𒐐𒁹

104 8 1
                                        

إيلات

سألت عن قبر أمي، قبر المرأة التي قتلت نفسها لتدفن مع زوجها، فأشار لي إليه أول شخص سألته. ربما عرفها الجميع بعد الذي فعلته. ربما كانت حديث سكان بابل لأيام أو ربما لأسابيع. جلست عند قبرها عندما وجدته لساعات. دفنوها بجانب ذلك اللعين كما تمنت. أثار ذلك جنوني كما لم يثره أي شيء من قبل، و جعلني أتمنى بشدة حفر قبره و إخراج عظامه و تحطيمها بقدماي ثم الرمي بها في النيران و مشاهدتها تحترق حتى تصبح فحما ثم رمادا. لم يكن الشلل الذي سببته له كافيا ليشفي غليلي، خاصة بعد أن أخذ أمي مني مرة أخرى. أردت أن أعذّبه كما عذّبني و عذّبها. أردت أن أراه يصرخ ألما كما جعلني أفعل، و كما جعلها تفعل. أردته حيا في تلك اللحظة لأنهال عليه بالضرب حتى أمزق لحمه و أحطم عظامه. لكنه مات. مات. و ماتت أيضا و رافقته إلى الجحيم.

جلست بجوار قبرها أنتحب في صمت، و بقيت على تلك الحال حتى خيم الظلام. طلب مني حارس المقبرة العودة إلى بيتي عندما تأخر الوقت لكنني لم أعره إهتماما فانصرف. ظللت مستلقيا على بطني عند قبرها، أتحسس تربة الأرض الجافة التي تحضن جسدها و أتنشق رائحتها بحثا عن رائحة أمي. رائحة الثوم الذي تعالج به الجروح على جلدها و رائحة العرق الذي يتصبب منه من الحمى. لكنني لم أجد لرائحتها أثرا. أكلت الأرض و حشراتها لحمها و إرتوت بدماءها من دون شكّ.

بكيت و بكيت كما لم يسبق لي أن فعلت من قبل، لكن عيناي لم تؤلماني بقدر ما ألمني الضيق الذي قلّص قلبي حتى إنفطر. الضيق الذي عصر معدتي و كل ما يحيط بها من أحشاء حتى تمزّقت. أردت أن أخلص نفسي من ذلك الاختناق، لكن الحل الذي همس لي به الصوت في ذهني كان أسوء. لم يسبق لي أن فكرت في قتل نفسي من قبل، لكنني في تلك اللحظة فعلت. أردت اللحاق بأمي، مقتنعا بأنه من الممكن أن أراها مجددا في العالم الآخر. عالم أفضل، أعيش بصحبتها فيه. عالم لم أكن واثقا من وجوده حتى. ربما لو كنت متأكدا من وجوده لرحلت عن الدنيا في تلك اللحظة. الدنيا التي لم يبقى لي فيها شيء عدى مشاعر الذنب و الندم التي تعذبني ليل نهار. الدنيا التي دمرتها بما صنعته بيداي و طردت منها من أحببت و صاحبت، فبقيت وحيدا كئيبا في النهاية.

شعرت بشيء غريب يلتف حولي فجأة. شيء و كأنه أذرع تلثمني و تجذبني نحو الأرض. إنتفضت من مكاني وقمت واقفا و أنا ألهث متفاجأ مما أحسست به. تفحصت المكان من حولي لكن لم أرى شيئا. ظننت أنني تخيلت ذلك لكنني عندما سمعت همساته الصاخبة التي لم أدرك لها معنى، تأكدت أنني لم أكن أهلوس. إستردت حول نفسي مجددا بحثا عنه، فظهر أمامي في رمشة عين بجانب قبر أمي. تراجعت بضع خطوات إلى الخلف و أنا أجفف دموعي. كان يبدو كما رأيته أول مرة. ظلا مخيفا لا ملامح له.

"أرى أنك وجدت أمك يا صغير."

غلت دمائي و أنا أحدق بذلك اللعين. و لم أدرك حتى صحت به و أنا أشير إليه بسببتي مرارا متهما إياه: "خدعتني. كذبت علي و خدعتني."

قهقه ضاحكا. "هذا ما نفعله بالبشر يا صغير. أولم تكن تعلم؟"

هززت رأسي رافضا أن أصدق كل ذلك و أنا أتمتم لنفسي: "ما كان علي أن أفعل ما فعلته.. ما كان علي أن أفعل.. أن أضع يدي في يدك.."

"ماذا الآن؟" أخذ يطوف من حولي ببطء. "تفكر في أن تفلت يدي؟"

إلتف حول جسمي و كأنه ثعبان ضخم و عصره و كأنه يحاول أن يفزعني بذلك، لكنه لم يثر بذلك سوى غضبي. لم يكن قادرا على أي شيء. لم تكن له القدرة يوما على أي شيء حقا.

بدأ يوسوس لي: "هل تظن أن نارام سيسامحك على ما فعلته به؟ ماذا عن أثرا؟ هل تعتقد حقا أنها ستشعر بالأمان و هي بجانب قاتل مثلك؟ لقد إنتهيت. خسرت كل شيء. خسرت الجميع. ليس لك سواي. من دوني لست سوى دجال لعين. من دوني، إن أفلتّ يدي، سيكون من الأفضل لك أن تموت."

ضربت بذراعاي و خلصت نفسي منه و غادرت موقفي جريا، لكن همساته إستمرت في ملاحقتي و كأن الرياح تحملها لتسمعني إياها. قد لا يسامحني نارام على ما فعلته به، و قد تتركني أثرا كما فعلت أور، و ربما كنت دجالا كاذبا طوال تلك السنين، لكنني كنت أستطيع أن أفلت يد ذلك الشيطان اللعين. كنت أستطيع أن أفعل الكثير من دونه و أصبح أفضل من دونه. لوهلة صدقت كل ذلك. لوهة أردت أن أثبت له ذلك، لكن همساته خالطت أفكاري حتى ظنتها صادرة مني فصدقتها. صدقت أنها صوتي لأنها كانت تشبهه كثيرا، و لأنها أيضا كانت حقيقة مؤلمة لم أستطع إنكارها.

"لست سوى طفل ضعيف من دوني أم أنك نسيت؟ هل نسيت كيف كان يركلك أبوك حتى تختنق؟ و كيف طردتك أمك و كيف بصقت في وجهك؟ لا أحد يريدك. لا أحد يكترث لأمر. حتى التي أنجبتك ذاقت ذرعا بك. أن تموت أفضل لك. فلتقتل نفسك. فلتمت. فلتمت.."

صرخت كالمجنون و أمرته أن ينقلع و يتركني و شأني، فانفجر صوته ضاحكا. وضعت كفاي على أذناي و صرخت صرخة قوية و أنا أبحث عن ظله متوسلا له أن يبتعد عني، فهرب الناس مني و تفاداني المارة و هم يحدقون بي بعيونهم المصدومة و المرعوبة. عيونهم التي شاهدتني باستمرار و أنا أجن شيئا فشيئا، بينما كانت أفواههم تنبس بكلام لا أسمعه. أفواههم التي ستروي عني لمن لم يكن حاضرا ليتفرج بنفسه، ليرى مجنون بابل بأم عينيه. الفتى الذي قتلت أمه نفسها لتلحق بزوجها المشلول فجن جنونه.

تعثرت كثيرا و أنا أجري قاصدا بيتي حيث نويت كتابة نهاية مأساوية لتلك القصة اللعينة. خاتمة لحكايتي التعيسة. حكاية المجنون الذي أحرق كل شيء يمتلكه، ثم نفسه في قلب بيته.

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن