إيلات
مكثت أثرا يقربي طوال ذلك المساء. حاولت إطعامي بعض الحساء لكنني لم أتناول منه سوى ملعقتين. قالت أن نارام أعدّه لأجلي محاولة إقناعي بأكل المزيد، لكنها جعلت أحشائي تنقبض و ترفض الطعام و الشراب أكثر من ذي قبل. حتى بعد كل ما عرفه عني، سامحني، أعد الطعام لأجلي و جاء بملاءة من بيته لأجلي أيضا. كرهت نفسي. كرهت نفسي و تمنيت لو أنه إنتظر حتى الصباح و أتى، لو أنه على الأقل تأخر قليلا حتى أحرق كل أشيائي و جسمي معها و أحرر روحي من هذه الدنيا اللعينة للأبد.
أدرت ظهري للباب و إستلقيت لأنام، لكن أصوات تضارب الأطباق و كنس الأرض ثم إنسكاب الماء، لم تسمح لي بذلك. بدل أن ترتاح بعد السفر المنهك الذي عدنا منه، جاءت لتعتني بي و تنظف قذارتي. حتى بعد كل ما عرفته هي الأخرى عني، لم تتردد في مواساتي و البقاء بجواري. لم أكن أستحق أيا من ذلك. لم أكن أستحق.
دخلت الغرفة فانعكس نور المصباح الخافت على الجدار و أخذ يتمدّد مع إقترابها. أطبقت جفناي عندما دنت مني. غطتني جيدا ثم مسّدت على شعري بيدها الحنونة. و عندما أحسست بتراجعها، أصغيت بتمعن إلى تحركاتها، ثم إلى خطواتها الحذرة تبتعد و أنا أراقب النور يتلاشى، ثم إختفى. و فجأة ساد صمت خانق و خيم ظلام دامس.
*
شردت في إحد النوافد الصغيرة التي تستقبل نور الشمس إلى قلب الغرفة. كنت شاردا بها منذ اللحظة التي إستفقت فيها. لم أتزحزح من فراشي و لم ألمس الوعاء بجانبي رغم أن رائحة حساء القمح فيه إستمرت في محاولة إغوائي. وهّمت رائحته الطيبة لساني و صدّق أنه تذوّق بعضا منه، فانتشر خيال سخونته و مذاقه البسيط في فمي، ثم قرصت ملوحته الزائدة لساني فأدركن أن حواسي إسترجعت مذاق حساء أمي. كانت تعده دائما كما كان يحبه ذلك اللعين. مالحا أكثر من اللازم.
سمعت صوت الباب الخلفي يفتح فقمت أخيرا، متذكرا وجود أثرا في بيتي. طللت برأسي فوجدتها تحمل سلة ملابس فارغة و هي تتجه نحو مدخل الغرفة حيث أقف.
أبطأت عندما لمحتني ثم قالت: "آسفة إن كنت قد أيقظتك.."
"لا تعتذري.."
كانت تبدوا متعبة جدا و كأنها لم تنم الليل بطوله. أخذت السلة منها و طلبت منها أن تدخل و ترتاح قليلا، لكنها قبل أن تفعل سألتني عن الحطب و الأغراض المحترقة خلف المنزل. و مجددا، لم أستطع أن أكون صادقا معها و أعترف لها بالحقيقة المخيفة، بأنني كنت أنوي اللحاق بأمي.
حملقت بي بعينين مهمومتين فقلت لعلي أريح بالها: "تخلصت من بعض الأغراض.. ليس إلا. أريد أن أترك الماضي خلفي.. أن أترك السحر الأسود و أبدأ من جديد."
أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...
