إيلات
كنت أتناول الغداء برفقة ليشار و سام عندما هرول باتجاهنا أحد تجار سوقنا المتنقل و هو يلهث. وقع على ركبتيه أمام الخيمة فأسرع إليه الطاهي. حاول التاجر أن يتكلم و هو يهز يديه و يشير خلفه، لكن ما تلعثم به لم يكن مفهوما. كان يرتعد بأكمله و كأنه هرب من مذبحة كاد يقتل فيها. قدم له نارام كوبا من الماء و هو يمسح على ظهره و يسأله أن يهدأ. تجرع الرجل ما في الكوب جرعة واحدة كمن لم يشرب منذ أيام ثم أراح جبينه في كفيه لمدة.
إبتلع ريقه بصعوبة بالغة ثم إستنشق نفسا عميقا: "خلف المعبد.. في المقبرة.. كانوا يستعدون لدفن رجل.. و كانوا.. كانوا سيدفنون زوجته معه.. لكنها.. لكن فجأة.." وضعت وعاء العصيدة من يدي و أنا أنتظر منه بفارغ الصبر أن يؤكد لي أن ما جرى هو ما خططت له تماما. "خرجت وحوش من أعماق الأرض.. ثعابين ضخمة.. عناكب بحجم البشر.. و حشرات مقرفة إنقضت على الرجل الذي كان يمسك بتلك الصبية.. و كادت تفتك به.."
مسح وجهه بكفيه مرتين ثم طلب من نارام أن يسكب له كوبا آخر يروي به عطشه. أما أنا فغسلت يداي و مسحتهما بمنديل، ثم غادرت في صمت كي لا أثير إنتباههم و قصدت المعبد. و من دون أي تحكم مني، رسمت شفتاي إبتسامة إتسعت مع كل خطوة إتخذتها حتى صارت ضحكة، ثم قهقهة لم أستطع السيطرة عليها. كان ذلك أحد الأسباب القليلة التي جعلتني أتمسك بممارسة السحر الأسود رغم كل تلك الأعمال القذرة التي أجبرت على القيام بها. أدمنت على تلك الأحاسيس التي تغمرني كلما نجحت في إستعمال التعاويذ و حققت بها مبتغاي. تلك القوة و العظمة اللتان أنتشي بهما بين الفينة و الأخرى، فأؤمن بأنني حقا، كنت أستطيع فعل أي شيء مهما كان يبدو مستحيلا.لحق بي صوت وقع أقدام حاولت موافقة سرعتي. وقع أقدام عفوية رغم عجلتها من أمرها، عرفت أنها لنارام حتى قبل سماع صوته يسألني: "مهلا. إيلات. إلى أين أنت ذاهب؟"
لم أجبه. لم يكن ليسرّ بسماع القصة الحقيقة وراء ما حصل. و رغم أنني تجاهلته إلا أنه صاحبني. و ما هي سوى دقائق معدودة حتى وصلنا إلى المعبد، ثم هرعت إلى المقبرة. وقعت عيناي على أثرا فالتصقت قدماي بالأرض و كأن يدان نبتتا من تربتها و قبضتا على كعباي، و كاد قلبي يتوقف عندما رأيت ثعبانا ضخما شديد السواد ذي ثلاث رؤوس لها عيون حمراء، ملتف حول خصرها. و أخرى أصغر تزحف باستمرار على جسمها، تلتف حول عنقها، ذراعيها و ساقيها. و على اليابسة عناكب و حشرات ضخمة سوداء تستمر في الخروج من أعماق الأرض، تطوف حولها ثم تصطف أمامها و خلفها و كأنها تتأهب للدفاع عنها. لم أتوقع كل ذلك من تلك التعويذة.
بدت أثرا محتارة و هي تتفقد فستانها و كأنها لا تفهم ما الذي يرعب الناس من حولها، فأدركت أنها لم تكن ترى ما نراه. توقفت عينيها علي أخيرا فأشرت لها بأن تقترب و أنا أتقدم على مهل و حذر نحوها. كنت أعلم أن ما أبصرته وهم تهيأ لي و لهم، لكنها كانت توهمات إقشعر منها بدني. أقبلت كما طلبت فصاحبتها الوحوش. و ما أن بلغتني حتى أشرت إلى عنقها و همست لها بأن تخلع الطلسم، ففعلت. سلمته لي فانطلقت المخلوقات تنبش التربة و تزعف عودة من حيث أتت، حتى إختفت كلها.
توقفت الناس عن الوشوشة فخيم صمت مريب على المقبرة. أمسكت بيدها مقترحا عليها مرافقتي، لكن قبل أن ترد علي صرخت أمها باسمها فجذبت كل إنتباهها. ميزت بين الحاضرين أباها و أخويها اللذان وصلا لتوهما، و ذيتا التي شقت طريقها بين الواقفين و رمت نفسها على أمها متوسلة لها أن تترك أثرا و شأنها. صفعت العجوز اللعينة إبنتها الصغرى ثم إندفعت نحونا. أفلتت أثرا يدي ثم أقبلت على أمها لتلاقيها في منتصف طريقها إلينا.
"لا تذهبي يا إبنتي. لا تخالفي أوامر الآلهة."
مسحت الدموع التي كادت تججفّ على خديها بظهر يديها النحيلتين ثم نطقت بنبرة حادة لكن مرتعشة: "أحقا تريدينني أن أموت؟"
"أريدك أن ترافقي مالكك، و أن تفعلي كما تريد منكي الآلهة أن تفعلي."
دلّكت ساعديها بلطف كاذب ثم تبسمت إبتسامة كئيبة: "لقد جلبتي العار علينا عندما لم ترزقي هيد بالأبناء، ألا تعلمين ذلك؟ هل تحاولين جلب العار علينا مرة أخرى؟ ماذا سيقول الناس عنا؟ ماذا سيقولون عني؟"
تقطع صوتها: "أهذا ما تخشينه؟ العار؟ ما سيقوله الناس عنك؟ تقتلين إبنتك لترضي الغريب عنك؟ أهذا-"
قاطعتها العجوز المجنونة بصفعة قوية، شدّتها بها من شعرها و جرّتها إلى حيث حفروا قبرها. صنمتني الصدمة لوهلة ثم أسرعت إليها، لكن نارام سبقني و نجح في تخليصها من يد تلك اللعينة. قال و هو يحاول تهدئتها: "لا تفعلي هذا بابنتكي يا خالة. إهدئي أرجوكي. إهدئي. ما رأيكي أن نتحدث؟"
لكنها لم تهدأ. رفضت أن تهدأ. دفعت نارام عنها و قد إحمرت عيناها و تثاقلت أنفاسها تثاقلا مخيفا. تراجعت و إلتقطت حجرا، و دون سابق إنذار، رمته على إبنتها فأصاب جبينها. صاحت في وجهها: "أتبرأ منك يا ملعونة. فلتحل عليك لعنة الآلهة وحدك. أنت لستي إبنتي. لستي إبنتي. فلتحل عليك اللعنة وحدك."
إلتقطت حجرا آخر فمددت يدي إلى ذراع أثرا لأسحبها إلي، لكن نارام، مرة أخرى، سبقني إلى إستدراك الأمر. وقف أمامها و صدّ عنها الحجر بظهره. تقلّص شيء ما في جوفي و أنا أراقبه يبادل نظراتها المفزوعة بنظرات مطمئنة و هو يهمس لها بكلام ما. و سرعان ما تحول ذلك الضيق إلى ثوران عندما إنضم الجميع إلى أمها و شرعوا يرجمون نارام و يرددون عباراتها السخيفة. ندمت في تلك اللحظة على الطلسم الذي أخذته منها. لو أنني تركتها تحتفظ به حول عنقها حتى نخرج من المقبرة لما حصل ما حصل. أوقفت تلك العجوز المجنونة فرجموني بالحجارة أيضا. و لم يتوقفوا إلا عندما تدخل العازفان و مجموعة من أفراد القافلة.
وقفت ألتقط أنفاسي وسط تلك الفوضى و أنا أراقب أثرا من بعيد. كانت على ركبتيها و في حضن نارام. كان يضمها إليه و شفتاه تتحركان، ترددان شيء ما على مسامعها و كفّه تمسد على رأسها بلطف. أزعجتني رؤيتها بين ذراعيه كثيرا. أردتها بين ذراعاي أنا. أردت أن أهمس لها بأن كل شيء سيكون بخير. أن أطمئنها و أخبرها بأنني بجانبها. أنا من كان يجب عليه أن يهدأ من روعها و يحتضنها في قلب تلك الفوضى. أنا و ليس نارام.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Ficción históricaنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...