باسل الأعرج الجزء 2

94 28 0
                                    


2017
مقالات
ما تركه لنا باسل الأعرج
شام حسين
قبل عامين وتزداد قليلاً في صبيحة السادس من آذار عام 2017، استيقظت وكُلّي أملٌ في يومٍ مميز؛ اليومَ يكتمل العشرين من عمري، ميلادي الأثير الذي لطالما كنت بانتظاره حتى أبدأ رحلتي مع العمر الموعود والمنتظر، النقطة التي تنطلق عندها المغامرات والمرحلة التي لطالما وصفها الكتّاب والشعراء وحتى النّاس بأنها أجمل مراحل الحياة، وبالفعل كان مميزاً بطريقة غير اعتيادية.

بحكم العادة عند بداية كل استيقاظ وبالأخص هكذا تاريخ، ذهبت لتفقّد حسابي على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" لأشرع بقراءة التهنئات والرسائل التي كتبها الناس، هذا الجزء المفضّل في كل مرة. لكن سرعان ما انقبض قلبي عندما رأيت المنشور الأول على الصفحة الرئيسية "لا يا الله إلّا باسل". هنا أدركت أن مصيبة كبيرة قد حلّت على الأصدقاء قبل أن يصل الدور إليّ، فرق الساعات بين علمي بالحدث ومعرفتهم بالخبر يعادل فرق سنوات عديدة، مصابٌ جلل يبدو قد أُسقط علينا جميعاً.


لكن ما هوّنَ الحديث نبأٌ آخر لحق بهذه المنشورات: "استشهاد باسل الأعرج بعد اشتباك دام ساعات مع قوات الاحتلال". حسناً لقد نال مُناه، شرفٌ عظيم، يكفي أنه شهيد مشتبك، مقبلٌ غير مدبر.

البذرة والمنبع:

في السابع والعشرين تشرين الثاني عام 1984 ولد باسل محمود الأعرج، ذاك الفلسطيني الهوية والهوى، تنقل بين ضفتيّ النهر صوب الشقيقتين الأردن وفلسطين، حيث مكث أشهره الأولى في الجهة الشرقية بسبب عمل والده آنذاك، ثم عاد إلى أرض الوطن رضيعاً لم يبلغ شهره الثامن، تحديداً إلى قرية الولجة جنوبي غرب من القدس العاصمة المُحتلّة، ومن هنا بدأ ارتباطه بالأرض التي انطلق منها مقاوماً، وعاد إلى باطنها شهيداً مشتبكاً مقاوماً للإحتلال وأعوانه.

"باسل كان شقي"، الكلمات الأولى لوالدته في حديثها عنه، تلك المرأة التي شهدَ لها كلُّ مبصرٍ ليوم زفاف "الباسل" بالقوة الصادمة ورباطة الجأش التي لا تعرف حدوداً.


الشقاء في بلادنا له مفهوم مختلف، مفهوم إيجابي غير معتاد في الدول الأخرى، فمن كان يتمتع بالحداقة والذكاء وكُثر الحركة والسؤال فهو شقي، أي اجتمعت فيه علامات الوعي والذكاء منذ طفولته.

والشقاء في حديثنا الجاري يرتبط بشكل وثيق بالمقاومة بمختلف مسمياتها وطرقها وحجم تطبيقها، فباسل منذ نعومة أظافره اعتاد التمرد على ما هو حوله وكل ما يحيط به، وبطبيعة الحال الفلسطينية بشكلٍ عام وقرية الولجة -الغارقة بممارسات الاحتلال والمستوطنين- خاصةً؛ التمرد مقاومة، وكطفلٍ يرفض الانقياد خلف المألوف اشترك الأمران سوياً لتجسيد شخصية صديقنا الذي نروي قصته على مدى الزمن التالي.


تعود سهام الأعرج والدة الشهيد للحديث مجدداً، فتذكر يوماً عاد ابنها الأكبر سعيد من المدرسة دون باسل الذي طال غيابه قبل أن يرجع متأخراً رفقة خاله تحسباً لأية ردّة فعل من أهله اتجاهه نتيجةً لفعله غير المسبوق، ليعلموا أنه توجه بعد المدرسة إلى جنازة شهيد متقدماً إياها

تُكمل والدة باسل: "كما عهدناه دائماً في شبابه في مقدمة كل حدثٍ وطني"، لو بحثنا عن أصل كلّ شهيد ومواقفه لوجدناه قائداً خفيّاً توارت الأنظار والأضواء عنه وقتها وتسلطت عليه بعد رحيله.

في ذات السياق، واستكمالاً للحديث عن تصرفات باسل الطفل التي كانت توحي بنشأة ثائرٍ جديد في طريق المقاومة الفلسطينية المستمرّة، اعتاد الأعرج على مطالعة الكتب وقراءة الحكايات ومتابعة المسلسلات التاريخية، حتّى أنه كان يتأثر بالمشاهد التمثيلية ويطبّقها أثناء لعبه.


إحدى قصص باسل التي تسردها "أم السعيد" أنه في سنِّ الحادية عشر اجتمع أبناء أعمامه وإخوته أمام بيتهم، تمدد على لوحٍ من الخشب ووضع على رأسه قمعاً كأنه متواجد في الساحة، ثمّ طلب أن يرفعوه على أكتافهم مردداً: "ستبقى يا قطز يا قاهر التتار"، محاكياً ببراءة طفولته آنذاك قتال جيش قطز والظاهر بيبرس للتتار على أرض فلسطين وطردهم منها وإيقاف تقدمهم، قومٌ يُشبِههم كثيرون بالمشروع الصهيوني الحالي.

في كل صباح كان المنظر الأول الذي يستقبل به باسل يومه وهو متجه إلى المدرسة السلك الشائك الفاصل أراضي الولجة عن العاصمة القدس، الأمر الذي أدّى إلى تراكم الغصّات وإلحاح صوت المقاومة داخله.

بيتٌ اعتاد على أن يكون الوطن همه الأول، وربّى أطفاله على هذه المعتقدات الثابتة التي قلّ التمسك بها في أيامنا الراهنة، يُرى أنه من الطبيعي جداً أن يخرج منهم بطلاً مثقفاً قادراً على إيصال رسالتهم المشتركة، ليس فقط إلى فلسطين إنما للعالم أجمع.

دراسته وعمله

تفوّق باسل في دراسته خلال المراحل المدرسية المختلفة، ودخل فرع العلمي وتخرّج منه بدرجاتٍ عالية. بعدما أكمل مرحلته الثانوية انتقل إلى القاهرة لدراسة الصيدلة في جامعة " 6 اكتوبر"، والده هو صاحب فكرة دراسته لذلك المجال؛ كون باسل كان يعاني من مشكلة كبيرة في النظر منذ طفولته لدرجة تمنعه من إبصار أي شيء دون نظّارته الطبّية، فكان هذا العمل هو الأنسب له لعدم صعوبة تأديته وتمكنه من قراءة الأدوية والوصفات الطبيّة.

أكمل سنوات دراسته وعاد إلى الوطن بحقيبة كانت تحتوي فقط على الكتب، كتبٌ كثيرة، غير تلك التي تركها في القاهرة آسفاً غير قادرٍ على حزمها معه. كان يقضي كلّ وقته هناك داخل سكنه بالقراءة والمطالعة وبالأخص المراجع التاريخية، مما جعله حاملاً في جعبته الكثير من الحكايات والقصص والأحداث والمعارك التي دارت على أراضينا الفلسطينية.

بعدَ عامين من عودته، انتقل باسل للسكن في مخيم شعفاط نتيجةَ حصوله على عملٍ في إحدى الصيدليات هناك، مكث قرابة العامين في شعفاط ثم انتقل الى رام الله للعمل في المتحف الفلسطيني كباحثٍ لتاريخ المقاومة الفلسطينية.

كان لباسل أنشطةً وطنية وتوعوية عديدة، سيتم سرد بعضها، لأنها لا تُعدّ وصعبة الإحصاء، أهمّها كان المظاهرات والاحتجاجات الوطنية المختلفة؛ مظاهرة ضد مخطط برافر، الاعتصام والتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، وكل ما يمتّ للوطن ومقوّماته بصلة.

******************************
المصدر شبكة القدس الإخبارية.

مذكرات فلسطين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن