|٢٨|

98 7 0
                                    

ارتشف من فنجانه و هو يتأمل الماريين و السيارات التي تسير بكل سرعتها و صوت ضجيج التي تصدرها و أصوات الاغاني التي تأتي من كل مكان:فعلاً انسب مكان اقعد فيه مع واحده معجب بيها عشان اعبرها.
نظرت لها بضيق عينيها ثم ادارت وجهها:ريلي؟ فكرتك معجب بعبير.
اسند مرفقيه علي المنضدة و هو يميل نحوها:عبير مين! انا يبقي قدامي القمر دا و ابص لعبير؟ دا انا ابقي شواحه.
ضايقته و هي تنظر للجهه الاخري:ايش جابك انت لشواحه.
نظر لفنجانه و همس بتوعد:شوف بقا لما البسها الفنجان دا ف وشها دلوقتي!..متبقيش قموصه ي سمر..قولي بقا انك عايزاني اصالحك تاني زي ما صالحتك يومها.
شهقت سمر بخفة و ادارت وجهها بخجل و هي تضحك بينما مازحها:يابت.. عيني ف عينك كدا.
ادارت وجهها و هي تحاول التحدث بجدية:اسمع.. لو عايزاني مضايقكش يبقي انت كمان متضايقنيش.
رفعت اصبعها و وجهته نحوه و هي تقول:انا بحذرك مره تانيه اشوفك مع عبير ولا غيرها يومك مش هيعدي.
ابتسم ابتسامة واثقة:موافق.. بس بشرط.
رفع اصبعه هو الاخر و وجهه نحو وجهها:اشوفك واقفه بتكلمي مع المعيد دا تاني هكسرك انتي و هو..و لو محضرتش متحضريش.
رفعت رأسها بكبرياء و هو تنظر لأصبعه ثم تقول بتعالي:اتفقنا.
ابتسم و هو يبعد اصبعه.. ارتشفت من فنجانها قبل ان تقول:ما تحكيلي اي حاجه عنك.. انا بحس اني معرفش عنك حاجات كتيرة.
وضع فنجانه علي الطاولة قبل ان يبتسم بلطف:عايزه تعرفي ايه وانا اعرفهولك.
رفعت كتفيها و هي تجيب:يعني.. علاقتك بأهلك ف البيت.. ناوي تعمل ايه بعد التخرج.. احلامك ايه؟
تنفس بعمق قبل ان يبدأ بسرد اجابته:انا يا ستي وحيد ابويا و امي فطلعت دلوع ماما شويه بس بابا مش كدا.. زي ما بيقول عايزني ابقي راجل يتسند عليا واشيل الشغل من بعده من بعد عمر طويل ان شاء الله.
قاطعته سمر متفاجئة:ازاي مش هتشتغل ف مجال دراستك! ليه دخلت هندسه من البداية وكنت درست بيزنس.
اجابها عبدالرحمن:انا قولت ع الاقل ادرس حاجه انا بحبها.. وبعدين مين هيكمل اللي والدي بدأه لو مكنش انا؟
اومأت متفاهمة:عندك حق.. و علي كدا بتفهم ف البيزنس و الشغل دا؟
رفع كتفيه بحيرة:يعني..بس دي بردو مش احلامي.
اسندت مرفقيها علي الطاولة و قربت وجهها منه و هي تستمع بإنصات:امال؟
تنهد و هو يشرد في اللاشئ:نفسي اسافر كتير و براحتي مش ابقي مربوط بإذن من حد.. و الف العالم.. اتفرج علي كل المدن الجميلة و اجرب اكلاتهم و لبسهم و اتفرج علي الغروب قدام كل بحر ف كل بلد.. بس..بس مش عايز ابقي لوحدي.. انا طول عمري كنت وحيد حتي و ميار معايا.. يمكن فريدة لما دخلت حياتي قللت كتير من الشعور دا.
ارجعت ظهرها للخلف ونظرت له بلوم:فريدة بس؟
ضحك وجهه و رد مستدركاً:لا مش فريدة بس.. وانتي كمان يا سمر.
تسائلت سمر و هي تخفي ابتسامتها الخبيثة:انا ايه؟
اجابها عبدالرحمن:وقفتي جمبي ومسبتنيش لوحدي ف اصعب وقت مريت بيه..و علمتيني حاجات كتيرة جداً..زي ان ابسط الاشياء ممكن تبقي احلي حاجه لو مع حد حابب وجوده..و علمتيني ابقي معطاء من غير ما استني مقابل.. و مبقاش بخيل ف الحب و الحنية قبل الفلوس..علمتيني افكر ف غيري قبل نفسي فمبقتش بصرف ف اي تفاهات عشان اوفر فلوس الايجار و الاكل و اسند معاكوا ..ومن بعد ميار علمتيني ان الحياة مبتقفش علي حد.. بس انا حياتي كلها هتقف لو انتي مشيتي يا سمر.
