قبل فترة قصيرة بلغتُ ستةَ سنواتٍ من العمر، ومثل باقي الاطفال اليوم هو أول يومٍ لي بالمدرسة، لكن يبدو أن وضعي ليس كوضع باقي الأطفال!... فأمي لم تجهز لي شطيرة الزعتر هذا الصباح، لم تقبلني ولم تودعني قبل أن أذهب للمدرسة... بينما جميع الأطفال يقفون وبعضهم يبكون ويتشبثون بقمصان وارجل والديهم، انا أقف بصمت وانا امسك بيد جدي وعمي يتابع الإجراءات.
عندما إستيقظت في المشفى بعد المحرقة قبل سنتين وجدت ذراعاي وقدماي مربوطة بأشياء غير مريحة.. طلبتُ من الآنسة التي كانت ترتدي اللون الوردي ان تزيلهم لانهم كانوا يدايقونني، فقال انها سوف تزيلهم عندما يخف الألم واذا كنتُ ولداً شاطر وسمعتُ الكلام.
بكيتُ واخبرتها انني اريد ماما.. أخبرتني ان ماما متعبة وعندما تتحسن ستأتي وتظل بجانبي.بكيت بصوتٍ أعلى وبحرقة حتى جاء جدي وعمي، احضروا لي الكثير من الألعاب والحاجيات، لكنني لم اقبل اللعب معهم قبل أن أرى امي!!
أخبرني جدي انها متعبة ولذلك هي نائمة بالغرفة المجاورة واذا استمعت لكلامه فسيأخذني لأراها.
حككتُ رأسي ثم نظرتُ لجدي وقلت :
"طيب سيدو، بس راسي بوجعني، قاعد بحرقني!!"
فهم جدي سبب وجعي، وأخذ المرهم الذي وضعته الممرضة على الطاولة المجاورة ودلك راسي ببعضٍ منه.
ظل يدلك ويقرأ القرآن حتى غفوت على صوته.والآن وبعد عامين من الحادثة، الجميع يعاملني بلطفٍ بالغ وكأنهم يحاولون تشتيت انتباهي عن رحيل والداي، كرهتُ البقاء في المشفى، مللتُ كثيراً من الإستلقاء في السرير دون حراك وانتظارِ احدٍ لياتي ويطعمني ويسليني ،ولم استطع اللعب مع اقربائي..احضروا لي الكثير من الألعاب ولم استطع اللعب بها الا وانا مستلقي على ظهري.
بعدها بعض الأشخاص أخبروا جدي ان فريقي المفضل ريال مدريد ولاعبي المفضل رونالدو أرادوا لقائي، لذلك بعد أن تحسنت اخذوني للقائهم في اسبانيا، جميع الاعبين وقعوا على قميصي وسلموا علي جميعهم وكانوا لطيفين مع انني لم أفهم كلامهم، وعندما إلتقيت رونالدو كان طويلاً جدا!!.
بعدها اخذوني لألعب مع أطفال في عمري في ملعبٍ كبير واخضر....استمعتُ كثيراً باللعب معهم مع انني لم أفهم كلامهم.إستمتعتُ كثيراً في هذه الرحلة وعندما عدنا الى الديار اخبرتُ جدي انني لا اريد العودة للمشفى "بدناش نرجع للمستشفى!.. خلص بدناش"
قلت له مراراً لكننا كنا نذهب لمراجعة تطورات حالتي الصحية.
لم أعد اعيش في منزل والداي.. بعد الحادثة صرت اعيش مع جدي وجدتي في منزلهم، سألتهم لماذا فأجابوني ببساطة لانه تدمر ولا نستطيع البقاء فيه.لم أجد ماما في منزل جدي ولا بابا، في كل مرة كنت استيقظ في منتصف الليل ابكي بسبب الكوابيس واطلب ماما وبابا..لكنهم لم يحضروا يوما ولم يعودوا...كانت جدتي تحاول تهدأتي وتبقى هي وجدي معي حتى انام.
صرت انام وحدي الان وتوقفت عن السؤال عنهم ومتى سيعودون.. لكن اليوم رأيت الكثير من الأطفال مع اباءهم وامهاتهم يقبلونهم ويحتضنونهم وهم يبكون وآخرون يطلبون من أولادهم ان يتأدبوا ويستمعوا لكلام المعلمة حتى يعودوا لأخذهم.
بينما انا بالكاد اتذكر والداي ولدي ذكريات محدودة معهم.. سألت جدي الكثير من الأسئلة وفي كل مرة كنت اقول :
"ليش؟
طب ليش هيك صار ؟
ليش حرقونا.. ليش قتلونا؟".
لكنني متأكد انني سأفهم عندما اكبر وساخذ حقهم وحقي بيدي.
أنت تقرأ
مذكرات فلسطين
Non-Fictionاستمعوا لفلسطين وهي تروي حكاياتها، حكايات الأسرى والشهداء والمعتقلين والمقاومين، حكايات الجهاد والبطولة. حكايات الخيانة والظلم والكبت والقهر. اغلب هذه الحكايات حقيقية ارجوا ان تستمتعوا بها وتشاركوها لنشر الوعي عن القضية الفلسطينية. هذه داري" "الله...