إيلات
وافق قائد القافلة على مبيتنا خارج الوركاء حتى يحل الصباح. هكذا سمعت من ليشار، بعد أن أفصح لي أيضا عن سبب ذلك. قال بأن أور قد تعود. قال بأنها لم تكن متأكدة من رغبتها في الرحيل. رشّ فتات الأمل على حطام قلبي و كاد يلصق قطعه ببعضها لكن شكوكي و مخاوفي تدخلت و نفت بصيص الأمل ذاك خارج صدري. شكوك و مخاوف أثارها إسترجاعي للحظة وداعنا. تأملتني و لمست كل خطوط وجهي و كأنها تخشى نسيان شكلي. قبّلتني و كأنها ستسجن بعيدا عني لبقية حياتها. ودّعتني و كأنها واثقة من أنها لن تعود أبدا.
نصبت خيمتي و فرشتها تفريشا كاملا و كأننا سنمكث لأسابيع في الوركاء لعلني أصفي ذهني و أصرف عنه ما يعذبه، لكنني ثبتّ كل وتد و فرشت كل بساط و أنا أفكر في آخر كلماتها و وداعها الذي هدمني، و لم أكفّ عن تعذيب نفسي بذكراها إلا عندما إستأذن صوت نارام للدخول.
إستقبلته ثم جلسنا معا في صمت بعد أن سأل كل منا الآخر عن حاله. سكبت كوبين من الماء لكل منا بينما كنت أتدبّر في سري طريقة أبوح له بها عن الجريمة التي إرتكبتها في حقه قبل ثلاث سنوات. وضعت كوبا أمامه و إحتسيت من الآخر.
قلت: "أنا.. أسف يا نارام.."
حملق بي متعجبا: "لماذا تعتذر؟"
إبتلعت ريقي و أنا أردد في سرّي، أنا السبب في فراقك و راحيل يا نارام. أنا السبب. لكن بدلا من ذلك قلت: "آسف.. على كل تصرفاتي.. على معاملتي القذرة.. و على.. على.." ثم سكتت.
لم أتمكّن من الاعترف بذلك. كنت خائفا من ردة فعله. كنت خائفا من أن يصيبه ذلك الاكتئاب الشديد مجددا. ذلك الحزن الذي حاول كثيرا أن يحدثني عنه لكنني تهربت و رفضت الاصغاء إليه. و قد يشتد حزنه أكثر من ذي قبل إذا ما علم بأن الصديق الذي وثق به و أدخله بيته هو من فرق بينه و زوجته. الحقيقة أن حزنه لم يكن يهمني أكثر مما يهمني الغضب الذي قد أراه في عينيه. الغضب مني. الغضب الذي سيجعلني أكره نفسي أكثر مما أكرهها.
تبسم لي. "لا بأس يا إيلات. لا بأس. أقبل إعتذارك. لا داعي لتشغل بالك بأي من ذلك."
أطرقت في صمت بينما كان الذنب يلتهمني من الأعماق مع كل لحظة تمر و أنا ساكت عن الكارثة التي صنعتها. ما كان علي أن أتصرف معه بتلك الطريقة بعد أن كنت السبب في معاناته. كان علي أن أتقبل ندمي لا أن أنكره. كان علي الاعتراف منذ البداية بحقيقة ما حصل و أتقبل ردة فعله أيا كانت.
ربت على ركبتي. "ما رأيك أن نخرج للمشي داخل الوركاء قبل غروب الشمس؟"
تبسم لي و هو يسأل. لو أنه علم بما فعلته به لماتت تلك الابتسامة تماما لأيام أو ربما أسابيع.
"أفضل أن أخذ قسطا من الراحة."
"لا بأس إذا. خذ قسطا من الراحة. و إعلم أنني سامحتك من أعماق قلبي حتى قبل أن تعتذر لي. لا تشغل بالك بالأمر."
أجبرت شفتاي على تثبيت إبتسامة صغيرة على وجهي، فتمنى لي أمسية طيبة ثم إنصرف. لو كنت مكانه لما توسلت لشخص مثلي بأن لا يشغل باله بالقلوب التي طعنها. كنت أستحق أن يعذبني الندم و الأسى على كل ما أقدمت عليه حتى يتسببا في قتلي.
ألقيت نظرة من حولي متأففا فتوقفت عيناي على حقيبة أغراضي التي أستعملها في السحر فتذكرت طلب إيتانا الذي رفضته، و ظهور ذلك اللعين ليعيد طلبها و يجعل منه أمرا. رفضت فهددني بأمي ككل مرة و أمهلني حتى نصل إلى بابل، و إذا لم ألبي أمره فسيكون علي توديعها للأبد. لكن رغم تهديداته، أقسمت أن لا أضع يدي على تلك الأغراض مجددا إلا لغير السحر. ما أحسست به بعد ما فعلته بأثر و أور جعلني أحلم لأول مرة في حياتي بأن أغير من نفسي. ربما لأنني آذيت نفسي عندما آذيتهما. أو ربما لأن رحيل أور فتح عيناي على ما ينتظرني مستقبلا. وحدة و تعاسة يسممانني ببطئ شديد حتى الموت، و لأنني طردت كل الذين أحبوني يوما بسبب طيشي و تفاهتي، فستبقى روحي تائهة بين جدران بيتي القذر حيث سيتعفنّ لحمي و تتآكل عظامي لأيام، إلى أن تقود رائحة جثتي الكريهة غرباء إلى داري.
لم أكترث للسبب رغبتي في التغيير كثيرا. المهمم أنني كنت مستعدا لأتغير. و أهم من ذلك كله هي أمي التي كانت لا تزال تعيش مع وحش مكبّل. وحش ما أن يزول السحر التي قيّده طوال تلك السنين حتى ينقضّ عليها. إنشغلت بالتفكير في طريقة أخرجها بها من ذلك البيت اللعين. كعادتها سترفض مقابلتي، لكنني كنت عازما على إخراجها من ذلك الجحيم هذه المرة شاءت أم أبت، بطريقة أو بأخرى.
أنت تقرأ
الساحر و الراوي
Historical Fictionنوع الرواية: واقعية سحرية تاريخية رومانسية نبذة عن الرواية: بعد سنوات من العذاب، تتخذ حياة أثرا مجرى جديد يوم قررت المخاطرة، و زيارة السوق البابلي المتنقل الذي حطّ رحاله في قبيلتها المعزولة عن الدنيا. وهناك، تقابل شابان سيغيّران حياتها للأبد. ساحر ل...
