – هل زوجتك تعلم أنك تركتها هي وطفليك وسافرت لأجل أن تنتقم من حبيبة القلب السابقة ؟
أطبق فكيه ليهمهم باختناق : أنت لا تفهمين .
صاحت في وجه بخفوت قدر ما استطاعت : ولا أريد أن أفهم ، نظر اليها معاتبا فاتبعت – يا خسارة يا أسامة ، لم أتوقع يوما أن ..
صمتت لتهز رأسها بيأس مرددة : يا خسارة .
أشاح بوجهه بعيدا لتهمس باختناق : أراك على خير يا ابن عمتي .
ارتدت رأسه إليها بذهول اعتلى ملامحه لتتبع بتحذير – إن لم تتراجع عم تفعله هذا لا تأتي لي ولا تطلب مساعدتي ثانية ، أما إذا عدت إلى رشدك يا أخي ، ستجدني بالجوار دوما كلما احتجت لي .
همهم برجاء : لا تغادري يا راوية .
نظرت إليه مليا : بل سأفعل لعل تركي لك يعيد إليك عقلك الذي ذهب وراء انتقام لن يفيدك بشيء يا أسامة ، سلام يا ابن عمتي .
زفر بقوة وهو يراقب رحيلها ليتمتم بحنق : غبية ومندفعة كعادتها ، وغيورة أيضا ، هز رأسه وهو يقرر أن يغادر بدوره – أنت الغبي الذي أخبرتها بكل شيء وأحمِد الله أنها لم تفكر في إبلاغ بلقيس وإلا ستكون كارثة فوق رأسك .
تحرك نحو سيارته ليستلقي أمام مقودها مهمهما بغضب : بلقيس التي لن تتفهم ولن تفهم ، بل ستظن مثل هذه الحمقاء الذي استنتجت أنك تنتقم من حبيبتك السابقة وصدقت استنتاجها، ومضت عيناه بقهر استعاده ليغمغم باختناق – لن يصدقن أبدا أنك تنتقم منه ، أنك تفقده حلمه الذي حيا عمره بأكمله يحلم به ويتوق إليه بعدما تجسد أمامه وأصبح حقيقة واقعة ، كما فعل معك من قبل ، فلم ينفعك اسم عائلة والدتك ولا نفوذ اسم خالك في إخراجك من الفخ الذي أعده إليك محكما فحول حلم حياتك لكابوس فحمدت الله حينما تخلصت منه لتفر هاربا إلى الخارج دون أن تنظر إلى الوراء مرة ثانية .
ابتسم بألم ساخرا ليتمتم بتحدي : ولكني عدت يا ابن الجمال ، وعدت لست بذاك الشاب قديما، بل عدت وأنا وريث غالي ولنرى من سيكسب هذه الجولة .
***
يجلس بمنتصف حديقة بيته وسط الشباب المتجمعين للاحتفال به والذين دعتهم والدته من العائلتين حتى شقيق العروس أتى تلبية لدعوتها وهو يهتف بمرح : أنا لا أقوى على إغضاب لولا فأتيت احضر ليلة الحناء عندكم ، وسأنتظرك غدا يا سيادة القائد في قصر آل الجمال ،أتبع بمشاكسة – فأدهم من يحضر لها وأنا أدعو الله أن لا يحبسنا سيادة الوزير جمعاء .
ضحك أسعد بخفة ليهتف من ذكره ابن عمه بضيق : حقا يا حضرة النقيب ليلة حناء ، أتبع بإنجليزية متبرما – ماذا سنفعل بها ؟!
ثرثر بتعجب : أنها ليست مخصصة للرجال .
أجابه عاصم بعدم فهم : هل هناك شيء مخصص للرجال يا ابن العم .
أومأ ادهم برأسه : بالطبع ، الحناء للسيدات لأنهن يقومون برسم الحناء رغم أنه تقليد غريب للغاية ولكن لا يهم ، أتبع بشقاوة وهو يفرك كفيه بعبث –أما نحن نقيم ليلة لتوديع العزوبية ونأتي بالراقصات .
فاتبع علي الدين متهكما : وتكون الليلة خمر ونساء ونعود بها لأيام الجاهلية .
كتم الجميع ضحكاتهم بينما تطلع إليه أسعد بصدمة قبل أن يكح عاصم حرجا فيهتف عمار وهو يضع ذراعه فوق كتفيه : أنا أنصحك أن تصمت لنهاية السهرة فكلمة أخرى وسيعلقك أسعد في جذع الشجرة هذه .
ضجت الضحكات المتناثرة من الجميع وخاصة حينما تطلع أدهم لعمار بعدم فهم فيكح أسعد وهو يولي اهتمامه لأخيه الذي وصل للتو بملامح متجهمة وعبوس طفيف غادر ملامحه حينما وقع نظره على شقيقه فهتف بصوت جهوري : يا نجف بنور يا سيد العرسان ، ليتبع وهو ينظر من حوله – أين سليم ليغني لك ؟
دلف سليم من باب الحديقة يحمل صينية كبيرة موضوع عليها الكثير من الاكواب : هاك انا قدمت وعمتي ليلى لم تشأ أن أدخل عليكم بيدي فارغتين فأتيت لكم بالمشروبات ، وابلغكم أنها أصدرت أمرًا عسكريا بمنع القهوة الليلة .
وضع الصينية ليصفق بكفيه : فالليلة حنة الغالي والقهوة لا تحتسى في الأفراح يا أولاد .
هتف عادل بتصفيق عال بدوره : سنحتفل بعريسنا يا سليم ، فأومأ سليم برأسه وهو يتفق معه بعينيه لينحنيا سويا نحو أسعد فيحملانه معا على كتفيهما وهما يصحيان مع صوت الموسيقى التي ارتفعت بأغنية شعبية قديمة للغاية احتفالا به وهما يشدوان معها بمرح انتقل للجميع الذين وقفوا يصفقون بمرح خيم على الجميع .
بعد مرور ساعتين تعالت الضحكات حينما هتف أدهم : إذًا نأتي براقصة فنحن لن نرقص بمفردنا .
تمتم أسعد بضيق : يا الله يا ولي الصابرين ليهتف عادل بمرح – هل تستطيع أن تأتي بإحداهن يا ابن الوزير .
رقص أدهم حاجبيه بشقاوة : بل بثلاثة يا ابن معالي المستشار .
__ اووه هتف بها سليم ليتابع – ستحظى على إعجابي فعليا لو كنت تستطيع أن تتواصل مع أشهرهن الآن .
تبادلا علي الدين ومازن النظرات ليشير إليه أدهم بالاقتراب : هل تقصد هذه ؟
تعالت صيحات عادل وسليم سويا ليهتف عادل بوجه محمر : هل هذا ابن عمكما فعلا ؟ أشار بيده لعمار – أشهد انك كنت ملاكا بجناحين بجوار زير النساء هذا .
هز أدهم كتفيه : أنهن من يترمين علي .
ارتفع حاجبي عادل بدهشة بينما لوى مازن شفتيه ليهتف علي بتبرم : في هذه معه حق ، لا أقوى على الأنكار
صدح صوت موسيقى من الداخل لأغاني شرقية تخص الرقص فيسأل أدهم بتعجب : هل أتيتم براقصة ؟!
تعالت الزغاريد بقوة من الداخل ليهتف سليم بمكر : بل العروس وصلت والآن سنطرد جميعا إلى حديقة بيت إيناس ، فأنطك لولا أقامت ليلة حناء ليس لأجل أسعد بمفرده ، بل لأجل ابنة عمك أيضا .
أشار إليهم بكفيه يستحثهم على المغادرة : هيا يا شباب ، فالعشاء أيضا جاهز لأجلكم .
سأل أدهم باهتمام : لماذا لن نجلس معهن لا أفهم ؟
استدار إليه أسعد بغضب لاح بعينيه فكح عاصم منبها ليشير إليه بعينيه أن يتحرك : هيا أمامي .
رفع حاجبيه بتعجب ليغمغم لعاصم : ماذا حدث أنا لا أفهم شيئا ؟!!
دفعه عاصم بغلظة فكتم مازن ضحكته ليجذبه علي الدين من ساعده هامسا إليه : يا غبي النساء يردن التحرر من وجودنا ويستمتعن على راحتهن .
عبس ليهمهم لمازن بضيق : إذًا ؟ هل سنظل نستمع إليهن ونتخيلهن أم ماذا ؟
رمقه علي بنظرة محذره ليجيبه مازن بضحكة مكتومة : لو استمع إليك أسعد سيضربك هذه المرة ويرسلك لأبيك مشوها وهو يخبره أنك كنت تتحدث عن تخيل نساء عائلته وهن يرقصن.
مط شفتيه بتبرم وهو يغادر للحديقة الأخرى ليسألهما بجدية : إذًا لن نقابل آسيا حتى ؟
اندفعا الإثنان ضاحكان ليدفعهما بخشونة قبل أن يتضاحكوا بمرح مزج بصوت الموسيقى الذي تهادى إليهم من الحديقة الأخرى وزغاريد كثيرة خيمت على الأجواء من حولهم .
***
جاور تؤامه جلوسا ليسأله بخفوت مشاكسا : لم تأكل جيدا يا أسعودي ، وهذا ليس جيد أنت تريد المحافظة الكاملة على لياقتك وقوتك .
رمقه أسعد بطرف عينه ليهمهم إليه : انهض من جواري .
كتم عادل ضحكته ليستلقي سليم من الإتجاه الأخر هامسا بخفوت : علام تثرثران يا ابني الأمير ؟
غمزه عادل بطرف عينه البعيد عن أسعد فيلتقط سليم غمزته دون أن تتبدل ملامحه الجادة والذي اتقن رسمها فوق تفاصيل وجهه ليتبع بتساؤل رزين : هل تحتاج لأي مشورة يا ابن العمة ؟
عبس أسعد بعدم فهم ليقبض سليم بكفه على ساعد أسعد بكامل قوته قبل أن يكمل بمرح : فيم أنت مقبل عليه .
تمتم أسعد بسبة غير لائقة لينفجر سليم ضاحكا وهو يقفز بعيدا حينما ارتفعت قبضة أسعد الأخرى موجهه لفكه فيهتف سليم بعادل : أيها الجبان توقعت أنك ستمسك كفه الأخرى .
استدار أسعد لعادل الذي قفز واقفا بدوره هاتفا بحنق : أيها الغبي أوقعت بنا .
رمقهما أسعد بحنق ليرن هاتفه فينشغل به عنهما بعدما ابتعدا عنه فيستقبل اتصال حسام المرئي والذي هتف بضحكة رائقة : مبارك يا أبو الفوارس أنا أعتذر لأجل تأخري عليك يا أسعد .
ابتسم أسعد بود : لا عليك يا حسام ، أنا أعلم أنك مشغول باستقبال عودة عائلة عمك كان الله بالعون يا صديق .
تمتم حسام برد لبق ليسأل بجدية : نادر معك أليس كذلك ، إذا احتجت أي شيء .
قاطعه أسعد بلطف : لا تقلق يا حسام إذا احتجت شيء لن أتردد في طلبه ونادر يقوم بدوركما سويا بارك الله فيكم ولا حرمني منكم .
هتف حسام بسعادة : مبارك عرسك يا صديق وسأكون بجوارك منذ صباح الغد بإذن الله .
تمتم أسعد بود : ستنيرني بوجودك يا حسام .
أنهى الاتصال بعد بضعة جمل ودودة بينهما لينصت سمعه لموسيقى أغنية شعر بأنه استمع إليها من قبل لتتشكل الذكرى في عقله وتتسع عيناه بإدراك اقر أنه لم يصدقه حينها ولكنه الآن أصبح متأكدا منه .
ابتسم وهو يتذكر تلك الليلة التي كانت حفل يخص شقيقته لا يتذكر مناسبته حتى ولكنه يتذكر أنه كان تجمع كبيرا أعدته والدته للاحتفال بصغيرتهم ، فتجمعن الفتيات بغرفة يمنى للاحتفال معها بينما جلس هو وأخيه وابني خالته في الحديقة خارجا ، صدحت الموسيقى من الداخل ليعبس عادل حينها بنزق : ألم تخبرها أن تخفض الموسيقى وأن البيت ليس بمرقص لتستمع إلى الأغاني بتلك الطريقة ؟
هز أسعد رأسه بلا أمل ليضحك عاصم بخفة قبل أن يهتف عمار : أنت أصبحت كئيب بالفطرة يا عادل ، اتركهن يمرحون بطريقتهم المفضلة شقيقتك مجتمعة ببنات العائلة من الطبيعي أن يستمتعون بوقتهن كما يحلو لهن .
_وهل الرقص هو الطريقة المثالية للاستمتاع ؟ سأل عادل بغضب فهمس عاصم بمرح - بل هو الطريقة المثلى للاستمتاع فقط أنت أهدأ وأترك الأمر برمته .
_ لن أفعل ، الآن سيأتي البقية ويستمعون إلى الموسيقى ويفطنوا أنهن يرقصن ، ألقاها بضجر قبل أن ينتفض واقفا وهو يتبع - لقد طفح الكيل .
هم بالحركة ليقبض حينها على ساعد أخيه هاتفا بجدية : انتظر سأذهب أنا فلا داع لتفتعل مشاجرة مع موني تلجأ فيها لبابا فيهدم البيت فوق رؤوسنا بسببك .
زفر عادل بضيق وهو يعاود الجلوس ليتحرك هو برزانة وخطوات هادئة غير مسموعة وكلما خطى ازداد علو الصوت فيشعر بأن أخيه محق فهذا يفوق الإحتمال ، عبس بغضب وهو يقف أمام باب الغرفة الموارب ويهم بأن يطرق الباب لتنفرج ملامحه عن ذهول وعيناه تتسع بصدمة وهو يرى أكبرهن تقف في منتصف الغرفة يحاوطنها الفتيات جالسات من حولها يتطلعن إليها بانبهار يصفقن بمرح ويشدون مع الأغنية بصخب يعادل صخب حركاتها، تتمايل بجسدها في رقة وانغماس مع الموسيقى ، فيهتز خصرها وكأنه مرتبط بنغمات الأغنية لتتمايل بطريقة متمرسة فز قلبه لها وملامحها تشي بتمازجها مع معاني الحروف الصادحة من صوت المغنية ، أدار نظره على جسدها الذي تمايل بانسيابية حينما لوت خصرها في تمايل متمرس رفع معدل دمائه لأقصاه وهو يشعر بجسده يشتعل ، يراقب اهتزاز كتفيها وميل عنقها وخصلاتها الطويلة الناعمة تلتف حول جسدها فتجعلها أكثر إغراء وغواية لشعوره بها . تحكم في فورة جسده التي وصلت لذروتها وهو لا يستطيع الإشاحة بعينيه بعيدا عنها إلى أن انتبهت إلى وجوده فاحتقن وجهها بقوة وتوقفت عن الرقص لكنها لم تتوقف عن الغناء لتحرك شفتيها برقة مع كلمات الأغنية التي وشمت عقله فتمنى حينها أنها تشدو إليه دونا عن غيره !!
انا عارفاك فاهم وقاريني .. وبتلمحلي وبتوريني
وكل ما تيجي نفسك تجاريني .. بتقول لسه ما فيش فرصة
انا عارفاك عارف اني بعزك .. وبتدعي اني ابقى انا من حظك
ولما بغمض عيني بتلاحظك .. مانا عندي الحاسة السادسة
داعب هاتفه بكلمات كثيرة أرسلها إليها قبل أن يتصل بها اتصال قصيرا فقط لينبهها لرسائله فيبتسم بمكر حينما أجابته بوجه انيمي خجول وهي تجيبه بتلعثم شعره بين طيات حديثها وهي تنفي سؤاله الذي داعب أروقة عقله فراسلها بيقين شعره : يوما ما ستفعلين .
كتم ضحكته على انهاءها للحديث بهروب تجيده دوما فينتبه على مشاكسات عادل وسليم المراقبان إليه فيهز رأسه بيأس قبل أن ينخرط مع عاصم وعمر الجالسان بجانبه يثرثران في حديث هادئ استساغه ليلهي عقله عن استعادة صورتها القديمة والتي تشعله ببساطة شديدة فيغمغم لقلبه وهو يربت عليه بكفه مهدئ : اهدأ فبعد غد ليس ببعيد .
***
ليلة الحناء – صباحا
يخطو إلى داخل بيته بعد أيام طويلة لم يكن يأتي إليه سوى زائرا مستغلا انشغاله في تجهيزات زفاف ابنته وعمله ، مبتعدا عن مجال رؤيتها التي تؤلمه وتشعره بندم جم على ما فعله بها ومعها ، لقد عاد بعد حديثه مع شقيقه مستمعا إلى نصيحته ناويا مصالحتها ومراضاتها ولكنها لم تمهله الفرصة بل تجنبته نهائيا وأصرت أن تبيت ليلتها بجانب مربيتها ومن حينها وهي تتحاشاه توقفت عن الاتصال به .. السؤال عنه .. أو الاهتمام بمتطلباته كما كانت تفعل من قبل ، رغم أنها لم تقصر أبدا في احتياجات بيته .. ابنه .. وتدور من حول نفسها لأجل زفاف ابنته ، أما معه فهو منبوذ .. مطرود .. منفي من دائرة اهتماماتها .
تنفس بعمق وهو يعاند روحه التي تنهره .. تلومه .. وتزجره على ابتعاده عنها ، حديث شقيقه إليه يداهم عقله بين الفنية والأخرى فينهك تفكيره وهو يستعيده مرارا ، شقيقه الذي كان منصتا .. هادئا .. متفهما على غير العادة ، بل إنه دعمه بطريقه لم يتوقعها يوما ، وسانده بحديث طويل ألقاه على مسامعه في هدوء بعدما استمع إلى كل ما كان يجول بداخله
فلم يقاطعه إلا حينما انتهى ليرمقه قليلا قبل أن يسأله بهدوء : هل طالبتك السيدة لمياء بأن تمنحها قلبك يا أحمد؟
أجفل ليجيبه بصوت مختنق : أبدا لم ولن تفعل .
رفع وائل حاجبه بتعجب قبل أن يغمغم متهكما بعدما لوى شفتيه : إذًا ما المشكلة ، أنت الآن منذ ما يقارب الساعة تقص لي عن معاناة أنت من تحيا بها .. صراع يموج بداخلك لا أساس له ، تعيد وتكرر أنك لن تحب غير ولاء رحمها الله وتؤكد لي أن ما تشعره نحو زوجتك التي احلها الله لك هو احتياج بشري إنساني وليس جسدي بحت وهذا الأمر أنا أصدقه ومقتنع به، لذا أسألك ما المشكلة .. ما الأمر .. ما سبب ذاك العذاب الذي تشعره وتحيا فيه يا أخي ؟
اهتزت حدقتي أحمد ورجف فكه ليتابع وائل سائلا بمكر : هل أنت خائف يا شقيق ؟
هدر أحمد بخشونة : خائف مما ؟!!
مط وائل شفتيه ليهمس والتسلية تتراقص بعينيه : أن لا قدر الله تقع في حب زوجتك ، أتبع ضاحكا بتفكه – أنا أرى أن الأمر عاديا فهي زوجتك ، وحبك لها أمر طبيعي ومشروع .
احتقن وجه أحمد بقوة ليهدر بنزق : لا تعبث يا وائل .
ابتسم وائل واثر الصمت قليلا ليحدثه بجدية : أتعلم يا أحمد ما مشكلتك ؟! حينها رفع عينيه إلى أخيه ليكمل وائل بتروي – أنك ترعرعت على حب ولاء ، كبرت وأنت تحب ابنة خالتك الصغيرة حتى دون أن تدري ، لم تنظر لأخرى غيرها ولم يدق قلبك لإحداهن قبلها ، وكان الله بك رحيما أنك اقترنت بها فملكت العالم من حولك بوجودها ، حتى حينما كنتما تتشاجران كنت تعلمان جيدا أنكما ستعودان لبعضكما لا محال ، لذا الآن أنت تشعر بأن اقترانك بأخرى غيرها يعد خيانة كبيرة .. ذنب لا يغتفر .. ونقض لعهد أخذته على نفسك منذ أن دق قلبك لابنة خالتك ، لذا قلبك يثور عليك وعلى تلك المشاعر الوليدة التي تنمو نحو لمياء هانم عبس أحمد باستنكار فهادنه وائل باتزان متابعا - أنا لا أُخبرك أنك تحبها ، فقلبك فعليا لم يدُق لها بعد ومن الممكن ألا يدق يا أحمد ولكن ميل روحك لها طبيعيا .. سكنك إليها عاديا .. وشوقك وحاجتك الإنسانية وغير الإنسانية سُنّة الكون يا طبيب ، هل تفهم ما أقوله لك ؟
أومأ بتفهم ليربت وائل على كفه القريب هامسا : لذا تشعر بالتشوش .. الحيرة .. ويموج بداخلك صراع قوي يجرفك إلى تياره وخاصة وأنك لا تقوى على استيعاب أبعاده ، زفر وائل بقوة وهو يعود بجسده للخلف هامسا إليه بشرود : انت لم تذق طعم أن تحب امرأة ثم تفترقا لتعشق بعدما أخرى تقلب كيانك فتعلم حينها أنك لم تحب قبلها قط .
حينها ابتسم أحمد مرغما واسبل جفنيه عن ملامح شقيقه التي تنير بذكر حبيبته فهمس مشاكسا : أنت تتحدث عن فاطمة ؟
تنفس وائل بقوة ليغمغم : في أول حياتي كشاب وقعت في حب فتاة لم نوفق سويا وبغض النظر عن الأسباب التي حالت بين أن نكون معا إلا أني شعرت حينها بأن حياتي توقفت ، ولأني شخصية جامحة لم اركن لحزني بل ثورت وغضبت وآذيت الكثير في طريقي غير الممهد بعنفوان كان قاتلا ، وحينما قابلت فاطمة لم أكن أتوقع أبدا أن تستكين روحي المهتاجة في رحابها ، حينها تفرس أحمد في وجه أخيه قليلا ليرفع وائل عينيه إليه مواجها – هل تتوقع أني تقبلت هذه الراحة أو رضيت بهذه السكنة ؟
عبس أحمد بعدم فهم ليسأله : بالطبع ، ابتسم وائل هازئا فأتبع بتساؤل مترقب – أو لم تفعل؟!
قهقه وائل بطريقة ساخرة ليرفع رأسه عاليا قبل أن يسأله بهدوء : أتعلم ما سبب المشكلة التي حدثت قديما بيني وبين فاطمة يا أحمد ؟
أجاب أحمد ببديهية : فقدانها للطفل بهذه الطريقة وإتهام الطبيب لك على غير بينه قوية هي ما أدت للخلاف بينكما على ما أعتقد .
رمقه وائل قليلا ليهز رأسه نافيا مجيبا : لا ليس هذا سبب الخلاف ، فإذا صدق خالد إتهام الطبيب وآزره بابا رحمه الله للإتيان بحقها مني ، ففاطمة نفسها كانت تعلم أنه إتهام ليس صحيح ورغم ذلك كانت تتخذ مني موقفا وتعتزلني ،اطرق قليلا ثم تابع - في الواقع أني لم أعُد ثانية لزيارتها بعدما طلبت مني الرحيل وهي متعبة .. منهكة .. وحزينة بسبب فقدانها لطفلنا.
رفع أحمد حاجبيه ليهمس بعدم تصديق : لم تعود لرؤيتها .. للسؤال عنها .. لمؤازرتها في مصابها .
رمش وائل بعينيه : لا لم أفعل .
اتسعت عينا أحمد بعدم تصديق : هل أنت مجنون يا وائل ؟! انفعل أحمد بحمية اتجاه صديقة عمره ليهتف بحنق متبعا - لماذا هل كنت تنتظرها أن تأتي هي إليك وتخبرك أنها تحتاجك ؟!
كتم وائل ضحكته ليسأله بتفكه : هل إذا أجبتك بنعم ستغضب مني ؟
هدر أحمد بحدة وهو ينتفض واقفا يدور حول نفسه يبتعد عن وائل بغضب نفر بعروقه : بل لولا أنك الكبير كنت سألكمك بوجهك الذي تتباهى به هكذا كالطاووس ولو كانت فاطمة شقيقتي لكنت أجبرتك على تركها بل أنا اتعجب للان كيف عادت لك بعد أفعالك هذه ، أنت حقا لا تطاق يا وائل.
ضحك وائل مرغما ليهتف به : عادت لأنها تحبني يا أخي ،
جعد أحمد وجهه باستنكار : ذوقها مريب .
ابتسم وائل بمكر ليرمقه قليلا قبل أن يهمس وهو يشير إليه أن يعاود الجلوس : اعتدل يا طبيب ولا تنس أنني الكبير ، زفر أحمد بقوة وأشاح بوجهه بعيدا فيصمت وائل منتظرا إلى أن عاد ثانية إلى الجلوس فاتبع وائل بهدوء - انتفضت لأجل فاطمة ولم تسألني لماذا لم أذهب إليها وأنا كنت أموت شوقا لها ولا تنكر هذا فأنت كنت شاهدا على مدى تأثري بغيابها وقتها.
التفت أحمد نحوه ليرمقه بتساؤل : لماذا يا أخي تركت زوجتك ولم تذهب لها ؟!
اقر وائل : كنت خائفا .
استنكر أحمد : ممّا ؟! هل ستأكلك فاطمة ؟!
قهقه رجولية خشنة صدحت منه ليهمهم بمشاغبة : أنه أمر مفرح أن تأكلني فاطمة .
تأفف أحمد بحنق ليهدر بعصبية : ألن تكف عن وقاحتك يوما ؟! أنت تتحدث عن زوجتك يا سيادة الوزير .
هز وائل كتفيه بلا مبالاة : هذا أحق لها يا أخي ، زفر أحمد بقوة ليتابع وائل - حسنا اهدأ سأخبرك مما كنت خائفا ،
صمت قليلا ليكمل بصوت أبح وعيناه تضوي بندم : كنت خائفا ان أخبرها بأنها حبيبتي .. بأنها طردت أشباحي .. حررت عقلي .. واستولت على قلبي .. وأسرت روحي ، كنت خائفا أن اقر لها بمكانتها عندي ، كنت خائفا أن أعترف لها بحبي ، كنت خائفا أن أهديها قلبي ، كنت خائفا يا أحمد أن تتلاعب بي وتتركني حينما تدرك أهميتها عندي ، كنت معقدا واحمقا وغبياً فلم افقه رغم وضوح عشقها لي أنها تستحق أن أركع أمامها وأخبرها بهيامي بها.
أتبع بجدية واقرار لواقع : ما أبعد فاطمة عني وأجبرها أن تعتزلني أني كنت أحمقا فعاندت أن أخبرها بعشقي لها فاعتزلتني إلى أن ذهبت لها طائعا .. تائبًا .. راكعا .. معترفا حينما شعرت بأني سأفقدها حتما ، واعترف لك أني لو لم أكن شعرت بهذا الفقد لم أكن سأعترف يوما .
تأمله حينها بذهول زين ملامحه ليهتف وائل بجدية : لذا أنا سأنصحك يا أخي ، حتى وإن لم تكن تحتاج نصيحتي ، لا تدع الخوف يتحكم بك .. لا تدعه يدمر حياتك .. تخلص من عقدك وارمي الماضي وراء ظهرك وتمسك بحاضرك حتى لا تفقده ، احنى رأسه ليتبع وائل بصرامة – اذهب إلى زوجتك صالحها وراضيها ، اعتذر منها واصحبها للطبيب وانظر في إمكانية إكمالها لحملها يا أحمد فلا تحرمها مما منحه الله لها ،
حينها هدر بخوف : ولكن هذا سيكون له ضرر جسيما عليها يا وائل .
حدثه وائل بصرامة : اسمعها هذا الحديث من الطبيب وليس منك ، اقنعها أنك تخاف عليها لأجلها وليس لأجل عقدتك من الماضي ولأجل زوجتك الراحلة ، اشعرها بأن وجودها فارق بحياتك وحياة أولادك ، أخبرها أنها كلمياء أعادت الحياة لبيتك وأنها ليست ظل لأخرى رحلت ولازالت تسكن قلبك .
رمش بعينيه كثيرا وهو يشعر بمدى فشله في أن يقوم بم نصحه به أخيه ، فهو لم يستطيع أن يخبرها .. ولم يقوى على الحديث معها بل أنه كغبي أحمق أعاد حديثه على مسامعها وهو يحاول يقنعها بأنه يخاف عليها ، حديث من الواضح أنه اغضبها أكثر من ذي قبل وبدلا من أن يجاورها ليشرح لها مقصده تركها وابتعد عنها فتمنعت عن الحديث معه وخاصمته في سابقة لم تحدث على مدار أشهر معرفتهما .
رن هاتفه حينما أصبح داخل منزله ليجيب بابتسامة لبقة على شقيقه الذي هدر بتساؤله المعتاد هذه الأيام : هل صالحت زوجتك ؟
ابتسامته اتسعت رغما عنه ليجيب أخيه : ألا تمل يا وائل ؟
ليأتيه صوت وائل مهمهما بمكر : لا ، إلى أن اطمئن عليك لن أفعل ، ضحك بخفة ليتبع وائل سائلا بصرامة – هل فعلت ؟
غمغم أحمد بحرج : أحاول .
ضحك وائل بتسلية : من الواضح أنني لست الوحيد من يعاني مع زوجته ،
قهقه أحمد بخفة : لا لست الوحيد يا أخي ، فلا تقلق جميع الأزواج يعيشون في معانة دائمة مع زوجاتهم .
تنهد وائل بقوة : حسنا صالحها وآتى بها إلى الحناء فاطمة اقلقت منامي صباحا لأجل حناء ابنتك وتجهيزاتها التي لا تنتهي .
اتسعت ابتسامة أحمد ليهتف بمشاغبة تعمدها : أعلم لقد هاتفتني قبل أن توقظك وأخبرتني بقائمة من الأشياء التي تريد فعلها ووزعتها بالفعل على الصغار ليقومون بها قبل أن تهتف بأذني أنها ستوقظك وتقلق منام عاصم وتجبره أن يسحب عمار من قفاه ويأتيا ليتناولان معها الفطور قبل أن تسخرهم في أعمالها التي لا تنتهي ، أتبع ضاحكا – أعتقد أنهما وصلا الآن ومعهم وليد الذي يشعر بالغبطة تمتلكه من البارحة فيتحدث بصخب كعادته كلما كان فرحا .
تعالت ضحكات وائل ليهتف : نعم لقد وصلوا جميعا هيا آتي بزوجتك وابنتك وتعالوا سننتظركم على الفطور ، ولا تتأخر على ولدي أخيك فانقذهما مني قبل أن أفتك بهما .
اتسعت ابتسامة أحمد ليكح بخفة : ألم تدعو زوج ابنتك ؟!
تراقص المرح بعيني وائل : بلى فعلت ، ودعوته لقضاء الليلة عندنا ايضا ، ولتريني أميرة أبيها ستهرب منه إلى أين ؟
حرك أحمد الهاتف من فوق أذنه بمزحة قبل أن يهتف بمرح : وائل هل اخضعوك لعلاج ما أخر مرة كنت بها في المشفى فأبدلوا مخك بأخر
كتم وائل ضحكته ليهدر بحنق افتعله : اخرس يا ولد ، أتبع بصرامة – هيا تعالوا نحن ننتظركم فمازن الآخر مرابط هنا منذ الفجر .
همهم بطواعية : أمرك يا كبير سنأتي لا تقلق .
هدر وائل في أذنه : صالح زوجتك يا أحمد ولتعلم أنها إذا طلبت مساندتي لن أقف ساكنا ، فلا تضعني بينكما ، راضي السيدة التي ارتضت بك وفضلتك على حريتها بعد كثير من الوقت فلا تخذلها ولا تضيمها يا شقيق .
اختنق حلقه لكنه أجاب مرغما بوعد قطعه لنفسه قبل أخيه : سأفعل يا وائل ، لا تقلق .
أغلق اتصاله ليخطو إلى داخل البيت شبه فارغ فابتسم بلطف وهو ينظر إلى حور التي تصلي بركن البيت المشمس كعادتها ، ليشد خطواته باحثا عنها في كل أرجاء البيت فيتجه إلى غرفة ابنته بالأخير لينظر إليهما سويا وهو يحتل باب الغرفة المفتوح عن أخره .
***
دقت الباب دقتين متتاليتين قبل أن تطل برأسها على استحياء وهي تدعو اسمها بخفوت فتجيبها جنى باقتضاب : أنا مستيقظة .
ابتسمت برقة وهي تخطو للداخل فتنتبه لعبوس جنى المعتاد مؤخرا فتهمس باهتمام : كيف أصبحت اليوم يا حبيبتي ؟!
تمتمت جنى بسرعة : أنا بخير والحمد لله ، فقط لابد أن أمر على المشفى اليوم .
لاحظت بسهولة نزقها وهي تضع وشاحها الصوفي من حول عنقها لتتردد في سؤالها قبل أن تحسم ترددها بتساؤل مهتم : ما بالك يا جنى ؟! لماذا أشعر انك غاضبة ؟!
تنفست جنى بقوة لتحاول أن تبتسم ولكنها لم تستطع ودموعها تملا حلقها وتتدافع من ماقيها بسرعة لتتمتم باختناق: أنا لست غاضبة ليس هذا شعوري ، صمتت لوهلة قبل أن تهمس بخفوت - ما أشعره هو عدم الاتزان.
اقتربت منها لمياء بلهفة أمومية هاتفه بانزعاج : بسم الله ، الله أكبر عليك يا حبيبتي ، لتسألها بجدية - ما الذي يشعرك هكذا ؟!
أغمضت جنى عيناها لتنساب دمعة من جانب عينها ببطء شديد لتهمس وهي تعاود النظر إليها : أنا اشتاق لماما ، استقر الحزن بمقلتي لميا لتتابع جنى ببوح عفوي واختناق أحكم قبضته على صوتها وهي تخفض راسها - هذه الأيام أشعر بشوقي الشديد لها لدرجة أني أحلم بها في نومي لأسالها لماذا تركتني ؟! وحينما استيقظ أجدني ابحث عنها بين أروقة البيت لأبكي حينما اكتشف أني وحيدة وأنها ليست معي
رفعت رأسها بحدقتيها الممتلئتين بدموعها فتقابلها نظرات لميا الحزينة : هل شعرت بم أشعره من قبل يا لميا ؟!
دمعت عينا لميا تلقائيا لتجيب بهمس مختنق : لم يمر يوما –علي - إلا وأنا أتذكر والدي واشتاق لهما داعية لهما بالرحمة والمغفرة ، اقتربت من جنى لتتابع وهي تحاول أن تمنحها بعض من حنان تفتقده - ما تشعرين به طبيعي يا جنى وخاصة هذه الأيام كل فتاة تحتاج والدتها أيام زواجها تحتاج الحديث معها .. مساندتها .. مشورتها ، لذا اشتياقك إليها يفوق كل أيام حياتك.
سألت جنى بعفوية : هل اشتقت لوالديك هكذا حينما أقبلت على الزواج من أبي ؟
خفضت لميا عيناها لتبتسم بألم : بالطبع كنت أريد أمي بجواري لأستمد منها ثقتي بنفسي وأريد أبي بجانبي لاستمد مكانتي من وجوده ، لتتبع وهي تنظر لجنى بحنو - ولكني حمدت الله رغم اشتياقي وحاجتي الشديدة لوجودهما ورضيت بقضائه وأنه عوضني عن أمي بحور وعن أبي بأحمد .
اهتزت حدقتا جنى لتسألها بعدم استيعاب : تقصدين بأحمد بابا ؟!
أومأت لميا بهزة طفيفة من رأسها : نعم أنا اقصد أبيك الذي قبل أن يحتضنني كزوج احتضنني كأب ، وفعل الكثير من الأشياء لأجلي حتى دون أن أطلبها بحنان جم أشعرني بروح أبي الراحل رحمة الله عليه.
أسبلت جنى جفنيها لتسأل باختناق : وهل وجوده عوضك عن أبيك حقا ؟!
زفرت لميا بقوة لتجذب جنى من كفها برقة تضمها من كتفيها لحضنها وتقبل جانب رأسها بمودة قبل أن تهمس لها بصدق : الوالدين لا يملأ مكانهما أحد يا جنى ، فمكانتهما خاصة بهما ، ولكن الإنسان يرضى بقضاء الله وقدره ويحمده على ما عوضه ولو شكليا عن غيابهما .
نظرت إليها جنى بافتقاد ألم روحها لتكمل لمياء بإقرار : حقك أن تشعري بكل هذا الشوق لوالدتك رحمها الله وغفر لها ولوالدي ولجميع من رحلوا ،ولكن بدلا من البكاء والتساؤل عن سبب تركها لك ادعي لها يا حبيبتي وترحمي عليها واحمدي الله على وجود عائلتك الكبيرة لجوارك فالجميع يساندونك يا جانو ، بنات وأبناء عمومتك ، عمتك وزوجتي عمك ، وعميك يتباريان لتدلليك ، أبوك وأخوك يدوران من حولك يريدان أن يأتيا إليك بقطعة من السماء إذا أردت ، أليس كل هذا عوض من الله ورفق بك ؟
هزت جنى رأسها بتفهم وحزنها لم يمحى لتكمل لميا بمرح افتعلته : إذًا دعينا من عائلتك ولنتحدث عنه ، عن عريسك الذي يتمنى فقط رضاك وسعادتك أليس عوضا ، حماتك الجميلة التي تعد الأشياء لكما سويا دون تفكير أن كان ما تعده يخص أهل العريس أم يخصنا وتتحدث عن كون أنها تزوج ابنتها وليس بكريها فقط أليست عوض ؟! حماك وشقيق زوجك وحتى شقيقته التي تشارك في كل شيء وكأنها من بنات عائلتك ، اليس كل هذا يعد عوضا من الله ورحمة يا حبيبتي؟
ابتسمت جنى برضا : الحمد لله على كل شيء ، ابتسمت لمياء وتمتمت بالحمد بدورها لتتبع جنى بتساؤل - لماذا لم تذكرين وجودك وما تفعلينه معي ؟
أجابتها لميا ببسمة متعجبة : ما الذي أفعله ؟! أنا لم أفعل شيئا يا ليتني استطيع أن أفعل ولكن ..
هزت كتفيها بلا أمل فتجيب جنى : بل تفعلين أنت وحور تفعلان الكثير يا لميا يكفي وجودكما بجوارنا .. يكفي وجودك في حياة مازن وأبي .. يكفي مساندتك لي ودعمك ، حتى دون أن أطلب ، هذا أيضا عوض من الله ، الآن فهمت ما حدثني عنه مازن حينما كنت تراعينه وهو صغير وأنك كنت تحنين عليه دون أن تشعريه بكونه واجبك ، مازن يحبك كثيرا وهو محق في حبه لك وأنا مطمئنه عليه في ظل وجودك ورعايتك .
دمعت عيني لميا لتجيب بصوت مختنق ببكائه : أنت ومازن منحتماني الكثير يا جنى أكثر بكثير مما أردت أو حلمت يوما لذا أنا احمد الله كثيرا على نعمة وجودكما وأنه عوضني بكما في آخر أيامي .
ارتجفتا حدقتي جنى بخوف وهي تخفض نظرها لبطن لمياء المسطحة تريد سؤالها عن ذاك الحديث الذي سمعته عرضا بين أباها وعمها ولكنها تراجعت بحرج مزج بخوفها فصممت لتنتبه على حديث لميا الهادئ : هيا تعالي لتتناولي الطعام قبل أن تذهبين لعملك ، لتتابع سائلة – ولكن لا تتأخرين فحفل ليلة الحناء سيبدأ من الظهيرة في القصر؟
هزت جنى رأسها متفهمة فأكملت لمياء حديثها وهي تتجه نحو باب الغرفة الذي لم تلحظ أنه فتح وأنه هناك من يقف به يسد مخرج الغرفة عليها : جيد لأن هناك بعض الأشياء لابد أن تفعلينها مع المزينة قبل الحفل واستعدادًا للغد أيضا.
شهقت بقوة حينما استدارت لتغادر فكادت أن ترتطم به مهمهمه اسمه بتلعثم فيجذبها من كفيها نحوه يضمها إلى صدره مهدئا قبل أن يقبل جبينها بحنان : نعم إنه أنا فقد عدت منذ قليل ، وانتظرت ظهور أحدا يرحب بي ولكن من الواضح أنكما مشغولتان .
تملصت منه بهدوء فأطلق سراحها بلباقة لتهمهم باختناق وهي تبتعد عنه تحت أنظار جنى المراقبة لما يحدث : حور بالخارج فمازن ذهب لفاطمة فهي أوقظته وأخبرته أنها تريده.
رمقها بطرف عينه قبل أن يدلف داخل الغرفة مجيبا : أعلم وائل أنهى اتصاله معي منذ قليل، أما حور فذهبت للصلاة .
هزت رأسها بتفهم : حسنا سأعد لك الفطور .
أجاب وهو يقترب من ابنته يضمها إلى صدره يربت على رأسها ويقبلها بحنان : بل استعدي أنت وحور سنذهب كلنا إلى القصر فوائل أخبرني أنهم سينتظروننا على الفطور العائلي الذي أعدته فاطمة ،
همت بالحديث ليرمقها منتظرا فأشاحت بعيدا ثم غادرت الغرفة على الفور دون أن تجبه بينما سألته جنى : هل أغضبت لميا يا بابا ؟
اسبل أحمد جفنيه ليجيب بوضوح : نعم ولكني سأعتذر منها وأراضيها لا تشغلي رأسك بنا ، وأخبرني عنك هل أنتِ بخير ؟
أومأت برأسها لتهمهم : الحمد لله.
ابتسم برزانة: هل ليلة الحناء عند آل الخيال – البارحة - أسعدتك ؟
ابتسمت برقة : نعم الحمد لله ، خالتي ليلى طردت الشباب حينما وصلت إلى الآن أضحك وانا استعيد نزق عادل الهاتف " أخي من يتزوج يا بشر "
قهقه أحمد بخفوت ليدفعها بلطف أن تجلس إلى جواره ليحدثها بهدوء : لقد دعوت أخوالك يا جنى ، تصلب جسدها دون وعي منها لتنظر إليه بتساؤل صامت فاتبع - للأسف لن يستطيعا الحضور .
ابتسامه ساخرة زينت شفتيها لتهمس بتهكم : توقعت هذا حتى دون أن تخبرني بأنك دعوتهما ، ابتعدت عن صدر أبوها الذي يضمها إليه وهي تتبع - لو كنت سألتني قبل أن تدعوهما كنت أخبرتك ألا تفعل .
ربت أحمد على كتفها بحنان : كان من الواجب دعوتهما .
قفزت جنى واقفة لتهتف بضيق : كما كان من الواجب عليهما فعل الكثير لي ولأخي بعد موت أمنا ولكنهما لم يفعلا يا بابا .
احنى أحمد رأسه ليهمس باختناق : لم ننتظر شيء منهما ولن نفعل .
هتفت جنى بعصبية : ولكن كانا عليهما ...
رفع أحمد عينيه لها فصمتت ونظرته الصارمة تحتل عينيه قبل أن يسألها : هل قصرت معك أو مع شقيقك بشيء يا جنى ؟ أنتِ وشقيقك لا تحتاجان لأحد ولن تفعلا طالما أنا حي أرزق يا ابنتي .
تمتمت جنى ببكاء : بارك الله لنا فيك وفي وجودك يا بابا ، ولا حرمنا منك .
تنفس أحمد بقوة ليحدثها بلطف استعاده : أحببت أن أخبرك بمباركتهما لك وأنهما بعثا الكثير من الهدايا أوصيت وائل بأن يستلمها أحدا فهما أرسلاها على القصر ، وتستطيعين رؤيتها وأنتِ هناك اليوم .
أجابت متهكمة : كثر الله خيرهما .
أشار إليها أحمد بهدوء : تعالي يا ابنتي أريد أن أتحدث معك .
استجابت إليه بطواعية فضمها إلى صدره وقبل جانب رأسها ليهمس بتعجب : لا أصدق أنك ستغادرين البيت ، وأن اليوم هو أخر يوم لك معنا والليلة ستكون أخر ليلة لك ببيتي ، أتبع باختناق وغيرة تملكته - محظوظ ابن الأمير أنه سيحظى بك لتنيري بيته وحياته .
توردت وهي تخفض عيناها حياء وخجلا فسألها بغضب افتعله : ألا نستطيع إلغاء الزيجة ؟
ضحكت برقة لتهتف : بلى نستطيع ،
مط شفتيه بتفكير : ألن يغضب أسعد؟
ابتسمت برقة لتجيب وهي تتورد بحمرة : بلى سيفعل ، أتبعت بثرثرة - ولن يفهم رغبتي في عدم ترك البيت ويخبرني بنزق كما فعل من قبل بأنه سيترك منزل عائلته بدوره ليسكن بيت جديد غريب عليه ، وأنه سيفعل هذا من أجلي ، صمتت لتهمس بضيق متابعة - لقد رفض اقتراحي حينما أخبرته أننا نستطيع العيش معكم .
ضحك أحمد ليقرص وجنتها بخفة : جيد أنه فعل وفر علي مشقة طرده ،
اتسعت عيناها باستنكار لتهمس بدفاع : بالطبع لن تفعل يا بابا .