انهي جملته الاخيرة و هو يحدق في عينيها الخصروتان اللتان سكنهما الخجل.. ازدادت لمعة عينيها بعدما استمعت لكلماته و عجز لسانها عن الرد.. تمنت لو انها تستطيع البوح بمشاعرها له في تلك اللحظة..طالت نظراتهما دون ان يشيح احدهما بصره عن الاخر.. قاطعهما صوت الرعد الذي ضرب السماء و تبعه صوت هطول المطر..كادت ان تسرع للداخل ولكنها لاحظت تلك المظلة الكبيرة التي تحيط بالمقهي و تمتد امامها لمتر تقريباً..اقترح عبد الرحمن:تيجي ندخل جوا عشان متخديش برد؟
تنهدت سمر بنفاذ صبر:يعبده مش هيجيلي برد ولا حاجه اطمن.. احنا اتعودنا علي جو اسكندريه بقا خلاص..وبعدين انت عارف اني بحب المطر اوي.
ادار وجهه و هو يهمس:يابخته.
بينما هي اتسعت ابتسامتها و هي تشاهد قطرات المطر تسقط من حولها و تستنشق رائحته التي اختلطت مع رائحة يود البحر الذي يبعد عنها عدة امتار قليلة.. سألها عبدالرحمن:مقولتليش بقا.
انتبهت له ليردف و هو يميل نحوها و يتأمل وجهها الجميل:نفسك تعملي ايه و ايه احلامك؟
صمتت سمر لثواني و هي تفكر قبل ان ترد:عارف نفسي ف ايه؟ نفسي اجمع كل اطفال الشوارع و كل القطط و الكلاب اللي ملهاش صحاب و بيموتوا كل يوم من البرد و الجوع و الحوادث.. واجمعهم كلهم ف ملجأ كبير اوي..واعوضهم بكل ما املك من فلوس و حب.
اتسعت ابتسامته و هو ينظر لها متفاجئاً من عاطفتها الشديدة و لين قلبها الذي لم يسبق لأحد..إنها حنونة و لطيفة و مستعدة لتمنح عطفها و حبها لكل الناس و حتي الحيوانات.. تمني بداخله لو انها تستطيع يوماً تحقيق ذلك.. و لكن قبل ان يرد قاطعهما صوت رنين هاتفه.. نظر لشاشة هاتفه فوجدها فريدة ليعتذر علي مقاطعة حديثها و يجيب:ايه يا مزعجه هتموتي وتعرفي بنعمل اي..
قاطعه صوت فريدة عبر الهاتف و هي ترد بجدية:عبد الرحمن حاول تيجي دلوقتي بسرعة.
خفق قلبه و قلق بشدة:في حاجه ولا ايه؟
هدأته فريدة:مفيش حاجه..انا بس عايزاك تيجي..و متتأخرش.
نهض عبدالرحمن و رد متفاهماً:حاضر هاجي دلوقتي.
نهضت سمر وتسائلت بقلق:حصل حاجه ولا ايه؟
اخرج عبدالرحمن عدة اوراق نقدية و وضعها علي الطاولة أسفل الفنجان:لا متقلقيش.. فريدة ساعات بتتخنق كدا و بتبقي عايزاني.
تذكرت سمر ذلك اليوم عندما خرجت برفقته و عندما ارادت سمر مرافقتهما رفض هو.. و رغم انزعاج سمر الأن لانها لا تود العودة و وقد احبت ذلك الوقت الذي امضته معه و لكنها لحقته حتي السيارة بصمت.. ظلت صامتة طوال الطريق و هي تشاهد قطرات المطر التي تسقط علي زجاج السيارة بشرود..أما عبدالرحمن فكان عقله منشغل بفريدة و يخشي أن يكون أصابها مكروه.. لاحظ عبدالرحمن صمتها الشديد و شرودها:انا عارف انك مكنتيش عايزه تروحي..بس اوعدك لما نطمن علي فريدة هعوضهالك بخروجة احلي.
ابتسمت له و اومأت برأسها بتفاهم بينما هو لمس يدها الباردة و قبلها بحنان..امضت الطريق و هي مائلة برأسها تنظر له.. اصبح وجهه يجلب السعادة علي قلبها اكثر من رؤية هطول المطر.. ينظر لها بضيق عينه فيجدها لا تبعد بصرها عنه فيبتسم و تتشبث يده مع يدها اكثر .. رن هاتف عبد الرحمن مجدداً فكانت فريدة تطلب منه ان يتعجل.. أسرع بسيارته و وصل إلي البيت بعد دقائق معدودة.. يشعر قلبه بأن هناك امراً سيئاً للغاية علي وشك الحدوث إن لم يحدث بعد..فتح يحيي الباب و اعطاه نظرة ليست مُطمئنة قبل أن يدخل عبدالرحمن و تقع عينيه علي المرآتان اللتان جلسا في انتظار عودته.. تجمد عبدالرحمن مكانه مذهولاً لثواني قبل ان تنهض أحداهما و هي تتجه نحو سمر التي دخلت و ألقت السلام بإبتسامتها المشرقة:هي دي بقا؟
لم تفهم سمر و تسائلت:هو انتي مين و تعرفيني منين؟
تحدث عبدالرحمن و هو يضغط علي اسنانه ليكتم غضبه الشديد:انتي ايه اللي جابك هنا و عرفتي مكاني منين!!
ضمت الفتاة ذراعيها و هي تقول ببرود:جيت عشان اشوف المستوي اللي انت نزلتله و اشوف الحلوة اللي مبتردش عليا عشانها.. بجد انا مصدومة!
صاح عبدالرحمن في وجهها:احترمي نفسك و اتكلمي عدل!
بينما سمر انفعلت بشدة و هي تجذب عبدالرحمن من ذراعه:مين دول يا عبده!
نهضت السيدة الاخري من مكانها و قد بدا الثراء عليها فكانت جميلة للغاية رغم كبر سنها.. تقدمت نحو سمر و هي تقول بهدوء:اقولك انا.. انا والدة عبدالرحمن.. و دي ميار خطيبة عبدالرحمن الي انتي جيتي و خطفتيه منها.
وقفت سمر مصدومة و هي تستمع لتلك الكلمات الصادمة حتي لم تستطع ان تدافع عن نفسها.. بينما اتي صوت عمار الذي وقف في إحدي اركان الصالون:صلوا ع النبي ياجماعه انتو حتي اهل.
علت نبرة صوت عبدالرحمن و هو يتحدث لوالدته بحدة:انا مخطبتش حد.. و مبحبهاااش.. هو بالعافية!.. و لو كنت حبيتها زمان ف انا دلوقتي بكرها.
خفضت ميار رأسها متأثرة بينما والدته صرخت في وجهه:كل دا عشان دي!..بنت مين دي و لا تيجي ايه جمب ميار..انا اللي غلطانة مسمعتش كلام ابوك لما قالي بطلي دلع فيه.. كل حاجه تطلبها كانت بتجيلك و زيادة.
كانت سمر في حالة ذهول شديد و الدموع تنهمر من عينيها و هي تستمع لتلك الكلمات الجارحة و ترمقها ميار بنظرات حارقة مشمئزه..في حين كان عبدالرحمن يصرخ منفعلاً في وجه والدته:لو هتفضلي طول عمرك تعايرني بأي حاجه بتعمليهالي ف انا مش عايزها.
اخرج مفاتيح السيارة من سترته و كل النقود التي يحملها و البطاقة الائتمانية خاصته و ألقاهم علي الأرض بقوة:خدي العربية و الفلوس خدي كل حاجه بس ملكيش دعوه بحياتي و لا كأن كان ليكي ابن.
تلك السيدة القاسية لم تهتز حتي عند سماع تلك الكلمات بل ظلت رافعة رأسها بكبرياء.. خطي عبدالرحمن نحو ميار و قال بحدة و هو يكاد يلتهمها بعينيه متشايطاً من الغيظ:وانتي ي ميار..لهخليكي تندمي ع اليوم اللي دخلتي حياتي فيه.
لم تستطيع ان ترفع بصرها ف وجهه بل انكمشت بخوف من نبرة صوته الغاضبة و انتفض جسدها بخوف لتسرع فريدة و هي تفصل بينهما و همست له:عبدالرحمن اهدي والنبي كفاية عشان سمر حتي.
و لكن تفاجئت فريدة عندما وجدت والدته التي تعرفها جيداً تتحدث بنظرة لوم قاسية:انتي بالذات تسكتي.. كله منك انتي.
رفعت حاجبيها بصدمة و هي تتسائل:أنا؟!
صاحت والدته في وجهها و هي تقول بغيظ:ايوا منك انتي.. انتي اللي خلتيه يحول كليته ويتغرب عشان يبقي معاكي و روحتي تعرفيه ع الاشكال دي..و مش بس كدا دا تلاقيكوا مقلبين فلوسه كلها اول بأول و مفكره طبعا اني مش هعرف.. ليه؟ كنتي فاكرة انه ملوش أهل زيك؟
صرخ عبدالرحمن مصدوماً بحدة في وجهه والدته:ماما!! انتي بتقولي ايه!!
