إيلات
مرت أكثر من أربعة أشهر لم أحدث فيها أثرا، لكنني رأيتها بضع مرات. رأيتها جالسة في حديقة الميتم يوم زرت زالين. كانت تخيط بيديها قطعا من القماش، فتأملتها تعمل من بعيد لبعض الوقت ثم إنصرفت. رأيتها أيضا في دكان الخياط الذي تتعلم منه. كنت أذهب أحيانا إلى السوق فقط لأرى صورتها و لا شيء آخر. كنت أجدها هناك أحيانا فألوح لها و نتبادل إبتسامة، و أحيانا أخرى لم تكن تراني فأشاهدها لمدة و هي تعمل، و أحيانا أخرى لا أجدها هناك فأعود إلى بيتي خائبا.
أذبت بعض الشمع و باشرت في تحريكه على نار هادئة بعد أن أضفت إليه بضع قطرات من زيت الورد و سائلا ملونا إستخرجته من أزهار حمراء طحتنها و عصرتها صباح ذلك اليوم. سكبت الشمع في كوب زجاجي و وضعته جانبا ريثما يتجمد، ثم شرعت في الحفر على شمعة بنفسجية اللون و تغير شكلها الأسطواني البسيط إلى وردة، فنحتّ سطحها و جعلته يماثل شكل الأوراق المتكدّسة في قلب الزهرة.
فقدت تركيزي في لحظة من اللحظات و تولت يداي زمام الأمور بينما شرد ذهني في أشياء أخرى. في آخر يوم قابلت فيه أثر و كلمتها فيه. كان ذلك مساء اليوم الذي سمعت فيه من نارام بأنه أفصح لها عن مشاعره. جاءت لتطمئن علي قبل أن تلتحق بالميتم، فسألتها على حين غرة عن ما إذا كانت تحب نارام أيضا كما يحبها، لكنها لم ترد على سؤالي ذاك. تبسمت لها رغم الضيق الذي شعرت به. تبسمت كأول خطوة نحو تقبل خسارة أخرى، متمنيا من أعماق قلبي أن تجد معه السعادة التي تستحقها، ثم قلت: "إذهبي إليه. أعلم أنك إخترته.. أعلم أنك.. تحبينه.."
حملت يدي في يدها: "لم أختره.. و لن أذهب إليه. إخترت نفسي.. إخترت أن أمنحها كل وقتي و كل جهدي حتى تكون سعيدة." أردفت و هي تدرس تحركات بؤبؤتاي المتفاجأتان من حديثها: "أهتم لأمرك يا إيلات. أريدك أن تكون بأفضل حال. أريدك أن تكون سعيدا.. لكن من دوني. عدني بأنك ستعتني بنفسك و ستبدأ من جديد. عدني بذلك. أرجوك."
وافقت على الوفاء بالوعد الذي طلبت من أن أقطعه، فجذبتني إلى حضنها لتعانقني آخر عناق.
أعادني صوت يشبه صوت تذاؤب رياح عنيفة إلى حاضري. صوت ممزوج بهمسات مؤلوفة صاخبة إرتعدت منها أوصالي فسقطت السكين من يدي. كان جزء من نفسي لا يزال عالقا في الجحيم و لا يزال تطارده الشياطين، و لم أكن أجد مفرا سوى ترتيل الصلوات متوسلا رحمة الربّ حتى يعود الصمت و يسود في جوفي مجددا.
ظللت متكوّرا على نفسي و إستمررت في الصلاة حتى بعد أن عاد الهدوء إلى نفسي، و لم أتوقّف إلا عندما سمعت دقا على الباب، فهرعت لأفتحه. حاولت إسترجاع أنفاسي و إصطنعت إبتسامة أطمئن بها زائري علي، لكن سرعان ما غدت إبتسامتي صادقة كل الصدق عندما وجدت زالين بانتظاري خلف الباب و في يدها سلة تسوق ممتلأة.
أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...