اسبل جفنيه : لماذا؟
ابتسمت برقة : لأنك لست غيورا لهذه الدرجة؟
ضحك بخفة ليهمس بتعجب مرح : الآن شعرت بعمك وائل ومدى كرهه لأحمد ، أتبع وهو يضمها لصدره بقوة - معك أنا أكثر من غيور يا جنى ولكن غيور لأجلك ولأجل مصلحتك لذا وافقت أن أمنحك للفارس وانا مطمئن عليك معه ، فهو سيرعاك ويحميك ويحنو عليك ويكون نعم السند والزوج والرفيق لعمرك بأكمله ،
ليربت على رأسها هامسا : وعليك أنت الأخرى تكونين له نعم الزوجة فيسكن إليك ويستمد قوته منك .
دفنت رأسها في صدره بقوة : لا أريد ترككم يا بابا ، أنا خائفة .
أغمض عينيه بألم تسرب إليه فربت على ظهرها بحنان : لا تخافي يا حبيبتي ، أنا معك وبجوارك .
تمتمت بانهيار ألّم بها : أنا اشتاق لماما ، اشتاق إليها أريدها معي .. بجواري .. لماذا تركتني ؟
انتفض جسد أحمد بقوة وهو يتذكر بكائها في صدره حينما توفت ولاء فيضمها بقوة أكثر مهمهما بصوت مختنق : ترحمي عليها يا جنى ، ادعي لها يا حبيبتي .
تمتمت بالدعاء لترفع عيناها إليه وتسأله ببؤس تجسد بملامحها : لماذا تركتني يا بابا ؟ أنا أشعر بالوحدة دونها .
زرعها أحمد بصدره وهو يهمس باختناق : أنا معك يا حبيبتي .. أنا معك لست وحيدة أبدا ، أنا وأخوك وكل عائلتك معك .
أجابته بنهنه باكية مزقت قلبه إلى أشلاء : لا أحد يعوضني وجودها .
دمعت عيناه تلقائيا ليغمضهما متمتما باختناق متحكما في دموعه بصلابة : ولن يعوضنا عنها أحد ولكنه قضاء الله وقدره .
اجهشت في البكاء بقوة ليضمها أحمد أكثر إليه ويهدهدها بحنو عارم غافلا عمن وقفت بباب الغرفة تشاركهما البكاء بدورها بكاء صامت مكتوم بداخل روحها التي أَنّت لأجلهما وجعا وقلبها الذي تألم عليهما لتتراجع بخطواتها في خفوت وتغلق الباب عليهما وهي تشعر بأن وجودها الآن غير مرغوب فيه .
***
يقف أمام سيارته يستند لمقدمتها بجسده منتظرا للآخر الذي لم ينفك أن يضغط عليه الأيام الماضية .
لم يحضر حفلة الحناء المقامة في قصر عائلة زوجته ولم يذهب لدعوة حميه الفطور بل اعتذر عنهما بلباقة متعللا بعمله في المؤسسة وخاصة مع غياب عاصم ونوران الأمر الذي ترك العمل بأكمله فوق رأسه
لم يفته تقريع وائل له بكلمات مستترة مبطنة وتحمل توعد شديد اللهجة ولكنه قابل غضب حميه المكتوم بهدوء تمسك به وهو يخبره ببساطة أنه لن يفرض نفسه على ابنته التي تتحاشى لقاءه أو مقابلته.
حينها تمتم وائل بسباب مكتوم لم يفقه معظمه رغم كونه يدرك أن كله موجه له ولكنه تغاضى عن كل شيء وهو ينهى الاتصال بلباقة ويجلس شاردا فيما هو مقبل عليه .
ضوء سيارة تقترب منه جذبه من شروده .. تفكيره بها ، وشوقه العارم إليها ليعتدل بوقفته يقابل من ترجل من السيارة بشموخ وعنفوان اعتلى ملامحه
ابتسامة الآخر الماكرة ارتسمت فوق شفتيه فغض الطرف عنها وهو يرمقه من بين رموشه ويقف منتظرا بصبر وبرود ورثه أو تعلمه من أبيه لا فارق لديه ، ما يفرق معه أن يتصدى لمن يقف أمامه ويقوى على ردعه عن عائلته.
همس الآخر بفحيح : أتيت بم طلبته منك ؟
أومأ برأسه دون رد شفهي ليرمي بجهاز صغير يشبه الحاسوب المحمول ولكنه بحجم كف اليد لينظر إليه موشيه يقلبه بين كفيه بعدم فهم : كيف يعمل ؟
هزت أحمد كتفيه : لا أدري ، أنت طلبت الجهاز المسجل عليه كل المعلومات وأنا أتيت لك به فأنا الآخر لا أفهم بتلك الأشياء مثلك تماما .
هدر موشيه بعصبية : وما ادراني أنك لا تخدعني؟
تمتم أحمد ببرود : لا شيء ، لمعت عينا موشيه بغضب فأتبع أحمد متهكما - هل ساهري مثلا أو أنت لن تستطيع إيجادي إذا بحثت عني .
ضحكة ساخرة خفيضة صدرت من أحمد الذي أتبع وهو يتحرك ناويا الرحيل : لدينا هنا مقولة تعبر عن الود وتقال في مناسبات كهذه التي تجمعنا سويا " في بيتها "
.عبس الآخر دون فهم كسى ملامحه فابتسم أحمد هازئا : ابحث عن معناها ستعرف ، أراك قريبا يا أخي .
ألقاها بلا مبالاة أغضبت الآخر الذي راقبه ينصرف بترقب وقلق ثار في نفسه ليتمتم بخوف بدأ في التسلل إليه : هناك شيء خاطئ .
لمعت عيناه بتفكير عميق ليشعر بالبرودة تنتشر بأوصاله وعقله يأتي بالكثير من الاحتمالات لا حصر لها عن سبب تبدل أحمد أمامه لينطلق بسيارته مبتعدا وهو يقرر أنه لن ينتظر أكثر من ذلك سينفذ العملية التي أتى من أجلها ولا يهم الجهاز الهام هو مخترع الجهاز وصاحب التقنية.
أنت تقرأ
رواية حبيبتي.. الجزء الثالث من سلسلة حكايا القلوب
Romanceيلهث بقوة وهو يقف يلتقط أنفاسه .. يحنى جسده ليتسند براحتيه على ركبتيه ، يتنفس بقوة وهو يشعر بعضلات جسده تئن .. تزار .. تصرخ فيه أن يتوقف عن ايلام جسده بهذا الشكل ولكن عقله يعيد عليه ذكرى سابقة .. قديمة ولكنها لازال جرحها نازفا .. حارا .. موجعا ، اغم...
