𒎙𒐊

106 19 0
                                        

أثرا

غادر العازفان أولا، ثم تبعتهما أور بعد مدة. أما إيتانا فبقيت برفقتنا. كانت و نارام يتحدثان بينما كنت و زالين مشغولتان بمقارنة تل الزهرة في كفينا، حيث علّمتني معنى العلامات و الخطوط التي يمكن أن أجدها على التل، لكن إنتباهي تشتت في اللحظة التي نهض فيها نارام معتذرا من إيتانا. طأطأ رأسه و هو يتأسف باستمرار، ثم إعتذر مني و زالين و هو ينقل نظراته المرتبكة بيني و بينها، ثم إنصرف.

تنهدت إيتانا تنهيدة إنهزام ضعيفة، لفت حول جسمها رداءها البني ثم أراحت ذقنها على راحتيها و هي تحدق بالنار أمامها في شرود حزين. تبادلت و زالين نظرة إستغراب قبل أن تسأل: "ما الذي حدث فجأة؟"

إستنشقت نفسا قصيرا، جلست باعتدال و طوت ذراعيها. "لا أفهم لماذا لا ينساها؟ لقد تركته منذ ثلاث سنوات! إنها ثلاث سنوات يا زالين!" إنتظرت إجابة من زالين لعلني أفهم عن ماذا تتحدث إيتانا بالضبط، لكنها لم تقل شيئا. "ثم لماذا لا يمنحني فرصة؟ أعلم أنه لا يكترث لأمري و أنا الوحيدة المعجبة به، لكن ألا أستحق فرصة؟"

تكلمت زالين أخيرا: "لقد كانت زوجته يا إيتانا. كانت رفيقة حياته التي علّمته كل شيء عن ما يؤمن به اليوم. و ما حدث بينهما لم يكن متوقعا أبدا، و كان ذلك أكثر شيء جرحه. ثم كفي عن الضغط عليه. أن تجبري شخصا على حبك ليس حبا."

تذكرت عندها ردة فعله عندما قرأت كفه. عندما أخبرته بأنني أرى أنه سينعم بزواج طويل و سعيد. إصفر وجهه و كأنه سمع خبرا سيئا للغاية. ربما ذكرته بزوجته. أردت أن أسأل زالين عن الذي حدث بين نارام و زوجته و سبب تركها له، لكن التعبير على وجهها الذي تغير كليا جعلني أتراجع عن ذلك. لم تعد شفتاها مشدودتان فوق لثتها مبتسمة، و صارت زويتا فمها ملتويتان حزينتان. ربما ما حصل كان مؤلم جدا. لم أستطع منع نفسي من التفكير في الأمر، في سبب واحد يجعل إنسانا يترك شخصا مثل نارام. ربما لم أكن أعرفه جيدا، لكنني رأيت لطفه و طيبته. و ما كنت لأترك خلفي شخصا بمثل طيبته. و كان جميلا أيضا. جميلا جدا.

إستأذنت منا الراقصة بدورها، تمنت لنا نوما هنيئا ثم قصدت خيمتها. قمت و زالين أيضا لنخلد إلى النوم لكنني قررت زيارة إيلات أولا. تأخر الوقت لكنني لم أستطيع الانتظار حتى يحل الصباح لأخبره عن الكوابيس و عن كل شيء آخر. قد لا يخبرني عن السحر و لا عن الشياطين و تفاقه معها، لكنني لم أكترث لذلك. أردت منه أن يعلم و حسب أنني أثق به كفاية لأشاركه كل شيء حصل معي.

أسرعت إلى خيمته، لكنني أبطأت عندما إقتربت من خيمة نارام و لمحته مستلقيا خارجها. ظننته نائما في البداية، ثم بدى لي و كأنه يتأمل السماء و هو يضم شيئا إلى صدره. مررت عليه في حذر خشية إزعاجه أو ربما إيقاظه، ثم أكملت طريقي.

