𒐼

271 26 0
                                    

أثرا

وصلت و ذيتا إلى السوق البابلي. كنت طوال الطريق، و حتى بعد دخولنا السوق، أحسّ بنظرات الناس تتبعني، و بشفاههم تهمس لأذان بعضهم البعض. ربما كانوا يتحدثون عني، عن الاصابات على وجهي. ربما تهيأ لي الأمر ليس إلا، لكنني صدقت أنني موضوع ثرثرتهم حتى توهمت أن أصابعهم تشير إلي. لففت ثوبي حولي جيدا و أنا منكسة الرأس، أسير بجانب أختي التي كانت تحمل معها رغيفا خبز لفّتهما في قماش جاءت بهما إلى بيتها ذلك الصباح.

كان السوق مليئا بالناس و كأنه حطّ رحاله لتوه في القبيلة. كانت النساء يحلقن حول خيم باعة الملابس يتفقدن الفساتين الجملية المختلفة الألون و يتفاوضن في اثمنتها مع التجار. كان بعض منها يشبه الفستان الذي إشترته لي أختي، و البعض الآخر كان مختلفا عنها كثيرا. إقتربت من أحد الباعة و ألقيت نظرة عليها عن قرب. لبعضها أكمام طويلة و لبعضها أكمام قصيرة و ياقات مختلفة الأشكال. كانت بعض تلك الفساتين بسيطة و البعض الآخر مزين - مطرز كما أخبرتني ذيتا - و أخرى مرصعة بالأحجار الملونة. همت بها طويلا و أنا أتساءل كيف خطر في بال البابلين صناعة كل ذلك، بل و كيف وجدوا الطرق المناسبة لصناعة كل ذلك.
لحقت بذيتا عندما سحبت يدي برفق و هي تتجه نحو بائع الأواني الفخارية. كانت منتوجاته غريبة جدا عن ما إعتدت إستعماله و رؤيته. منقوشة و ملونة، و سلب لمعانها العجيب عقلي و أنا أتفحصها واحدة واحدة.
ثم تعمقنا في السوق و دخلنا بين خيمه المفتوحة، فغدى صوت اللحن الذي كان خافتا و بعيد، قريبا جدا، و صارت رائحة البصل و الثوم و اللحوم المختلفة المشوية التي كانت تعدّ في إحدى الخيم قوية تملأ أنفي و كأنني محاطة بأطباق من ذلك الطعام من كل مكان.
أقبلنا على مصدر اللحن الطروب. رجلان جالسان على الأرض يحمل كل منهما آلة خشبية في حجره، لأكبرهما بشرة شديدة السمرة، و شعر أسود كثيف مجعد و لحية تخفي شفتيه عن العيان، و لصحابه الأصغر سنا و الأقل سمرة منه شعر بني قصير و لحية في بداية نموها.
همست لي ذيتا فخورة بما تعلمته من كلمات من السوق: "تلك الآلة تدعى قيثارة سومر."

وقفنا إلى جانب المتفرجين نشاهد عرضهما. كانا يحركان بأناملهما ما يشبه خيوطا سميكة مثبتة بالآلة فتصدر ذلك اللحن العجيب. ذلك اللحن الذي شعرت به يملأ أذناي و يسري في جسمي بأكمله ثم يختلط بدقات قلبي و بأنفاسي. أحسست به يرخي بدني و يطمئن نفسي، و لوهلة شعرت و كأنني أطفو بين السماء و الأرض. وددت لو أعيش في تلك اللحظة لبقية حياتي، لكن سرعان ما إنتهى اللحن و إستفقت من حلمي.
ظهرت فتاتان أمام العازفين. كانتا في ثياب حمراء حمرة الورد، تكشف عن خصريهما النحيلين و سيقانهما الطويلة. على صدرهما قطعة ثوب و كأنها النصف العلوي لفساتينهم، مرصع بأحجار متلألئة. و حول ورك كل واحدة منهما قطعة ثوب و كأنها النصف السفلي لنفس الفستان، معلق بها قطع فضية دائرية كثيرة تصدر خشخشة كلما إرتطمت ببعضها عندما تتحركان. كانت إحداهما سمراء سمرة الرمال، ذات شعر بني مجعد طويل منفوخ و مسدول على كتفيها العاريين، و أما الثانية فكانت ذات بشرة قمحية و شعر طويل حريري أسود سواد الفحم، تسدله كله على كتف واحدة.
بدأ الرجلان بالعزف فأخذت الفتاتان تتمايلان ببطئ في البداية، ثم إنطلقتا ترقصان عندما بدأ ذو الشعر الكثيف المجعد بالغناء. كان صوته ساحرا، لكن الراقصتان كانتا أجمل. شردت فيهما طويلا. في الحلي حول عنقيهما و معصميهن و كعبيهن، و أخرى تزين خصلاتهما. سرحت في جسديهما الذي لا عيوب فيه، لا جروح عليه و لا كدمات. كانتا تبتسمان لبعضهما البعض طوال الوقت و هما ترقصان معا. بداتا سعيدتين للغاية. كيف لا و هما حرتان طليقتان، تسافران برفقة القافلة و تجوبان الدنيا و تشاهدان ما فيها. قبضت الغيرة أحشائي. لم أحسدهما لكنني.. أردت شيئا من ما تملكانه. أردت تلك الحرية التي تنعمان بها. أردت أن أضحك كما تضحكان و هما ترقصان. أن أكون سعيدة.

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن