𒌍𒐋

100 11 2
                                        

أثرا

فكرت في زيارة إيلات ليلا لكنني لم أستطيع مواجهه مرة أخرى. قد يحاول تغيير رأيي و قد يتوسلني مجددا لأتراجع عن قراري و لم أكن أقوى على رفض طلبه للمرة الثانية ذلك اليوم، فاكتفيت بسؤال زالين عنه بعد أن عادت من عنده. طمأنتني عليه و قالت بأنه أفضل حالا و قد يتمكن من فتح خيمته للزوار في الصباح، ثم خلدت إلى النوم، أما أنا فظللت جالسة بمفردي بجوار شمعة مشتعلة أطبع و أعيد طبع ما تعلمته من أحرف من نارام.

كتبت و كتبت حتى ملأت اللوح كله ثم أخذت أقارن خطوطي بخطوط نارام. كانت أحرفه أكثر إستقامة، منظمة الشكل و متداخلة في ما بينها بشكل متناسق. و رغم أنني حاولت جاهدة تقليد أحرفه إلا أنني لم أفلح تماما في ذلك. كانت أغلب خطوطي متفاوتة في الطول، بعضها غير واضحة، و البعض الآخر مستقيمة و كأنها عيدان رقيقة لا رؤس لها على خلاف خطوط نارام التي كانت أشبه بالمسامير كما وصفها، لكن مع ذلك كانت بعض الأحرف القليلة التي نقشتها على اللوح تبدو جميلة، ما جعلني أتحمّس للغد لأريه ما كتبته، و لأتعلم منه أحرفا جديدة.

وضعت اللوح جانبا، لكنني ترددت في وضع القلم. حملته وكأنني سأطبع به، ثم تبسمت متذكرة كيف أمسك نارام يدي بيده الدافئة اللطيفة، كيف وجّهها ليساعدني على طبع أول حرف، و كيف حرّكها و ضغط على إبهامي برفق و هو يشرح لي. وددت في تلك اللحظة أن ألتفت إليه لألقي نظرة على ملامحه عن كثب، لكنني إرتبكت. إرتبكت كلي من لمسته.

وضعت القلم أخيرا، تغطيت بملاءتي ثم أطفأت الشمعة و إستلقيت في فراشي. لكن بدل أن أنام، وجدت نفسي أفكر في جواب نارام عن السؤال الذي طرحته عليه. سألت نفسي كما إقترح علي، إن كنت سأستمر في حب إيلات حتى و إن كان روحا تطفو أمامي من دون شكل، فترددت في الجواب. أدركت عندها أنني حقا لا أعرف إيلات جيدا. لم أكن أعرف ما الذي يفكر فيه، و لا كيف يفكر في الأشياء و لا ما يعتقد عنها أو ما يشعر به تجاهها. لم أكن أعرف الكثير عن الجزء الذي لا أستطيع رؤيته منه. الجزء الذي لا أستطيع لمسه و لا إستكشافه. بل لم أكن أعرف أي شيء عن علاقته بأور أيضا، و لو لم أجدهما على تلك الحال في تلك الليلة لما عرفت. لم يخبرني عن عمله و لا كيف تعلمه، و لا عن والديه و لا عن سبب عيشه بعيدا عنهما. كان يخبرني بما يريد و يخفي عني ما يريد. من دون شكله الجميل، من دون وجهه و جسده، ما كنت لأشعر تجاهه ربما بأي شيء. سألت نفسي نفس السؤال عن نارام، فاعترفت لنفسي بأنني لو قابلته في عالم غير مادي لأثار إنتباهي و إهتمامي بأفكاره المختلفة و مشاعره الدافئة، و لربما إخترته بدلا من إيلات دون أن أتردد في ذلك.

تبسمت متذكرة ما أخبرني به نارام عن أمه. تخيلته و هو صبي صغير، و رأيت أمه أيضا رغم أنني لم أكن أعرف عن مواصفاتها شيئا، فرسمت لها في خيالي إبتسامة تشبه إبتسامة نارام، و غزلت لها شعرا طويل يشبه في شكله و لونه شعر إبنها أيضا، ثم ألبستها أجمل فستان و هي جالسة تحدث صغيرها الذي تحمله في حضنها.

أشرق وجه نارام عندما تحدث عنها، و إتسعت إبتسامته حتى ظهرت أسنانه المنظمة. كان حبه لها و إشتياقه إليها واضحين للغاية. كانت المشاعر التي أبداها تجاهها كلها عكس ما كنت أحسه تجاه أمي. كنت أحس بالاختناق كلما تذكرتها وجهها المتجهّم، كلما تذكّرت كيف كانت تعنفني كلما فعلت شيئا من دون إذنها، و كيف كانت تسكتني بصفعة قوية كلما تساءلت عن أي شيء تعتبره مقدسا، خاصة آلهتها، و كيف كانت تلومني على كل شيء يحدث لي، خاصة ما يفعله بي هيد.

تقلبت يمينا ثم يسارا بحثا عن وضعية مريحة لعلها تثير النعاس و تستدرجه إلى بدني فأغفو، لكنني عدت للاستلقاء على ظهري و رفعت الغطاء إلى وجهي. حاولت طرد صورتها و صورة أهلي جميعا إلا ذيتا من ذهني. حاولت تأمل صورتها الجميلة حتى أشبع منها، فسالت دموعي. تكومت حول نفسي فجأة و ضغطت بكفّي على فمي و أنا أنتحب في صمت. إشتقت إليها كثيرا، إشتقت إليها إشتياقا حارقا و كم تمنيت لو أنها كانت معي، لو أنها سافرت معي و شاركتني كل لحظة جميلة في رحلتي. تبتسمت لي صورتها و كلمني بنبرتها النشيط فسمعتها تنصحني و تقول: "إستمتاعي بحريتك يا عزيزتي. كوني سعيدة."

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن