إيلات
خسرتها. خسرتها و إنتهى الأمر. خنت ثقتها. لم أكن صادقا معها و لم أخبرها عني و أور. كذبت. لكنني لم أكذب و لو في حرف واحد عندما أفصحت لها عن حبي لها. خدعتها و تفاديت الاجابة عن أسئلتها عن السحر و عن من أكون حقا. أردتها أن تراني كما أريد أنا و ليس كما أنا عليه. أردتها أن تظنني نبيلا و شريفا، و حاولت جاهدا أن أخفي حقيقتي القذرة إلى أن فضح أمري. كنت أستحق ما حدث لي. و كانت تستحق أن تعرف حقيقتي.
حطمت قلب أور أيضا. جعلتها تقوم بما أرغب فيه أنا و لم أعرها إهتماما، و في النهاية قلت عن ما أجبرتها على القيام به خطأ. إعتذرت منها لكنها رفضت قبول إعتذاري و قالت بأنني يجب أن أعتذر من أثرا و ليس منها مفسّرة: "لم تخبرها عنا، أما أنا فكنت أعلم بأمركما. أنا مخطئة مثلك يا إيلات و أستحق ما أشعر به الآن."
ثم غادرت.طعنتها منذ البداية بخنجر لا يزال عالقا في صدرها. خنجر لا يشعر بحدّته و عمقه سواها، و لا يعلم بأمره سواي.
*
بعد ليلة طويلة حرمت فيها من النوم، خرجت في الصباح الباكر قاصدا خيمة الطاهي ظننا مني أني سأجد أثرا هناك لأعتذر منها مجددا، رغم أنني كنت واثقا من أنها قد ترفض الاصغاء إلي. لم أكن لألومها على ذلك. خنتها و جرحتها، و زدت طينة مالكها اللعين بلة. و لو كنت مكانها لما سامحت حثالة مثلي.
وصلت إلى الخيمة فوجدتها مفتوحة ممتلأة تعم فيها ضجّة أفراد السوق و بعض أهل القرية. فتشت عنها بينهم لكنني لم أعثر عليها فخرجت لأرى زالين و أور تتحدثان و هما تسيران، فهرعت إليهما و أنا أنادي و أطلب منهما أن تتمهلا. إستدارت إلي و رمتني بنظرة باردة حذرتني من خلالها بأنها تعرف ما الذي حصل و ما من عذر يغفر لي ما فعلته.
سألتها: "أين أثرا؟"
تبادلت و أور نظرة سريعة ثم أجابتني: "إنها متعبة قليلا اليوم. من الأفضل أن يقابلها واحد منكما فقط." إحتدت نبرتها و هي تردف: "و لا أظنها ستتحمل رؤيتك أنت بالذات بعد ما فعلتماه."
دنوت من أور، أملي الوحيد، فانتبهت إلى شحوبها و إنتفاخ جفنيها و تورد بياض مقلتيها. كانت حالها الشاهد على حقيقتي. وغد لا يختلف عن أبيه. "دعيني أذهب إليها يا أور. سأخبرها بأن الخطأ خطئي و أنك لم تفعلي شيئا."
"لا بأس يا إيلات. لا داعي لتفعل ذلك."
تدخّلت زالين و هي تحيط ذراع أور بذراعها: "من الأفضل أن تقابلها أور أولا."
"زالين. أرجوكي. أحتاج مقابلتها-"
قاطعتني غير مكترثة: "قلت لا أظنها ستتحمل رؤيتك. لو أرادت مقابلتك لخرجت من الخيمة. لكنها لم تفعل. و إذا لم تفهم معنى ذلك بعد فدعني أشرح لك." نقرت مرتين على صدري بأصبعيها بقوة. "إنها تتفادى مقابلتك."
ثم إنصرفتا. هممت باللحاق بهما مجددا لكن نداء نارام علي أوقفني. أقبل علي فاتجهت نحوه أيضا، ليس لأقابله لكن لأمرّ بجانبه و أسأله أن ينقلع من أمامي. ثم أكملت طريقي عائدا إلى خيمتي.
تبعني و هو يقول: "أهتم لأمرها يا إيلات. و إذا لم تجبني عن أسئلتي هذه المرة فسأتدخل."
أثارت كلماته الغبية ثائرتي لكن لسبب ما قهقهت ضاحكا. "تتدخل؟ هيا تدخل! لقد أفسدت كل شيء كان بيني و بينها. إفعل ما شئت."
لكنه لم يكف عن ملاحقتي. صاح بأسئلته و هو خلفي: "أخبرني فقط ما الذي جعلها ترتعد و كأنها رأت عفريتا؟ توقف و تحدث إلي. ما الذي فعلته؟"
أفقدني صوابي و لم أعد أطيق سماع صوته. لم أدرك متى و لا كيف حصل الأمر، لكنني وجدت بيني و بينه مسافة نصف خطوة أو ربما أقل، و أنا أصرخ في وجهه. "لم أفعل شيئا. أسمعت؟ لم أفعل شيئا. لا أفهم ما الذي يفزعها عندما أقترب منها أو ألمسها. لا أفهم."
إتسعت عيناه و تراجع خطوة بعيدا عني و هو يشير إلي بيديه أن أهدأ، ثم تبسم معتذرا لكل الذين إلتفتوا إلينا و الذين مروا علينا، ثم همس لي: "لا بأس.. لا بأس. لم أكن أعلم.. أن الأمر معقد هكذا."
ظننت أنني غاضب من نفسي لأنني خنتها، لكن في تلك اللحظة أدركت أن ما يقلقني و يغضبني أكثر من أي شيء آخر هو خوفها مني. عندما ترتعد بسببي، أكره نفسي أكثر من أي شيء. زفرت زفرة عميقة و أنا أبعثر شعري و كأن الذباب يطوف على رأسي و لم أعد أتحمل أزيزه المزعج.
"هل يمكننا الحديث يا إيلات؟ أرجوك؟ كصديقين كما كنا نفعل في الماضي؟"
الحقيقة أنني كنت في أمس الحاجة إلى التحدث إليه، و في أمس الحاجة إلى نصائحه. لكنني لم أستطع. لم أكن أستطيع النظر إليه طويلا دون أن أغضب و أمقت نفسي على ما فعلته به. دمرت صداقتنا و لكنه كان لا يزال يجهل ذلك. تمنيت لو أنني كنت أجهل ما فعلته أيضا، لو أني نسيت أنني من طعنه طعنة آلمته كثيرا. طعنة لم يكن يدرك أنني من وجهها إليه. رفضت طلبه و أشرت له بحركة من يدي ليذهب، لكنه أصرّ: "أرجوك.."
أحسست بشيء كضربات المطارق في رأسي فجأة، فحملته في يدي و أنا أقول: "لا أملك أجوبة على أسئلتك."
هممت بانصراف لكنه أمسك بساعدي. إنكمش ما بين حاجبيه و كأنه يتألم. "ما الذي حدث لنا يا إيلات؟ كيف أصبحنا غريبين هكذا بعد كل ما عشناه معا؟"
سحبت ذراعي فأفلتني ثم تركته خلفي و أنا أسرع إلى خيمتي قبل أن يتمكن مني الدوار الذي أصابني فيغمى علي أمام الجميع. لم أبتعد سوى بضع خطوات عندما هتف: "أيمكنك أن تجيبني على الأقل عن ما الذي قصدته عندما قلت بأنك دفعت ثمن ما فعلته بي؟"
لم أجبه. حتى و إن حاولت فلن أتمكن من الاجابة. إحتدّ ألم رأسي مع كل خطوة إتخذتها فأبطأت، لكن لم ينفع ذلك. لم أصل إلى الخيمة إلاّ بشق الأنفس. إستلقيت لعل الألم يخف، لكن تلك الفوضى التي كانت تملأ رأسي، صور كل عمل قذر فعلته و كل شخص آذيته، كل حياة دمرتها و كل سعادة سرقتها من أصحابها.. كل ذلك.. زاد من عنف دق المطارق في أعماق جمجمتي.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...