𒐋

210 24 0
                                    

إيلات

وجدتها. أتت بقدميها إلي. لم أستطع تصديق ذلك. لم أستطع التركيز و لو مع زبون واحد من بعد زيارتها. كنت أفكر فيها طوال الوقت، في تلك اللحظة التي دخلت فيها و جلست فيها أمامي، فاهتز لها قلبي. أصبحت أكبر و أجمل بكثير، لكنها لم تعد مشرقة كما عهدتها. بدت مثل وردة بديعة الجمال في طريقها إلى الذبول. على خدها كدمة إسودّ لونها و على ذقنها جرح متورد جديد حاولت إخفاءه بشعرها المسدول. كانت عينيها السوداوتين الواسعتين تعكسان تعاسة لم أتخيل يوما أنني سأراها فيهما. اللعنة على من فعل بها ذلك. أردت أن أحيط وجهها بكفاي و أقبّل كل جرح من جراحها، ثم أقبّل شفتيها الممتلئتين اللتان كادتا تفقدان لونهما الأحمر الفاتن قبلة طويلة. قبلة إشتياق شغوفة. لعلي أعيد لهما بذلك إشراقتهما.
قصت علي أختها كل شيء عن مالكها اللعين. كنت أذكر ذيتا لكنها لم تعرفني. أما أثرا فقد عرفتني. يكفيني النظر إليها لأعرف ما الذي يدور في خاطرها. كانت كذلك دائما، لا تقول الكثير، و أحيانا لا تقول شيئا، لكن ما تفكر فيه يتضح على محياها دائما.
كشفت لي ذيتا عن كل الكدمات القديمة و الحديثة المنتشرة على جسم أثرا. كانت في حال لا تحسد عليها. تبا لذلك اللعين و تبا للقدر الذي جمعها به. لو كان أمامي في تلك اللحظة لانقضضت عليه و تخلصت منه بيداي دون تردد. تفحصتها. كل جزء من جسمها المكشوف و الغير المكشوف. كانت نحيلة يكاد جلدها يلتصق بعظامها التي برزت أغلبها أكثر من اللازم. و على رقبتها بين كل تلك الكدمات المتفرقة، أثر أسنان متوحشة كم تقت لكسر أنف صاحبها. عندما رفعت يدها إلى ذراعها لتحجب عني ما شوهه ذلك اللعين منه، إسترجعت صورة أمي. كانت تفعل ذلك أيضا. تخفي ما يخلّفه ذلك الحثالة الذي تجري دماءه في عروقي على جسدها من إصابات و تبتسم لي و كأن شيئا لم يكن. إسترجعت ذكريات من ذلك الجحيم الذي نشأت فيه. ذلك الجحيم الذي تعذبت فيه و أمي و ضربت فيه ضربا مبرحا كلما حاولت حمايتها. مرّ على كل ذلك سنوات لكنني عندما أتذكر ما عشته و إياها ترتفع حرارة بدني إلى أقصاها فيغلي دمي، و كأنني أعيد عيش تلك اللحظات مرة أخرى.

لوهلة فكرت في إلقاء تعويذة أحفظها عن ظهر قلب على مالك أثرا. تعويذة ألقيتها من قبل على ذلك الملعون الذي ورثت لون شعره و شكل عينيه. لكن ذلك السحر لم يكن ليحرر أثرا. أردتها حرة منه تماما. أردتها معي و بجانبي. و عندما تذكرت أنه يجب علي قتل أحدهم، قررت قتله. حثالة مثله لا تستحق الحياة على أية حال.

