نارام
أيقظتني لسعات الاصابات على ظهري قبل طلوع الشمس بقليل و طردت النعاس من مقلتاي، فقمت منهزما أمام الألم و جمعت فراشي ثم حزمت كل أمتعتي و أخرجتها من الخيمة. وجدت أفراد القافلة يجمعون خيمهم أيضا و يعدون دوابهم للانطلاق، ففعلت مثلهم و فكّكت خيمتي. لقد طردونا. لم أستطع تصديق ذلك. لم يسبق لنا أن طردنا من أي مكان من قبل. كان ذلك بمثابة صدمة لنا جميعا. كان جزء مني يخشى ظهور أولائك الرجال مجددا قبل رحيلنا، لكن جزء آخر مني كان متأكدا من أنهم لن يتجرأوا على ذلك. بدى عليهم الرعب ليلتها عندما هددهم إيلات، و بدى لي أيضا أنهم صدقوا حقا أنه يستطيع القضاء عليهم بسحره.
و أنا أجمع الأوتاد، لمحت زالين تخرج بمتاعها ثم تعود إلى الداخل. فكرت في زيارتها. أردت أن أطمئن على حال أثرا. لم تكن لتتحسّن بين ليلة و ضحاها لكنني أردت أن أراها، أن أسألها عن ما إذا كانت تقوى على السفر رغم أنني كنت أعرف جيدا أنها لن تتحمل مشقة الطريق و هي في ذلك الوضع الذي لا تحسد علي. أردت أن أتحدث إليها و لو لبضع دقائق، و أبتسم لها لعل ذلك يجعلها تبتسم.
تركت خيمتي المطوية بالقرب من بقية أغراضي، ثم قصدت خيمة زالين. دخلت بعد إذن منها، فوجدتها تجلس خلف أثرا تمشط لها شعرها، ثم تربعت على البساط بعيدا عنهما بقليل بعد أن أشارت لي بذلك. كانت أثرا تحدق بأصابعا المتشابكة في حجرها طوال الوقت، و لم ترفع بصرها إلا لحظة دخلت لتخطف نظرة سريعة إلي، ثم عادت إلى إطراقها. كان وجهها أقل شحوبا و بدى جسمها مسترخيا و هادئا و هي في ثوب من ثياب زالين. فستان طويل بني يميل إلى الحمرة معلق على كتفيها. شاهدت ملامحها جيدا لأول مرة. كانت جميلة. بديعة الجمال. ذكّرني حسنها بما تناقلته الأجيال عن حسن سميراميس. حسن من عالم غير عالمنا. حسن إنبثق من بيضة عجيبة أخرجتها الحيتان من قلب البحر، و إحتضنتها الحمائم حتى فقست.
سألتني زالين إن كنت قد إستعددت للرحيل و هي تضفر شعر أثرا، فأومأت لها. نظفت حلقي ثم قلت و أنا أختلس النظر إلى أثرا من حين إلى آخر، منتظرا منها نظرة أو ردة فعل. "كنت في طريقي لأعد حصاني للانطلاق.. ففكرت ربما.. قد تحتاجه أثرا أكثر مني."
إلتفتت إلي أخيرا. و عندما تعانقت نظراتنا خفق قلبي خفقة عنيفة على غير عادته، فتشتت إنتباهي تماما و نسيت أن أبتسم لها. أردفت مفسرا: "أظن.. قد يصعب عليك المشي و أنت في هذه الحال.. لذلك.. إن كنت ترغبين.. فسأعد لك حصاني و يمكنك ركوبه على الأقل حتى تتحسني."
إرتسمت إبتسامة صغيرة على محياها فبادلتها بمثلها، أو ربما بأوسع منها. شعرت بشفتاي تنبسطان أكثر مما يجب لوهلة. شكرتني، ثم حاولت إضافة شيء ما لكن صوت إيلات الذي إستأذن بالدخول قاطعها. أطلّ برأسه و همّ بالدخول، لكنه تراجع عندما وقعت عيناه علي. ألقى نظرة على الجالستين ثم أرجع بصره إلي قائلا، "كنت أبحث عنك. هل لي بالتحدث إليك."
وافقت و رافقته إلى خارج الخيمة. و ما أن إبتعدنا قليلا حتى أوقفني. "ما الذي كنت تفعله هناك؟"
أرجعت خصلاتي المتطايرة إلى الخلف بكفي. "ذهبت لأخبر أثرا بأنني سأعد حصاني لأجلها."
"و لماذا تعد حصانك لأجلها؟"
"لأنها لن تقوى على السير و هي على تلك الحال."
كانت تعابيره كالعادة لا توحي بما يجري بداخله حقا. لكنه حدق بي طويلا فأدركت أنه لم يكن مسرورا باهتمامي بأمر أثرا.
سألني: "تعجبك؟"أجفلت ثم أشحت بوجهي بعيدا دون قصد مني. لم أستطع إنكار إعجابي بجمالها، لكنني لم أساعدها بسبب ذلك كما كان يظن. تدخلت لأنهم عاملوها أسوء معاملة و أرغموها على ما تكرهه، بل و حاولوا دفنها حية. و كأي إنسان عاقل تدخلت. كأي إنسان يشعر، يشفق و يعطف، قدمت يد العون. "الأمر ليس كذلك.."
إقترب مني. "أنت تعلم أنها كل ما بقي لي و كل ما أريده من هذه الحياة."
"أعلم ذل-"
قاطعني بلهجة حادة: "إذا إبتعد عنها."
قطبت مستغربا من كلامه. "إيلات.. لم أفعل شيئا سوى مساعدتها."
برز فكه أكثر من ذي قبل ثم هتز حاجبيه هزة سريعة. "شكرا لك! لكنها لم تعد بحاجة إلى خدماتك. فهلا تركتها و شأنها؟"
عجزت عن الرد عليه فسكتّ. مهما قلت و مهما شرحت، لم يكن ليكترث. لقد وجد حب حياته بعد فراق و ربما كان يخش أن يحيل بينهما شخص ما مجددا. حاولت أن أتفهم ذلك، لكنني لم أستطع أن أخفي إنزعاجي من الطريقة التي كلمني بها فتجهمت في وجهه. سألته متذكرا عندما همّ بالانصراف، عن سبب بحثه عني.
"أبحث عنك؟"
"قلت إنك.. كنت تبحث عني قبل قليل."
تحركت بؤبؤتاه و كأنهما تعينانه بذلك على العودة بذاكرته للوراء، ثم قال بلا مبالات: "آه.. أردت إخراجك من الخيمة ليس إلا."
رمى تلك الكلمات في وجهي ثم غادر.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Fiction Historiqueنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...