صعقت جملتها الاخيرة قلب فريدة مثلما يصعق البرق السماء.. تلعثم لسانها من وهل الصدمة و قاومت دموعها بصعوبة:عندك حق انا اسفة..ربنا يخليكي له و انا مش هتدخل تاني.
اقترب منها عبدالرحمن و لكنها ركضت نحو غرفتها و اغلقت الباب بإحكام.. التفت عبدالرحمن لوالدته و ازداد تشايطه أكثر:عجبك كدا! انتي مش حاسه انتي بتعملي ايه! لو سمحتي امشوا و محدش له دعوه بحياتي.. انا مش عيل صغير حد يسرق فلوسي و لا واحده تخطفني من واحده..امشوا و سيبوني ف حالي بقا.
ردت والدته بتعالي:انا امك! هي اللي تمشي مش انا!
اتسعت عينيه بذهول:انتي ازاي بتحطي نفسك ف مقارنة مع سمر و يا انتي يا هي.. انتي ازاي بتفكري كدا!
و لكن سمر نفذت لها مطلبها و غادرت هي المنزل و حاول عمار ان يلحق بها.. نظر عبدالرحمن لميار التي بدأت تبكي و قال بنظرة تمتلئ بالعديد من التعابير:منك لله.. بوظتي كل حاجه.
ثم ركض مسرعاً ليلحق بسمر.. نزل الدرج بكل سرعته و غادر المبني فوجد السماء مازالت تمطر فوقف يبحث بعينه عنها و هو يكاد يري بسبب المطر الشديد و الظلام الذي يسود الشارع و لا يقطعه سوي ضوء إحدي عواميد الإنارة الخافتة.. كان عمار يناديها و هو يركض خلفها و لكنها لا تبالي.. لحق بها عبدالرحمن فأبتعد عمار و وقف يراقبه و هو يحاول أن يمنعها.. امسك معصم يدها بقوة و هو يصيح:يا سمر اقفي بقا.. انتي ليه عايزه تحاسبيني علي حاجه انا مليش ذنب فيها.
التفتت له بوجهها الذي ملئه الدموع و اختلطت مع قطرات المطر و قالت:روح يا عبده شوفلك واحده من مستواك.. انا مش شبهك ولا قيمتك.. انا بنت مين فعلا!
ألتفتت لترحل و لكنه امسك يدها مجدداً و نظر لها بترجي:يا سمر بالله عليكي.. متعمليش فيا كدا.. انا قولتلك حياتي هتقف لو مشيتي..انا ما صدقت ابقي معاكي.. ليه عايزه تسبيني بعد كل دا؟
افلتت يدها من راحة يده برفق و هي تقول بإبتسامة منكسرة:مش انا اللي اختارت.

خرجت سلمي عن صمتها و صاحت في وجه تلك السيدة:انتي لا يمكن تكوني أم.. مفيش أم تهين ابنها و لا تهين ولاد الناس كدا.. انتي مفكرة نفسك ايه.. ملعون ابو الفلوس اللي انتي طالعه بيها السما..و علي فكرة محدش ضرب ابنك علي ايده عشان يعيش معانا ولا عشان يحب سمر.. ابنك مش عيل صغير هتربيه قدام الناس.. حتي لو عايزه تربيه حقك عشان انتي امه.. بس معتقدش ان لا المكان ولا الوقت مناسبين.
اقتربت منها عائشة و حاولت تهدئتها:سلمي اهدي شويه دي ضيفه.
صاحت سلمي بإنفعال شديد فلم يراها أحد هكذا قط:ضيفة تبقي تقعد بإحترامها.. و مادام لا هي ولا اللي معاها محترمين يبقي مع السلامة.
اقتربت و فتحت باب المنزل علي مصرعيه و هي ترفع رأسها بكبرياء و ترمقهما بنظرات حادة.. كانت ميار تبكي و ترتجف بينما السيدة نظرت لسلمي بغيظ شديد و قبل أن ترحل خطفت مفاتيح سيارة عبدالرحمن وبطاقته الائتمانية..كانت سلمي تتشايط غضباً لأنها لم تكتفي و قامت بطرد ابنه خالتها بكل وقاحة.. ليأتي صوت سلمي من خلفهما و هما يغادران:قال البيت بيت ابونا و يجي الغرب يطردونا.. شرفتي يا هانم.
ثم تغلق الباب بقوة لدرجة أن جسد السيدة انتفض بفزع..

أحمق في بيتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن