أثرا
ساعدتني زالين على تنظيف جسمي و مسحه بعد أن عالج الحكيم كل إصابتي، فزالت مني رائحة العرق أخيرا و صارت تفوح مني رائحة الزيوت الزكية و الأعشاب. رائحة محت من جلدي تلك النتانة التي تذكرني بهيد. ألبستني فستانا من فساتينها و فرشت لي مكان للراحة حيث إستلقيت بعد أن تناولت مشروبا أعده الحكيم لأجلي، ثم غطتني بملاءة دافئة.
إسترخى بدني لأول مرة منذ مدة. ربما لأول مرة في حياتي. كانت أنفاسي و دقات قلبي مستقرة على غير العادة، حتى أنني شعرت بنعاس لذيذ يجذبني. نعاس إستسلمت أمامه دون أن أفكر في ما قد يحل بي لو غبت و نمت. لم أعد خائفة من الاستيفاق المفاجئ بسبب ثقل جسده على جسدي، و لم أعد قلقة بشأن تخليص نفسي منه عندما يصفعني و يضغط على فمي بكفه القذرة. لقد مات. مات و لم يعد له وجود.
إعتلى صراخ خارج الخيمة فجأة فانتفضت جالسة. سرقت مني تلك الضجة الاطمئنان الذي غمرني لوهلة. تركت زالين الثياب التي كانت تطويها، حملتني في حضنها و مسحت على شعري مرددة: "لا بأس عليك. لا بأس. ستكونين بخير."لكن ما كنت أصغي إليه من حديث يدور بين تلك الأصوات في الخارج كان يعدني بخلاف ما وعدتني به قارئة الكف. سمعت أصوات رجال يطالبون البابليين بتسليمي لهم و يهددونهم بلعنة الآلهة التي ستحل عليهم أيضا بسبب مساعدتهم لي على مخالفة التقاليد.
هتف صوت قوي منفعل. صوت إيلات. "ألم يخطر في بال أي منكم بأن ما حدث في المقبرة اليوم رسالة من آلهتكم؟ إنها تطالبكم بترك الفتاة و شأنها. ألا تظنون أنها أرسلت تلك الوحوش لتمنعكم من دفنها؟"
لم أفهم ما قصده بكلامه آن ذاك. لم أرى وحوشا، لكنهم بالتأكيد أبصروا شيء أفزعهم. شيئا مخيفا لم أتمكن من رؤيته. و لم أتذكر أمر الطلسم و السحر إلا عندما أجاب صوت يهتز ثورانا: "لقد سمعت عنك أيها اللعين. سمعت عن سحرك و شعوذتك. لا بد و أنك من فعل كل ذلك لتضللنا. كان ذلك من صنعك و ليس من صنع آلهتنا."
صاح إيلات بنفس الهيجان: "أتصفني باللعين؟ أيها ال-"
قاطعه صوت آخر و أكمل مكانه. صوت رخيم هادئ له قدرة عجيبة على تحويل العواصف إلى نسيم لطيف. صوت نارام. "لما لا تعودون إلى منازلكم. لقد تأخر الوقت.
"سلموا لنا الفتاة أولا."
"آسف لكننا لن نستطيع فعل ذلك."
هتف الرجل مهددا: "إن لم تسلموها لنا فسنجمع أهل القبيلة كلهم و نهجم عليكم. لن نرحمكم."
دفنت وجهي في صدر زالين و أجهشت بالبكاء، فلثمتني بقوة أكبر و هي تهمس لي بأنه ما من شيء سيء سيحدث لي و هي معي، لكن كلامها اللطيف لم ينفع معي. كان إنتباهي كله موجها إلى ما يحصل خارج الخيمة.
سمعت إيلات يقول: "حسنا! جربوا الهجوم علينا و سأخرج بسحري من تحت الأرض وحوشا تحطم أعناقكم أيها الأوغاد."ساد الصمت لمدة قبل أن ينطق أحدهم: "أخرجوا من قبيلتنا. غادروا بالفتاة و لا تعودوا. فلتتبعكم اللعنة أينما تذهبون. فلتحل عليكم اللعنة."
رددت مجموعة من الأصوات ما قاله ذلك الرجل طويلا، ثم بدأ الضوضاء بتّلاشي حتى إنقطعت تماما. وجدت نفسي أفكر ما تفوه به إيلات. سحره الذي يخرج وحوشا من أعماق الأرض. وحوشا لا يراها الجميع. أردت أن أسأله عن الأمر، أن أفهم منه كيف يجري ذلك بالضبط و كيف يفعل ذلك. أردت أن أعرف منه أيضا إن كان بامكاني القيام بذلك أيضا. فلو كانت لي القدرة على فعل ذلك لأنقذت نفسي من العذاب الذي صبرت عليه لسنوات منذ البداية.
حاوطت زالين وجهي بكفيها. "لن يلمسكي أحد بسوء ما دمتي هنا يا أثرا. أنت في حمانا الآن." ثم أردفت و هي تغطني: "لذلك إطمئني و إخلدي إلى النوم."تمعنت النظر إلى ملامحها الطيبة القلقة على حالي. كانت تجفف خداي بابهاميها و هي تواسيني، بينما كنت أنتحب و أستنشق نفسا تلو الآخر، لأحسّ أخيرا بتلك العقدة التي أثقلت صدري تنفك تدريجيا.
إستأذن صوت إيلات من خلف الستارة فسمحت له زالين بالدخول. طل برأسه ثم قال بعد أن وجدتني عيناه في ركن الخيمة: "ذيتا هنا. تريد مقابتك."أومأت له فاختفى خلف الستارة. خرجت زالين هي الأخرى لتدخل ذيتا. إرتمت في حضني و بكت بحرقة. تفحصت وجهي بيديها و هي تسألني إن كنت بحال جيدة. إكتفيت بهز رأسي مبتسمة فسالت دموعها و هي تبتسم لي أيضا. و لأول مرة منذ مدة تبادلنا الضحكات. "هل عرفتي من يكون إيلات.. عندما دخلنا عنده هذا صباح؟"
"عرفته."
"لقد أخبرني عنكما." شعرت بحرارة بدني كلها تصعد إلى وجهي عندما سألتني: "هل هو ذلك الصبي نفسه الذي كنتي تحدثينني عنه عندما كنا صغيرتين؟"
إسترقت نظرة سريعة إلى إبتسامتها الواسعة. "هو نفسه."
عضّت على شفتها ثم دنت مني. "رافقيه إذا." إتسعت عيناي قليلا فأضافت: "لقد تدخل و رفاقه وساعدوكي يا أثرا. رافقيهم. إنها الطريقة الوحيدة لتنجي بحياتك."
"ماذا عنك؟"
"لا تكترثي لأمري. أرجوكي. غادري القبيلة و لا تلتفتي. سأكون بخير."
إبتلعت ريقي و أنا أقاوم رغبتي في الاستسلام أمام دموعي مجددا. "أكره فراقكي."
طبعت قبلة طويلة على جبيني ثم قالت: "أكره فراقكي أيضا. لكن لتعيشي عليكي أن تغادري. و أتمنى من أعماق قلبي أن تجدي السعادة التي تستحقينها أينما ذهبتي."
تبادلنا عناقا طويلا. و قبل أن تغادر، طلبت منها أن تعتني بالقطة التي تتردد على بيت هيد فوعدتني بأنها ستفعل ثم ودّعتني. كان كل ما يحدث من حولي في تلك اللحظة أشبه بحلم جميل. حلم جميل حرمت منه حتى في نومي طوال تلك السنين. شعرت و كأن أمنية من أمنياتي المنسية.. بدأت تتحقق أخيرا.
![](https://img.wattpad.com/cover/341708978-288-k956452.jpg)
أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...