إيلات
إنطلقت القافلة و غادرنا تلك القبيلة اللعينة أخيرا. كنت في الخلف بعيدا عن أثرا، لكنني إستطعت رؤيتها من ماكني هي و زالين و هما على ظهر حصان نارام. كانت تفتش بعينيها من حولها من حين إلى آخر. فكرت في أنها ربما كانت تبحث عني. أردت بشدة أن أكون سبب إنشغالها و إلتفاتها المستمر.
كانت في حال أفضل عندما زرتها ذلك صباح. إبتسمت لي عندما سألتها عن حالها و قالت أنها بخير. شكرتني على مساعدتها و هي تختلس نظرة خجولة تلو أخرى إلي كما كانت تفعل عندما كنا صغيرين، ثم سألتني بعد أن ترددت طويلا عن الطلسم و عن ما جرى في المقبرة أمس ذلك اليوم. أجبتها لكنني لم أقل الحقيقة تماما. في الواقع كذبت. بدأت أول محادثة لنا بعد فراق طويل بكذبة. لم أستطع الاعترف لها بأنني قاتل ذلك السافل اللعين. خشيت أن أخيفها فتهرب مني. كتمت الأمر و أخبرتها بقصة أخرى. قصة نظمتها في ذهني لأشرح بها ما جرى للسائلين. فقلت أنني صنعت لها الطلسم ليحميها إذا لم ينجح سحر التفاحة في تغيير هيد، و إذا ما حاول إيذاءها. ثم أخبرتها عن ما رآه الناس و ما لم تتمكن هي من رؤيته. جعلت عينيها تتسعان و تحدقان بي طويلا كما لم تفعلا من قبل بما أفصحت عنه لها. تمنيت في تلك اللحظة لو أن زالين لم تكن هناك معنا لأخبرها بأنني إشتقت إليها، و بأنني لا أزال أحبها، بل و أشعر تجاهها بمشاعر أكثر من مجرد حب طفولي بريء. أردت أن تعرف كل ذلك عني، و أن أعرف منها ما تشعر به أيضا، إن كانت لا تزال تحس تجاهي بأي شيء. أي شيء.
تصنمت مكاني فجأة عندما لمحته يقف بين أفراد القافلة يحدق بي و كأنه ينتظر وصولي إليه. كان يبدو كما كان آخر مرة ظهر فيها في خيمتي. شبه بشري. و في رمشة عين، ظهر بجواري. تبا له.
لطالما ظننت أنه كان يرعبني بظهوره و تحركاته المفاجئة، لكنني أدركت آن ذاك أن ما يفزعني حقا هو ما قد يطلبه مني، ما سيقوله، و ما سيوسوس لي به. سألته: "ما الذي جاء بك؟ ألم تحصل على ما تريده؟"
"بلى! فعلت كما طلبت تماما."
"ماذا تريد إذا؟"
"جئت أطمئن على الأوضاع."
توقفت عن المشي و تركت الجمل يسبقني. "أية أوضاع؟"
إستقام أمامي تبسم إبتسامة هادئة مريبة. "أتيت لأرى الفتاة التي قتلت مالكها." ثم أردف مقهقها بعد أن لاحظ أنه كاد يسكت قلبي: "لا تقلق على حبيبتك يا صغير. لن أمسها بسوء."
"ماذا تريد منها إذا؟"
إنطلق يسير فلحقت به. "عندما يزورك الناس و يطلبون مساعدك فإنهم يضعون إيمانهم كلّه في ما صنعته لهم من سحر." ثم إلتفت إلي. "لكن أثرا لم تضع إيمانها كله في الطلسم. بل لا تريد أن تضع إيمانها فيه. إنها تصدق أن الرّب الذي سمعت عنه من نارام هو من أنقذها."
"إنها الحقيقة. لا يمكنك أن تضر أحدا أو تغير شيء إلا إذا كان الأمر مقدرا من الأساس. أم أنك نسيت؟"
"بالطبع لم أنسى! كيف لي أن أنسى! لكن هذا ليس ما أريدها أن تعرفه. أريدها أن تؤمن بسحري. أن تؤمن بأنني المنقذ. أن تؤمن بي أنا."
أبطأت فتوقف. "ألا يكفيك كل من ضللتهم حتى الآن؟ ألا يكفيك أمثالي الذين باعوا أنفسهم لك و رموا بها في الجحيم؟"
أمسك ذقني بسبابته و إبهامه الهجينين ثم هزه و كأنه يهز ذقن طفل صغير. "لا يكفي يا عزيزي! لا يكفي." ثم دنى مني و همس لي و كأنه يفشي لي بسر خطير: "بالمناسبة، إحذر من صديقك العزيز. "قطبت عندما لمّح إلى نارام فأردف قائلا: "قد يفرق بينك و معشوقتك كما فرقت بينه و زوجته من قبل."
كان يعرف مخاوفي كل المعرفة، و إعتقدت أنه قال ذلك ليثير قلقي بشأن الأمر لا غير. لكنه أشار إليهما مرة أخرى لأرى أثرا ترفع يدها في تردد ثم تلوح بها و إبتسامة على ثغرها. إلتفت إلى حيث تنظر فرأيت نارام يلوح بيده أيضا. يلوح لها. يبتسم لها. لم تكن تبحث عني. كانت تبحث عنه هو. إشتعلت في جوفي حراراة حارقة إنتشرت في بدني و و جعلت دمائي تغلي. إستدرت إلى ذلك الملعون لأسأله أن ينقلع لكنه سبق و لبى طلبي و إختفى كما يفعل دائما.
أسرعت في اللحاق بجملي و أنا أحاول إقنع نفسي بأنها وسوساته ليس إلا. لم يسبق له أن تركني يوما في سلام. إما أن يتركني مع عمل قذر يجب إنجازه، أو وسوسات تسيطر على ذهني و تدفعني للتفكير في القيام بما هو أبشع من أي شيء قمت به من قبل.
تمكّنت من لجام الجمل ثم إلتحقت بالقافلة. لمحت أثرا تريح رأسها على كتف زالين. لم تعد منشغلة بالتفتيش. لقد وجدته. لوحت له و إطمأنت عليه. حاولت أن أقنع نفسي بأنها ربما.. كانت ممتنة له لأنه ساعدها ليس إلا، لكن خوفي من أن تكون قد شعرت تجاهه بشيء آخر غير الامتنان كان المسيطر على عقلي. ربما أعجبها. فالجميع يعجبه نارام. الجميع يحبه. الشاب الطيب الجميل. الملاك الطاهر الشريف.
و مرة أخرى، وجدت نفسي أفكر في طريقة أثبت بها أنه أيضا مثلي و مثل سائر البشر، يخفي جانبا قذرا في أعمقه. ليس له. و ليس لنفسي و لا بسبب الذنب الذي لايزال يسرق النوم مني كل ليلة. أردت أن أثبت ذلك لأثرا. أن أريها أنه ليس كما يظهر للناس. رغم أنه في الحقيقة.. كما يظهر للناس تماما.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Ficção Históricaنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...