أثرا
إنتفضت من النوم لاهثة. رأيت كابوسا آخر. كابوسا غدا حلما في نهايته. لكنه أرعبني. رأيت أمي و أبي و أخواي و جميع أهل القبيلة يحيطون بي من كل جانب و يطالبون بموتي و هم يرددون: "إدفنوها."
إقترب إيلات مني فتبسمت، مددت يدي له واثقة من أنه سيقدم لي يد العون لكنه ما أن بلغني حتى خان ثقتي و دفعني فسقطت في الحفرة التي كانوا ينوون دفني فيها، ثم همّوا يرمي الحجارة و التربة علي. أجهشت بالبكاء و أنا أغمض عيناي باحكام، لكن فجأة توقف كل شيء. لم أعد يتناثر أي شيء من فوقي، ففتحت جفناي لأجدني في حضن نارام، يصدّ عني ظهره التربة و الحجارة، و هو يهمس لي: "لا بأس. كل شيء سيكون بخير. كل شيء سيكون بخير."ألقيت نظرة على زالين النائمة في سلام، ثم ضممت ساقاي و أرحت جبيني على ركبتاي إلى أن إستقرت أنفاسي و هدأت، لكنني لم أتمكن من الكفّ عن التفكير في إيلات و أور. ربما فعلا ذلك من قبل مرات عديدة من ورائي. ربما كان طوال تلك المدة يقول أنه يحبني في وجهي ثم يضاجعها من وراء ظهري. ربما كان يقول نفس الكلام لها، يهمس لها بأنه يعشقها، بأنه مجنون بها، ثم يسحرها بقبلة مغرية من شفتيه فتهيم به. ربما كان مثل هيد، لا يكترث لمن يضاجع ما دام جسدا يستعمله ليرضي به رغبته، لكن بدل أن يغتصب، يفتن و يذهب بالعقول فيأخذ ما يريده.
جلست أحدّق بنملة تحمل فتات الخبز على ظهرها و هي تركض عودة من حيث أتت ربما، فتساءلت إن كانت هي الأخرى مثلي لها مشاعر معقّدة تعذبها أحيانا، إن كانت تحب و تريد من يحبها، إن جزء من ماضيها يلاحقها ليل نهار، و إن كان أحدهم قد خانها من قبل و بماذا أحسّت،... أم أن كل ما يشغلها هو قوت يومها. إلتفت عنها و مررت أناملي على خطوط كفّي محاولة التركيز في معانيها لكنني فشلت فشلا ذريعا. كان إيلات يتقدم كل أفكاري، و صورته أمامي سواء كانت عيناي مفتوحتان أو مغمضتان. و لأطرده من ذهني، خرجت من الخيمة و تمشيت قليلا من دون ردائي. و رغم أن البرد كان يقرص لحمي، إلا أنني ظللت بالخارج ممتنة للجو على ذلك الصقيع الذي أشغلني عنه قليلا، و لم أدخل إلا عندما طلعت الشمس معلنة عن يوم جديد. يوم لم أكن على أي إستعداد لأعيشه.
وجدت زالين مستيقظة ترتب مكان نومها. تبسمت لي و هي تطوي ثوب نومها. "صباح الخير. إستيقظتي باكرا اليوم."
بادلت إبتسامتها بمثلها لكنني لم أستطع إخفاء تعبي و حزني. بل لم أكن أريد إخفاءه. جلست في فراشي و غطيت ساقاي. "لم أستطع النوم فخرجت لأتمشى قليلا."
جلست بجواري. "تبدين مرهقة. هل أنت بخير؟"
"سأكون بخير.. أحتاج قسطا من الراحة ليس إلا."
"لا بأس. إبقي هنا و إرتاحي و سأحضر لك بعض الطعام."
شكرتها فساعدتني على الاستلقاء و غطتني. رتبت بقية أغراضها، مشطت شعرها و أسدلته على كتفيها ثم إنصرفت إلى خيمة الطاهي لتتناول فطورها، و تركتني وحدي مع الضجيج الذي يملأ رأسي. أدرت ظهري إلى المدخل و توسّدت جنبي الأيسر و أنا أتحسس إصابات ذراعي اليمنى. بعضها كان لا يزال يؤلمني، و أخرى شفيت تماما، لكن أثرها موشوم على لحمي ليذكرني بالجحيم الذي عشته طوال تلك السنين.
سمعت صوته اللطيف فجأة يتردد في ذهني و هو يقول: "لا تقولي مثل هذا الكلام لنفسك. أنت جميلة. أجمل فتاة رأيتها في حياتي." فغمرني هدوء كان لا يزال غريب عني. هدوء لا أعرفه سوى عندما ينط. لم أكن أعلم ما الذي يشعرني بذلك فيه، هل هو صوته اللطيف، أم كلماته الرصينة، لكنني أردت أن أحسّ بذلك الهدوء لبقية حياتي.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...