لمحت نور الشمعة يتسلل من فتحة المدخل فاقتربت أكثر، سعيدة بكونه لايزال متيقظا. كنت على وشك النداء عليه لكن آهات رقيقة أنثوية مختلطة بآهات عميقة صادرة من خيمته خدّرت لساني كما يتخدّر في كوابيسي التي أحاول فيها الصراخ جاهدة لأكتشف أنني فقدت قدرتي على الكلام، و صوتي أيضا. تراجعت خطوة و كدت أتعثر، و أنا أهز رأسي رافضة تصديق ما خطر في بالي في تلك اللحظة، منكرة الحقيقة الواضحة أمامي. لسعت الدموع مقلتاي و أنا محتارة بين العودة من حيث أتيت و البقاء هناك و مقابلته و الاستفسار منه. ما كان ليرتاح لي بال لو ذهبت من دون أي شرح منه، لذلك نشّفت ما ترقرق على خداي من دموع، ثم ناديت عليه. دنوت من الخيمة فاختفت الأصوات. لم أسمع ردا فناديت باسمه مجددا. إستأذنت منه للدخول فأجابني و طلب مني أن أتمهل لحظة.

خرج إلي و هو في قميص نومه، شعره مبعثر حاولت يداه ترتيب خصلاته دون جدوى، و شفتاه حمراوتان على غير عادتهما. بدى كالسكير الثمل و هو ينظر إلي و كأنه لا يستوعب ما يراه. مسح على جفنيه بباطن كفيه ثم تنحنح قبل أن يسألني عن سبب قدومي و هو يفرك جبينه.

"أريد أن أخبرك بشيء ما عني."

قال متفاديا النظر إلي: "آسف.. لكن.. هل يمكننا الحديث في الأمر غدا؟"

تجمّعت دموعي على حافة جفناي مجددا فغامت صورته و لم أعد أره جيدا. "لما لا نتحدث الآن؟"

"لقد تأخر الوقت يا أثرا."

سالت دموعي رغما عني. ضعفت نبرة صوتي و إرتعشت الكلمات عندما نطقت بها. "هل يوجد.. أحد.. في خيمتك؟" مدّ يده إلى خدي فتراجعت إلى الخلف مرددة: "هل يوجد أحد في خيمتك يا إيلات؟" نكّس رأسه كالمذنب. "لماذا لا تجيب؟"

"أنا.. آسف.."

"لماذا.. لماذا كذبت علي؟ لماذا قلت أنك.. لا تزال تحبني و أنت-"

أنكر الأمر بهزّة من رأسه قبل أن يقاطعني: "لم أكذب عليك يا أثرا. لم أكذب عليك في أي شيء."

مدّ يديه إلي من جديد فهربت منهما، لكنه تمكن من معصماي و سحبني إليه برفق. دنى مني حتى شعرت بأنفاسه الدفئة على جلدي و شممت رائحتها فيه. رائحة الزهر التي لطالما أحببتها لكنني نفرت منها في تلك اللحظة. قال و هو يتمعن في عيناي: "أثرا. أرجوك إسمعيني. لم أكذب عليك. أنا حقا أحبك. أعشقك. هل تسمعين؟"

"لماذا تتضاجع شخص آخر إذا؟ من هي؟ أور؟"

لمعت الدموع في مقلتيه. "لقد أخطأت. أخطأت و لن أعيدها مرة أخرى. أعدك." سحبت معصماي إلي و حاولت تحريرهما من قبضتيه لكنه شدهما إليه بقوة و هو يتوسلني: "سامحيني أرجوك. لقد أخطأت. أرجوك أن تسامحيني."

عصرت قبضتاه رسغاي حتى شعرت بهما و كأنهما قبضتا هيد. لسبب ما ذعرت خوفا من أن يشدّ شعري و يرمي بي أرضا فصرخت بأن يتركني و شأني. أطلق سراحي فضممت جسدي و أنا أرتعد. إقترب مني و هو يسألني إن كنت بخير، لكنني خطوت إلى الخلف مبتعدة عنه ثم غادرت مهرولة دون  أجيبه أو أنظر إليه حتى.

كنت مخطئة عندما ظننت أنه سينسيني عذابي. ربما لم يحطم عظامي كما كان يفعل هيد، لكنه حطّم شيئا ما في نفسي بما فعله.

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن