ما بين السماء والأرض

185 52 3
                                    


في حرب النكبة سنة 1948 :

ليس لدي أي فكرة أين أنا أو لأين أذهب!
الجيوش الإسرائيلية فاجأتنا ،كان لديهم أسلحة ومعدات وخبرة اكثر بكثير مما توقعنا.
حاولنا المقاومة وصمدنا لآخر رمق.
لكن بلا فائدة..

العالم كله شارك في خداعنا، من إعتمدنا عليهم تخاذلوا وتركونا ،من ظننا انهم سينجدوننا عند أول نداء تظاهروا بعدم سماعنا وجعلوا اصابعهم في آذانهم!
كيف تخسر معركة لم تعلم انك ستخوضها؟
كيف تخسر الرهان دون أن تراهن؟

حالنا الآن حكالي أسير منذ ساعاتٍ او ايام؟ ، لا أدري ولا فرق عندي.
آخر مرة كنت بوعيِّ كنا نحارب في يافا، كنت انا ومجموعة من شباب المدينة ضد كتيبةٍ كاملة مسلحة ومجهزة بكل انواع الأسلحة والمعدات.

عندما نفذت ذخيرتي طلب مني صديقي أن أهرب طالما لا زالت الفرصة سانحة، لكنني رفضت ان أتزحزح من مكاني حتى آخر نفس.
اقنعني صديقي انه لن يكون هناك فائدة من وجودي دون ذخيرة وانه اذا اردت المساعدة علي ان انتقل لمنطقة المقاومة المجاورة بما انها لم تسقط بعد ولا زال لديهم ذخيرة.

اقنعني كلامه، وذهبت مع صديقي الاخر لانه الاخر لم يعد لديه سوى رصاصتين في مسدسه.
تسللنا من خلال دخان القنابل والمتفجرات، حتى وصلنا لآخر زاوية يتمركز عندها الجنود.
إلتفتُ إلى صديقي وقلت له :
"عندي خطة، بس لازم ندير بالنا منيح عشان تزبط معنا"
هز رأسه بإيجاب، فتابعت وقلت :
"هما اربع جنود واحنا اثنين بس ومعنا رصاصتين، فالحل انت تروح تطلع عالطابق الثاني من العمارة الي قبالنا هاي وترمي عليهم طوب وتنط من الجهة التانية وتهرب، وانا الي بضلوا بطخهم وبهرب،والي بلحقوك لما يسمعوا صوت الرصاص برجعوا وبتركوك"

وافق صديقي على فكرتي، أخذ نفسا عميقا وأوثق ربط الكوفية حول رأسه حتى يخفيه جيداً، ثم ركض باتجاه المبنى المقابل وإلتقط طوبة من الأرض وصعد الدرج..... بعد لحظات رأيت الطوبة تسقط على رأس أحد الجنود، فذهب اثنان لتفقد ما حدث وبقي إثنان، تقدمت خطوتين وبإسم الله أطلقت النار على الأول فأصابته في صدره، فإلتفت الثاني وأطلقت النار عليه فأصابته في رأسه.

ركضت بسرعة قبل أن يأتي الاخران، فكرت ان اتأكد إذا هرب صديقي او علق، لكن لم يكن لدي وقت لذا هربت بسرعة.

سرت لنصف ساعةٍ تقريبا خارج حدود المدينة ولم أجد أثراً لصديقي، بعدها رأيت خيال شخصٍ جالسٍ تحت الشجرة، مشيت نحوه بحذر فاتضح انه صديقي هاشم.

تنفست الصعداء عندما رايته وقلت :
"خوفتني يا زلمة، شو صار معك خفت عليك"
ابتسم لي ابتسامةً خافتة وهو يمسك الجانب الأيمن من خصره، فنظرت إليه وانتبهت انه مصاب!

أصابني الهلع وجلست بجانبه لأتفقد إصابته وقلت :
"شو صار يزلمة؟ مسكوك؟
كيف إتصاوبت هيك احكي!"

قال وملامحه يبدوا عليها الألم أكثر من ذي قبل" لما نطيت هربت بسرعة وما شافوني بس واحد طخ بشكل عشوائي وصابني!

أصابني انهيار عندما سمعت كلامه!
إنه خطأي، كان يجب أن افكر بخطةٍ افضل له، لقد خاطرت بحياته بتهوري، نعم انا السبب...

حملته على ظهري وتابعت السير لاقرب مدينة لم تسقط بعد، أو على أمل انها لم تسقط..
داومت على التحدث معه حتى اتأكد انها لا يزال مستيقظا ً، وعندما سألته عن والده ولم يجب، وضعته على الأرض لأتفقد حاله وقلت :

"إتحمل يا اخوي اتحمل شوي، هينا وصلنا وراح تكون منيح بوعدك بس اتحمل بترجاك"
بالكاد استطاع فتح عينيه والنظر إلي وقال بصوتٍ متقطع :
"اوعدني يا اخوي انك توصل هالرسالة لمرتي وامي وابوي... اوعدني انك تطمنهم وتحكيلهم إني متت شهيد، متت شهيد ومرفوع الراس، وإطلب منهم السماح، احكيلهم يسامحوني إني ما قدرت أرجعلهم و أشبع منهم "

لم أستطع أن اجيبه فأمئت برأسي وقبلت رأسه، بعد لحظات أغلق هاشم عينيه، وبعدها رفع إصبعه وقال بصوت ثابت وشامخ :
" اشهد ان لا اله الا الله وأن محمد رسول الله"

ثم صعدت روح الشهيد لخالقها صعد للرفيق الأعلى، وارتاح، ارتاح وتركني انا في عذابي..

دفنته تحت تلك الشجرة و واصلت السير..
وكما قلت سابقا لا أدري كم مضى علي وانا على هذه الحال، لكنني أعلم أنني سأوصل رسالة هاشم لان ذلك دينٌ علي ولن اموت قبل أن أسدده.

*******************************

هذه القصة من تأليفي الخاص لكنها تعبر بشكل واقعي عن حال الجنود في حرب النكبة والنكسة..

مذكرات فلسطين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن