نارام
فتحت كتابا على الصفحة التي توقفت عندها ليلة أمس ذلك اليوم، لكنني سرعان ما أعدته إلى مكانه عندما تذكرت أنه لم يبقى أمامنا سوى ثلاثة أيام و سنعود إلى بابل. وبدل البقاء في خيمتي ذلك الصباح و إكمال قراءة الكتاب فضلت الخروج و إستكشاف القبيلة كما فعلت في القرى و المدن التي توقفنا عندها. كنت أستمتع بذلك كل مرة، و ظننت أنني سأستمتع بجولتي في تلك القبيلة أيضا.
غسلت وجهي و قدماي، ثم غيرت ملابس نومي بقميص كتاني أبيض خفيف و طويت أكمامه الطويلة حتى أتمكن من ترتيب خيمتي أولا، ثم خرجت.
أخذ قميصي يرفرف برفق و أنا أتمشى بين خيم أفراد القافلة، و خصلات شعري تتبع حركة الرياح أينما ذهبت، فتارة تتناثر على جبيني و عيناي و تمنعني من الرؤية، و تارة أخرى تطير إلى الخلف. إزداد جفاف عيناي و أنفي مع كل خطوة اتخذتها، و تقشر جلدي أكثر من ذي قبل بعد أن جففه الجوّ خلال الأيام التي قضيناها فيها. كانت الرطوبة في الجو هناك شبه منعدمة، و الحرارة أحيانا لا تحتمل. رفعت عيناي إلى السماء فوجدتها رمادية اللون كما كانت طوال الأيام السابقة التي قضيناها تحتها، و كأنها قد تمطر في أية لحظة لكنها لا تفعل. بدت وكأنها وجه شاحب كئيب يطوق للبكاء، لكنه يرفض الاستسلام أمام دموعه فيزداد شحوبه مع كل لحظة تمر.
خرج إيلات من خيمته و شرع يجمع ملابسه المنشورة خارجا، فخطر في بالي أن أقترح عليه مرافقتي رغم أنني كنت متأكدا من أنه سيرفض. لم يعد يحب مشاركتي أي شيء. صار غريبا عني بعد أن كان أعز أصدقائي لسبب ما. سبب لم أكن أعلم عنه شيئا عندها. ترددت في البداية، لكنني ذهبت إليه و ألقيت التحية عليه. إلتفت إلي نصف إلتفاتة. و من دون أن يرد على تحيتي، سألني عن ما الذي أريده منه. راقبته يطوي ثيابه نصف طية و يرميها على كتفه. بدى منزعجا على عكس ما كان عليه يوم وصلنا إلى القبيلة. القبيلة التي ترعرع فيها. القبيلة التي وقع في حب إحدى فتياتها. فكرت في أنها ربما تكون سبب إحباطه. ربما بحث عنها و لم يجدها بعد. أو ربما وجدها و إكتشف أنها تزوجت و نسيت أمره. أبعدت الفكرة عن ذهني، نظفت حلقي و أنا أفرك جبيني بأظافري ثم قلت: "أريد زيارة القبيلة.." إنتظرت منه أن يستدير إلي لأكمل لكنه لم يفعل، فاقترحت عليه: "ما رأيك.. أن ترافقني؟ بما أنك تعرف القبيلة جيدا."
أجابني و هو يدخل خيمته: "ما من مكان يستحق الزيارة في هذا المكان."
تبعته إلى الداخل، لكنني لم أفارق المدخل. كانت يدي لاتزال ملتصقة بالستارة، مستعدة لرفعها في أية لحظة لأجلي كي أغادر، بينما كانت عيناي تتفحصان الفوضى العارمة أمامهما. كتب مرمية على بعضها البعض على الأرض المفروشة بالسواد، أغلبها مفتوح على صفحات تملأها رسوم غريبة و نصوص مبعثرة، بضع ألواح طين صغيرة بحجم الحجارة نقشت عليها طلاسم و بجانبها قوارير زيوت و أعشاب إمتزجت روائحها القوية برائحة بخور خشب الصندل المنتشر في الهواء، شموع مختلفة الأشكال و الألوان، دما محشوة، و أشرط و حبال معقودة.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historische Romaneنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...