*

آن أوان إستراحتي فاعتذرت من الزوار و أغلقت خيمتي. أخذت معي المكافئات التي جمعتها ذلك الصباح من خضار و فواكه ثم قصدت خيمة الطاهي لأتناول غدائي. وجدت ليشار و سام هناك. كان أحدهما ينظف قيثارتيهما و الآخر يساعد في تقديم الطعام.
لسلّمت الطباخ سلة ما كسبته، ثم سكبت لنفسي كوبا من الماء و جلست على البساط المفروش خارج الخيمة بقرب ليشار. لاعب أوتار قيثارته فأصدرت طنطنة لطيفة، ثم وضعها جانبا و هو يسألني: "هل سمعت ما حدث مع نارام؟"

تجرعت الماء مقطب الجبين، مستغربا. و حتى قبل أن يقول أي شيء، أنبأني القلق على محياه عن نصف الخبر. »"لقد هاجمه أحدهم و رماه بحجر و خدش وجهه."

"متى؟ و لما؟"

أجابني سام و هو يضع أمامنا طبقين من الخضار المشوية: "كان يقص على الناس حكاية عندما حدث ما حدث. أما السبب فلا أعلم عنه شيئا."

قمت من مجلسي. "و أين هو الآن؟

"عند زالين."

هرعت إلى خيمة زالين عندما خطر في بالي أنه ربما حاول بطريقة ما التدخل في عادات و تقاليد القبيلة. إنه غبي و ساذج بما فيه الكفاية ليفعل ذلك. لطالما ظنّ أن الجميع مثل أهله مستعدون للاستعماع إليه و تقبل رأيه مهما كان مختلفا و غريبا.

دخلت بعد إذنهما، ثم تربعت أمامهما فسمعت نحنحته الخافتة عندما فرك جبينه. كان الخدش واضحا على خدّه لكنه لم يكن سيئا. سألته عن الذي جرى فمرر أصابعه بين خصلات شعره ثم دلّك مؤخرة رقبته في صمت قبل أن يفصح لي أخيرا عن ما حصل بينه و بين المتفرجين.
كان صوته مبحوحا و متقطعا بعض الشيء، و كان ينظف حلقه من حين لآخر. بدى منشغل البال في حين كان يجب عليه أن يكون غاضبا. في موقف كذاك كان يجب أن يثور، أن يجن جنونه و أن يرد الصاع صاعين و ينقض على ذلك المغفل الذي آذاه و يكسر أنفه. لكن بدل من ذلك يحزن على حال فتيات القبيلة و ينشغل بمستقبل أطفالها الذين لا يعرفون الحق من الباطل كما يقول. و فوق ذلك يبحث للناس عن أعذار يبرر بها أفعالهم. كم كنت أكره ذلك فيه. أردت أن أصفعه. أن أصرخ في وجهه و أذكره بأنه هو من رُجِم بالحجر و لا أحد غيره.

تعجبت منه. "لماذا أنت هكذا يا نارام

"لماذا.. أنا.. كيف؟"

"لماذا لم تقل شيئا؟ لماذا لم تدافع عن نفسك؟ لماذا لم ترمي ذلك السافل بحجر أيضا؟"

تنهد و كأنه لا يصدق أنني سألته كل تلك الأسئلة. "لا أظن أن رمي ذلك الرجل بحجر دفاع عن النفس يا إيلات. و لو فعلت ذلك لنشب عراك في الساحة بسببي. كما أن هناك أطفال في-"

قاطعته، و لم أدرك أنني صحت به إلا عندما سمعت ما خرج من فمي. "أطفال؟ و ما شأنك بالأطفال؟ هل أنجبتهم؟ هل هم أبناءك؟"

ضغطت زالين على يدي. "إهدأ يا إيلات. لم يحدث شيء يستحق كل هذا الانفعال."

عبست في وجهه، لكنه قابل تجهمي بنظرة ثابتة مختلطة بشيء من الصرامة. شعرت بأنني المغفل الضعيف أمامه في تلك اللحظة. ذلك الثبات و تلك الرصانة في عينيه جعلتني أكره نفسي. ربما لهذا كنت أغضب منه كثيرا. لأنه يجعلني أبدو تافها أمام نفسي.
و من دون أن أستأذن أو أقول شيئا، قمت من مكاني و إنصرفت.

الساحر و الراويحيث تعيش القصص. اكتشف الآن