إيلات
لم أجلس إلا بعد أن تأكدت من دخول أثرا إلى الخيمة. قبّلت خدها. أخبرتها أيضا بأنني لا أزال أحبها، فاعتلت إبتسامة صغيرة خجولة محياها. بدت مسرورة بسماع ذلك مني. كنت متأكدا من أنها كانت أيضا لا تزال تحمل تجاهي نفس المشاعر القديمة، أو ربما مشاعر أقوى من تلك التي كنا نحسها و نحن طفلان. رأيت في نظرتها و هي تتأمل ملامحي شيئا أكثر من مجرد حب طفولي، و باحت أنفاسها المتوترة بذلك أيضا.
سمحت لنفسي بأن أفكر فيها و أراها في خيالي كما يحلو لي، فذهبت إلى كل مكان برفقتها. رأيتنا نتمشى معا في حدائق و نسبح في أنهر كلها من نسج خيالي. ثم رأيتنا نستلقي معا تحت السماء و نتأمل النجوم طوال الليل. رأيتنا في خيمتي، و كنا جالسين قريبا من بعضنا البعض نتحدث، ثم قبّلتها فبادلتني بكل شغف و هي بين ذراعاي.
أطبقت جفناي فعدت إلى أرض الواقع، و إبتلعت ريقي فعادت أذناي تسمعان اللحن الذي كان يعزفه سام، و صوت ليشار المختلط بصوت زالين الجالسة بجانبي، و هما يغنيان. رفعت كوب الماء إلى فمي في اللحظة التي سألتني فيها زالين: "هل بسببها زرتني صباح أمس لأقرأ لك كفّك؟"
تجرّعت ما إحتسيته و أنا أراقب أور تهزّ ذراع ليشار و تسحبها مطالبة إياه بمشاركتها الرقص. "كنت أخشى أن لا أتمكن من العثور عليها."
"ماذا عن أور؟"
إلتفتت إليها فوجدتها مقطبة الجبين، شفتاها ملتويتان قليلا توحيان بشيء كالحزن، أو ربما القلق، و هي تراقب أور ترقص مع ليشار و هما يتبادلان الضحكات. ربما كانت قلقة عليها. فذلك الوجه المشرق الذي كانت تقابل به أور الجميع لم يكن سوى قناع يخفي الجرح الذي خلفته في أعماقها. كنت أدرك ذلك. كان الجميع يدرك ذلك.
سألتني بعد صمت دام لمدة عندما لم تحصل مني على أي جواب: "و لماذا أجبرت نارام على الابتعاد عن أثرا؟"
إنفجر ثغري عن إبتسامة ساخرة فجأة. لم أكن أعلم ما الذي أضحكني حقا، هل هو تدخلها في ما لا يعنيها أم نجاحها المثير للاعجاب في التكهن بما يحصل من حولها. "و ما أدراكي أنني أجبرت نارام على أي شيء؟"
"جعلته يخبرني بما جرى بينكما."
أشحت بوجهي مقهقها. "لا أظنه أفصح لك عن أي شيء. إنها ظنونك وحسب كالعادة. أليس كذلك؟"
"أنت تعرف صديقك جيدا بالطبع. و أظنك تعرف أيضا كم أنت عزيز عليه لدرجة أنه مستعد ليعطيك مما لديه."
تجهمت قائلا: "لست عزيزا عليه. لم أكن عزيزا عليه يوما. إنه يشفق علي. و أنت تعلمين كم أكره من يشفق علي." قمت من مكاني. "ثم كفي عن التدخل في ما لا يعنيكي."
هممت بالانصراف لكنها لم تتركني و شأني. لحقت بي و قبضت على معصمي و جعلتني أستدير إليها رغما عني. قالت بصوت خافت، ربما كي لا تثير إنتباه الآخرين، لكن بنبرة منفعلة قاسية. "أتدخل في ما لا يعنيني؟ ما الذي لا يعنيني في كل هذا؟ أور؟ إنها صديقتي و أهتم لأمرها. أم نارام؟" إقتربت مني حتى جعلت المسافة بيننا خطوة واحدة. "أظنك تعلم جيدا أن أمره يعنني خاصة بعد ما فعلته به، أم أنك نسيت؟"
سحبت معصمي بقوة و حررته من قبضتها متأففا ثم مسحت على شعري. أثارت غضبي و لم أعد أطيق النظر إليها. ضغطت على أسناني حتى آلمتني و شعرت بها تكاد تتحطم. همست لها بنفس نبرتها: "لقد أخبرتكي مرارا بأني ندمت على ذلك. و أقسمتي أنكي لن-"
قاطعتني و هي ترمقني بنظرة ساخطة: "صحيح. أقسمت أنني لن أخبر أحدا آن ذاك لأنك كنت طائشا و ظننتك ندمت على ما فعلت و أنك ستتغير."
قهقهت في تهكم و أنا أحملق بها. "و ماذا الآن؟ أصبحت أكثر طيشا خلاف ما تمنيتي؟ لم أتغير؟ هيا إذهبي إليه و أخبريه. أخبيريهم جميعا."
لم ترد علي. شعرت بعيناها تفتشان طويلا بين ملامحي و كأنهما يدان تحفران أرضا قاحلة بحثا عن قطرة ماء تطمئنها. ربما تمكنت من رؤية الندم الذي يعصر قلبي، أو ربما الخوف القاتل من أن أخسر نارام نهائيا. أو ربما رأت شيئا مختلفا تماما. ربما رأت الحسد الذي لا أزال أشعر به تجاهه بين الفينة و الأخرى. لكنها هدأت فجأة ثم قالت: "لن أخبره. لن أذكر الأمر لأحد. لكنني لن ألتفت عن نارام و سأبقى حريصة على سلامته منك و من أمثالك."
عادت أدراجها فتبعتها بعيناي حتى جلست أمام النار، ثم غادرت إلى خيمتي مسرعا. خلعت ردائي عندما دخلت و رميته أرض، ثم وقفت ألتقط أنفاسي و كأنني جريت في طريقي. كانت أحشائي منقبضة طوال الوقت و أنا أسترجع ما فعلته بنارام. كنت متأكدا من أنها لن تخبره. لكنني لم أستطع التوقف عن التفكير في ما قد يفعله إذا ما علم بالأمر. الجزء النادم مني كان خائفا من أن يخسره كليا، و الجزء مني الذي كان لايزال يحسده كان شبه متحمس لذلك. إذا علم بما فعلته فعندها قد يظهر جانبه القذر. قد لا يسامحني. قد يغضب و لا أستبعد أن يمد يده علي و يلكمني، و سأصدق لوهلة أنه إستحق ما فعلته به.
تربعت على البساط و أنا أحمل رأسي بين يداي. ترقرقت دمعة على خدي فمسحتها بسرعة. لم أكن أعلم بالضبط سبب بكائي. كانت عيناي.. تدمعان وحسب بينما كانت صور من الماضي تمر أمامي. صورتي و أنا أسرع إلى الميتم بحثا عن زالين، ثم وقوعي عند قدميها متوسلا إليها أن تجد حلا للمصيبة التي صنعتها. كنت أرتعد و كأنني قتلت روحا بينما كانت تلقي تعويذة من التعاويذ التي أقسمت و تعهدت أن لا تقوم بها، لأجلي، لتنقذني من الندم الذي شاهدته يمزقني. ثم دفنت السحر في الحديقة. تذكرتها تقول و هي تسوس كفيها، أن عمل الشياطين أسود قد لا تقدر عليه آلهة الطبيعة. و كما إعتقدت تماما لم ينجح الأمر. و بسببي إفترق الاثنان و إنتهت سعادتهما.
أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...
