𐏓𒁹𒁹𒁹

175 23 1
                                        

أثرا

حمّلت قارئة الكف أمتعتها على ظهر جمل أحد العازفين بمساعدته، بينما كنت أراقبهما من بعيد. كنت أضمّ نفسي، أغطي بعضا من الكدمات بيداي و أنا أتلفت يمينا ثم يسارا بين الفينة و الأخرى، خوفا من ظهور رجال القبيلة مجددا. صليت لرّب متوسلة له أن يبعدهم عني. صليت لرّب الذي سمعت عنه من نارام مرة أخرى. الرّب نفسه الذي صليت له عندما كنت بين أيدي أهل القبيلة فأنقذني منهم. أو ربما أردت أن أصدق أنه من أنقذني منهم ليس إلا.

حكى لي إيلات ذلك الصباح عن ما حصل في المقبرة، و أخبرني بأن كل ما حدث، حدث بفضل الطلسم. و بدل أن أسأله كيف يفعل ذلك، و إن كان بامكانه أن يعلمني بعضا من سحره، وجدت نفسي أفكر في الرّب. بل و إقتنعت تماما بأنه منقذي عندما خطر في بالي أن الطلسم كان معي طوال الوقت، لكنه لم يعمل إلا عندما توسلت إليه. ربما صدّقت ذلك فقط لأنني كنت في أمس الحاجة إلى أن يكون في حياتي إله يقف بجانبي. إله يستمع إلي عندما أناديه و يستجيب لي. إله يحميني و يحبني، بدل من آلهة تذلني طوال حياتي، ثم تطالب بدفني حية.

عادت زالين و في يدها ثوب خفيف أبيض. أسدلته على رأسي و غطت به ذراعاي و ما بدى من أطرافي المشوهة، ثم طمأنتني و أكّدت لي بأن أهل القبيلة لن يتجرأوا على ملاحقتي مجددا، و أنهم حتى و إن فعلوا فلن يستطيعوا القيام بأي شيء و أنا بين أفراد القافلة، فهدأت قليلا. سألتني إن كنت أشعر بارتياح و أنا أغطي إصاباتي، فأومأت لها. كانت و كأنها تستطيع سماع ما يدور في ذهني. أحببت ذلك فيها. أحببت لطفها و صبرها معي أيضا. فلقد إعتنت بي و كأنني أختها، و لم تشعرني و لو للحظة بأنني ثقل عليها. بدت سعيدة باختيار فستان من فساتينها لأجلي، و تحمست عندما عرضت عليّ أن تصفف شعري لأجلي. بل و دعتني لمرافقتهم إلى بابل و العيش معها و رفيقاتها في الميتم الذي نشأت فيه، و حيث تعتني و نساء أخريات بالأطفال هناك. مهما حاولت رد جميلها، فلا أظنني سأتمكن من ذلك.

إنتهى العازفان من عملهما و إنضما إلينا. ألقيا علي تحية الصباح، ثم سألاني عن حالي. كانا لطيفين جدا معي. قدم لي أكبرهما نفسه و قال أن إسمه ليشار. كانت له عينان سوداوتان واسعتان قليلا، و ضحكة لطيفة لم تتمكن لحيته الكثيفة من حجبها.  ثم قدم الثاني نفسه لي و قال أن إسمه سام. ذكّرتني عيناه المتبسمتان بعيني نارام. كان لهما نفس اللون. لون العسل الأصفر الصافي الذي هدأ من روعي و نحن نرجم وسط المقبرة. نارام. فتشت عنه في كل مكان منذ خرجت من الخيمة، منتظرة أن يأتي بحصانه كما قال، لأتمكن من لقائه مجددا. أردت أن أشكره مرة أخرى على ما فعله لأجلي، على تدخله و تخليصي من أمي، و على صدّ الحجارة التي حاولوا رجمي بها عني. أردت أن أطمئن على حاله و أعتذر منه على لأذى الذي لحق به بسببي.

تقدم الحكيم برفقة حصان قوي أبيض نحونا. كان رشيقا رغم كبر سنه و يتحرك بسهولة و كأنه يمتلك جسدا شابا. سلّم الحصان لنا ثم قال: "هذا حصان نارام. قال إنه وعدكما بتجهيزه لكما."

أجابته زالين: "قال بأنه سيجهزه لأجل أثرا. لكن.. أين هو؟"

مسح الحكيم على لحيته البيضاء الطويلة ثم أراح كفه على صدره. "مشغول بجمع أمتعته يا إبنتي."

شعرت بالخيبة. كنت أنتظر لقاءه بفارغ الصبر، لكنه لم يأتي. مضى الحكيم في حال سبيله، فتمتمت زالين و كأنها تحدث نفسها: "غريب.."

قال ليشار و هو يداعب رأس الفرس: "لا أظن أن نارام قد يتخلف عن القدوم بنفسه بسبب الأمتعة."

أضاف سام على كلامه: "لا بد و أنه مشغول بشيء آخر."

صاح رجل من بعيد و هو يمر على أفراد القافلة فردا فردا و يردد: "إستعدوا. سننطلق الآن. هيا إستعدوا."

غادر كل من ليشار و سام إستعدادا للانطلاق، أما زالين فقد تقدمت بالفرس نحوي متسائلة: "هل سبق لكي أن إمتطيتي حصانا؟"

نكصت إلى الخلف خطوتين خوفا من ضخامته التي لم أعتد عليها بعد. فلم أرى في حياتي كلها سوى حصانا واحدا و كان لتاجر يتردد على القبيلة مرة كل بضعة أيام، و لم يسبق لي أن إقتربت منه.

إقترحت علي زالين لمسه و شجعتني على ذلك عندما لمسته هي الأخرى، فمددت يدي إلى شعره المستقيم الطويل و مررت أناملي على خصلاته الخشنة نوعا ما. مسحت على رأسه فأماله إلي قليلا. كانت عيناه شديدتا السواد تلمعان و تزينها رموش بيضاء كثيفة و طويلة. ذكرني بالقطة التي تركتها خلفي. ربما كان مثلها يحب من يداعبه. إطمأن له قلبي شيئا فشيئا فاقتربت منه أكثر.

"ما رأيكي به؟ أليس لطيفا؟"

تبسمت لها. "إنه لطيف."

"مستعدة لامتطائه؟"

لم أكن متأكدة من أنني أستطيع ركوبه وحدي فاقترحت عليها امتطاءه معي، فوافقت. فتشت بعيناي من حولي بينما كانت زالين تصعد على الحصان أولا، لكنني لم أجد من كنت أبحث عنهما. ما من أثر لنارام. و ما من أثر لإيلات أيضا.

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن