𒐐

83 7 1
                                    

نارام

كنت جالسا برفقة أبي في الحديقة تحت النخلة نشرب و نتحدث. كنت أحكي له عن رحلتنا عندما خرجت أمي من البيت و إنضمت إلينا. سألتها عن أثرا فطمأنتني عليها و قالت بأنها تركتها في غرفتي لتأخذ قسطا من الراحة.

سألتني: "أخبرني يا بني، ما قصتها؟"

كنت قد أخبرت أمي لحظة وصلنا بأصل أثرا و أين عاشت، و طلبت منها أن لا تسألها عن أهلها كي لا تذكرها بهم. و عندما تساءلت عن السبب أفصحت لها بأنهم لم يكونوا بالعائلة المثالية.

"كانت أثرا.. متزوجة برجل.. يعتدي عليها."

ظهرت خطوط بين حاجبي أمي و كأن كلامي آلمها، ثم أطبقت جفنيها هنيهة قبل أن تقول: "هذا يفسر آثار الكدمات على جسدها."

تغير التعبير على وجه أبي و صار القلق يكسو ملامحه. وضع الكأس من يده: "و ما الذي حدث؟ كيف تمكنت من ترك زوجها و السفر معكم؟"

رويت لهما القصة كاملة عدى الحقيقة وراء موت زوج أثرا. و أخبرتهما أيضا عن ما رأيته و سمعته من إيلات عن القبيلة و تقاليد أهلها. و في النهاية ذكرت لهما أن أثرا، رغم تركها القبيلة و كل شيء خلفها، إلا أنها كانت ترى كوابيس عن كل ذلك في نومها أحيانا، و أنها أحيانا أخرى ترى زوجها في وضح النهار فترتعب.

سكتّ فساد الصمت. لم يقولا شيئا لمدة طويلا. ثم أخيرا تمتمت أمي و قد شحب وجهها: "المسكينة.."

إستنشق أبي نفسا قصيرا ثم أسنذ ظهره إلى جذع النخلة. "لهذا كان إيلات يتهرب دائما من أسئلتي عن أهله."

هزت أمي رأسها مستوعبة، و هي تبادل أبي النظرة الحزينة نفسها التي تعلو محياه، ثم إلتفتا إلي و قالت: "تستطيع أثرا البقاء هنا معنا قدر ما تشاء و سنعتني بها يا عزيزي."

"أعلم أنكما ستفعلان يا أمي. شكرا لك." تنهدت و هممت بالنهوض قائلا: "لقد تأخر الوقت. علي الذهاب الآن. أراكما غدا؟"

إنفرجت شفتا أمي عن إبتسامة عريضة ثم حملت يدي بين كفيها. "أحقا.. تستطيع العودة إلى بيتك يا بني؟"

أردت أن أقول لها بأنني سأحاول. سأحاول العودة. سأحاول التعايش مع كل شيء يذكرني فيه براحيل. لكنني لم أفعل. لم أشأ أن أقلق أمي الحبيبة في اليوم الذي عدت فيه إلى حضنها الحنون.

رفعت يدها إلى ثغري و طبعت عليها قبلة طويلة. "بالطبع أستطيع العودة إلى بيتي." ثم أردفت مازحا: "لذلك فلتطمئنا، لن أزعجكما بعد الآن."

صفعت ظهر يدي مداعبة. "لا تقل ذلك. يمكنك البقاء هنا كما تشاء. أنت إبني. إبني الوحيد."

طبعت قبلة أخرى على جبينها، ثم مددت يدي لأبي فقام و صافحني ثم ضمني إلى صدره. تمنيت لهما ليلة سعيدة، ثم غادرت إلى بيتي برفقة حصاني.

*

دخلت بيتي لأول مرة بعد ثلاث سنوات. كان نظيفا و كأن شخصا ما كان يسكنه طوال غيابي. لم يفاجئني ذلك كثيرا، فلقد كانت أمي تأتي إليه مرة في الأسبوع منذ أن هجرته و ترسل إليه من ينظفه لأجلي. تجولت فيه و أنا أحمل المصباح في يدي، فوجدت أن أشباح تلك الذكريات التي تشاركتها و إياها لا تزال تروم بين جدران البيت. كيف لا و قد دخلنا البيت لأول مرة معا، و عندما خرجت منه، خرجت منه أيضا.

وقفت في المطبخ لمدة و أنا أحدق بكل شيء فيه، فتوهمت نور أشعة الشّمس الذي يضيء المكان بأسره كل صباح. كانت الخزائن فارغة لكنني كنت أراها ممتلئة، و الفرن نظيف خاو لكنني رأيت خيال حطب مشتعل فيه و قدرا في جوفه، و توهمت بقبقة الغليان و رائحة يخنة راحيل المفضلة. يخنة البطاطس بلحم الضأن المقدد و البصل. رأيت شبحها أيضا أمامي. راحيل. كانت في فستانها الفضفاض الفضي المفضل لديها و شعرها المربوط إلى الخلف مسدول على ظهرها. تبسمت لي و هي تخلط بيمناها عجين كعكات القمح التي نعشق تناولها على الافطار معا، و في يسراها تفاحة تقظم منها من حين لآخر و هي تعمل كعادتها. تبسمت للذّكرى إبتسامة أسف متقبلا الوضع كما هو، على عكس ما توقته قبل دخولي المنزل. ظننت أنني سأحزن ذلك الحزن الشديد مجددا، لكن لم يحدث ذلك.

إغتسلت و عدت إلى غرفة النوم حيث غيرت ثيابي، ثم إستلقيت على السرير. السرير الذي شاركتها فيه كل جسدي و روحي فلم أستطع أن أنام. شعرت بثغرها يطبع قبلة على خدّ، و برأسها يدفن بين كتفي و رقبتي، و بكفّها ترتاح على صدري و أنفاسها الدافئة تداعب جلدي. لم أتحمل ذلك فجلست. مسحت وجهي بكفاي ثم أرحت عليهما جبيني لبعض الوقت. لم يؤلمني تذكرها، لكنه لم يسعدني أيضا. كانت في كل مكان، لا تزال تسكن كل غرفة، بل كل ركن في البيت، فصعب علي أن أرتاح.

خرجت من غرفة النوم و نزلت إلى غرفة الجلوس. فرشت لنفسي مكان على الأرض ثم إستلقيت. و أنا أغطي جسدي سمعت دقا على الباب. ظننت أنني تخيلت الصوت في البداية، لكنني سمعته للمرة الثانية فقمت و حملت المصباح معي. وقفت خلف الباب مستغربا من الأمر. لم يسبق لأحد أن زارني في ذلك الوقت من قبل. و عندما طرق الطارق للمرة الثالثة سألت: "من هناك؟"

أجابني صوت أنثوي مؤلوف. صوت كنت أعرفه جيدا. "هذه أنا. إيتانا."

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن