إيلات
كانت تمتطي حصان نارام و تكلم زالين التي تتمشى بجوارها، بينما كنت خلفها، بعيدا عنها. بعيدا جدا. أحسست بتلك المسافة البسيطة التي تفصل بيننا و كأنها عظيمة، و كأنني لأراها مجددا سأستغرق مسيرة أشهر، بل مسيرة سنوات. و كأنني مرة أخرى، تركتها خلفي في مكان بعيد لا أستطيع الرجوع إليه بسهولة. مكان لا أستطيع بلوغه إلا بشق الأنفس.
بدت أحسن و أفضل حالا بعد أن قضت أربعة أيام بعيدة عني، فأدركت أنني لم أكن سوى مصدر عذاب لعين آخر في حياتها. أربعة أيام لم أراها فيها إلا مرة واحدة. لحظة واحدة إسترجعتها آلاف المرات لعلي أريح بها صدري من ذلك القلق و الذنب الذي يعصر شيئا ما في أعماقه. لحظة تعانقت فيها نظراتنا فتبسمت لي. لحظة أشعرتني بأنني لا أزال أملك فرصة لأعيد المياه إلى مجاريها. فرصة لرؤيتها عن قرب مرة أخرى، لتحدّث إليها، للامساك بيدها و إحتضانها ثم تقبيلها قبلة ثانية، قبلة حنونة أصلح بها شيئا مما أفسدته.
إنضمّ إليهما نارام و أخذ مكان زالين، ناول أثرا قربة ماء صغيرة فاتسعت ضحكتها ثم حركت شفتيها قائلة شيئا. شكرته ربما. كنت قد سمعت من ليشار أنه كان يقضي بعد الظهر معها حتى تغرب الشمس، يعلمها كيف تكتب و تقرأ. ضايقني الأمر في البداية لكنني رفضت السماح لذلك الضيق بالتحكم بي. كانت سعيدة و كان يجب علي أن أسرّ لسعادتها إذا ما كنت حقا أحبها، لكنني لم أنجح تماما. كنت لا أزال أفكر في سعادتي أنا، في نفسي أنا، و في ما أريده أنا أكثر من أي شيء آخر. و مع ذلك كنت فخورا بنصف النجاح الذي حققته. فلقد حاولت، و لأول مرة منذ اليوم الذي تعلمت فيه إتخاذ قراراتي بنفسي، تغيير شيء في نفسي. أردت من أعماقي أن أصبح شخصا أفضل لأجلها، لدرجة أنني فكرت بكل جدية في ترك السحر الأسود للأبد، لكنني لم أكن مستعدا بعد لتلك الخطوة. ليس و سلامة أمي تعتمد عليه.
تقدمت أور بصحبة سام و الدابة التي يتشاركانها إلى مقدمة القافلة، فذكّرتني صورتها بتصميمها على العودة إلى أهلها في الوركاء التي لم نعد نبعد عنها سوى مسيرة يوم و نصف. حاولت إقناعها بالبقاء قبل يومين من يوم إنطلاقنا، لكنها رفضت الاستماع إلي. لم تكن تبدو غاضبة، لكن الألم الذي سببته لها جعل كلماتها صارمة و قاسية. أمرتني بالانقلاع من أمامها، بينما كانت مقلتاها تدمعان، لكنني تجاهلت أوامرها و إستمررت في التوسل إليها إلى أن دخل علينا سام. سألتني لآخر مرة أمامه أن أتركها و شأنها، فاستسلم و إنصرفت.
ربما لم أكن أحبها حبّ العشاق لكنني كنت متعلقا بها أكثر من اللازم. كانت تعرف عني كل صغيرة و كبيرة، كل شيء جيد و سيء، جانبي المنير الذي لا أكاد أملكه، و جانبي المظلم الذي كاد يصبح كلي. كانت تعرف أنني لعنة على كل من يعرفني لكنها لم تتردد و لم تتوقف عن حبي. كنت أحتاج حبها الذي لم يشترط علي يوما أن أتغير. حبها الذي لم يشترط علي يوما أن أبادله حتى. لكنني حطمت قلبها بما فيها الكفاية و أخذت من وقتها، من مشاعرها، من روحها و جسدها، و أقل شيء أستطيع منحه لها بالمقابل هو الكفّ عن التدخل في قراراتها، و الخروج من حياتها للأبد إذا إقتضى الأمر ذلك.

أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...