إيلات
بلغنا الوركاء بعد العصر فتوقفنا عند مدخل المدينة للراحة و تناول بعض الطعام، لكنني لم أكن بحاجة للراحة و لا للطعام. كنت بحاجة لبقاء أور بقربي، إلا أنها سبق و إستعدت للرحيل.
كنت أنزل بعض أمتعتي عندما لمحتها تودع ليشار و سام، فتركت ما كنت أقوم به و هرولت إليها. أردت أن أحاول مجددا. مرة أخيرة. أن أسألها أن تبقى. و ما أن أقبلت عليها حتى تركت الجميع خلفها و تقدمت نحوي. رفضت تصديق أنها ستغادر، و أنني لن أتمكن من رؤية وجهها مجددا. أبقيت عيناي على عينيها طوال الوقت و الاشتياق يخنقني رغم أنها كانت لا تزال تقف أمامي. حاوطت وجهي بكفيها و تبسمت لي إبتسامة حزينة. لمعت الدموع المتكوّنة في مقلتيها و كعلت عيناي تدمعان أيضا. لم أكن مستعدا لفراقها أبدا. فراقها يعني خسارة الحب و الدفئ اللذان أقتات منهما بين الفينة و الأخرى. خسارة كل شيء أشعرني طوال تلك المدة بالحياة.
حضنتني فلثمتها إلي بقوة و كأنها ملك من ممتلكاتي التي أخاف أن تسلب مني. دفنت وجهها في صدري و بكت بحرقة فطبعت قبلة طويلة على رأسها لعلني أهدئها، و إستنشقت رائحة شعرها الطيبة لآخر مرة. رائحة ذكرتني بكل ليلة من الليالي العديدة التي قضيتها بصحبتها في تلك اللحظة القصيرة.
همست لها متوسّلا: "إبقي أرجوك."
"أعطني سببا واحدا. سببا و احدا و سأبقى."
أجبتها من دون أن أفكر و كأن جزءا مني كان يحفظ ما يجب قوله عن ظهر قلب. "أنت الوحيدة التي تعرفني يا أور. الوحيدة التي تفهمني دون أن أشرح أي شيء. أنت أقرب شخص إلي و لا أحد يعرف عني ما تعرفينه. لا أحد يتقبلني كما أنا كما تفعلين. أحتاجك يا أور. أحتاجك."
تحسست خداي ثم ذقني بأناملها الحنونة و هي تتأمل عيناي. "أريد من يحبني، لا من يحتاجني يا إيلات."
تبسمت و دموعها تسيل، فأدركت أن تلك هي آخر مرة سأعانقها فيها، آخر مرة سأحملها فيها بين ذراعاي، و آخر مرة سأحسّ فيها بلمساتها. حاولت جاهدا أن أتبسم و لو إبتسامة صغيرة ثم قلت: "الوداع إذا يا أور." تنحنحت لعل صوتي يكفّ عن الاهتزاز ثم أردفت: "أرجوا أن تسامحيني على كل ما فعلته. و أتمنى لك.. أتمنى لك حياة سعيدة."
خلّلت بأظافرها أصول شعري ثم أراحت كفّها على مؤخرة رقبتي. أنزلت رأسي إليها و رفعت كل جسمها بالوقوف على أصابع قدميها ثم قبلتني قبلة شغوفة فبادلتها دون أن أتردد في ذلك.
همست لي: "سامحتك. سامحتك. و أحبك. أحبك و لا أظنني سأتمكن من نسيانك."
ثم عادت إلى حيث تركت أمتعتها، أما أنا فلم أتحرك من مكاني. ظللت أراقبها تبتعد عني خطوة خطوة. أردت أن أشبع من صورتها قبل أن تختفي تماما من حياتي. ترقرقت الدموع التي كبتها طويلا فجففتها سريعا. لكنني علقت مع شيء غير الدموع. شيء لم أستطع مسحه و لا محو سريعا. ضيق خانق قاتل و كأنه أحجار في حلقي و أشواك في صدري. ضيق جعلني أتوق للبكاء بحرقة و الصراخ بأعلى صوتي حتى تخار كل قواي فربما أنام عندها و أغيب لبعض الوقت عن الدنيا.
لم أستطع تحمل مشاهدتها و هي تودع إيتانا و نارام، فاستدرت لأعود أدراجي، لكن قدماي تصنمتا و كأنهما مثبتتان بمسامير في الأرض عندما قابلت عيناي عيني أثرا. ربما رأتني و أور و نحن نتبادل تلك القبلة، لكنني لم أفكر في الدفاع عن نفسي أمامها. أحسست بأنها هي الأخرى ستتركني قريبا. غامت صورتها تماما و لم أعد أستطيع تميزها عن بقية الناس من حولها، لكنني لم أسمح لتلك الدموع بسيلان و طردتها من جفناي بمسحة سريعة من ظهر يدي ثم هرعت إلى حيث تركت دابتي.
لو أنني فكرت في الآخرين قبل نفسي لما حصل أي شيء من كل ذلك و لما خسرت أيا ممن كانوا أصدقائي يوما. لو أنني فكرت فيهم أيضا، لو أنني تغاضيت عن كبريائي و رغباتي و شهواتي، و عن كل تلك الأحاسيس اللعينة التي تتلاعب بي عادة لما إنتهى بي الأمر وحيدا تعيسا و تائها.
إنهرت باكيا فأبطأت، ثم توقفت عندما شعرت بصعوبة في التنفس. لم يكن فراق أور وحده ما جعلني أنهار لكنه كان القطرة التي جعلت الكوب يفيض، و الأصبع الذي ضغط على الجرح الذي خلفته أنا بنفسي في نفسي بكل ما صنعته بيداي، الجرح الذي كان لايزال يتلاءم فانفتح مجددا و صار يؤلمني أكثر من ذي قبل. آلمني الذنب تجاه إستغلالها و تجاه خيانة أثرا، و هدّمني ما فعلته بنارام أكثر من أي شيء. إختلط علي كل شيء فجأة و لم أتمكن من ضبط الفوضى التي عمت في نفسي، و لم أستطع لوم أحد على ذلك سواي. شهقت شهقة قصيرة تلو أخرى لعلني أملأ صدري بما أحتاجه من هواء لكن دون فائدة. كنت أختنق مع كل ثانية تمر.
بثّ صوت مؤلوف لطيف نادى علي فجأة شيئا من الأمل في نفسي. صوت إشتقت إلى سماعه. صوت أثرا. نكّست رأسي فهمست باسمي مجددا و هي تمسح على ذراعي برقة.
"هل أنت.. بخير؟"
"لست بخير."
إنكمشت أساريرها و هي تحرك شفتاها في حيرة من أمرهما. "أنت.. تحبها؟"
"ليس كما أحبك."
"لكنك.. تريد بقاءها؟"
"أريد بقاءها في حياتي. و أريد بقاءك أيضا.."
كوت دمعة حارقة خدي و هي تشق طريقها عليه. لم أحاول كبت دموعي أمامها. لسبب ما إستسلمت فجأة و لم أكترث لما قد تعتقده عني. لم أكترث إن بدوت ضعيفا أو غبيا و أفصحت لها عن كل شيء ضاق به صدري. "أريد أن أصالح زالين.. و أريد أن أعتذر من نارام.. أريد أن أصلح ما فعلته به لكنني لا أعرف كيف.. لا أعرف.. أشعر و كأنني.. سأخسره أيضا إذا ما أخبرته.. بما فعلت.. إذا ما حاولت أن أعتذر.. تماما كما خسرت أور.."
أمسكت بكم قميصي و سحبته إليها. "أنت لم تخسر أحدا يا إيلات. لم تخسر أحدا. أور ترغب في العودة إلى أهلها، هذا كل ما في الأمر. لقد إشتاقت إليهم." أضافت بعد سكوت: "أما أنا فهنا معك. و زالين أيضا معك و مستعدة لمساعدتك دائما، و لو إعتذرت منها لسامحتك على الفور. و نارام أيضا.. لا أدري ما الذي حدث بينكما لكن.. لا أظنه يكترث لكل ذلك، و إن إحتجته فحتما ستجده بجانبك."
"لا أظنه سيسامحني-"
قاطعتني قائلة: "كفى. لا تفكر هكذا أرجوك."
حضنتني، فدفنت وجهي بين كتفها و رقبتها. "أنا آسف يا أثرا. آسف على كل شيء."
ربّتت على ظهري و هي تردد بصوت بدأ يضعف شيئا فشيئا و كأنها على وشك البكاء: "سامحتك يا إيلات. سامحتك."
![](https://img.wattpad.com/cover/341708978-288-k956452.jpg)
أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...