|٣١|

102 7 0
                                    

توقف التوكتوك امام مقهي بسيط في إحدي المناطق الشعبية.. ترجل يحيي و أعطي السائق ورقة نقدية بعشرة جنيهات.. نظر السائق للورقة ثم لوجه يحيي بإستحقار فبادر يحيي:لو مش عجباك هاتها.
أدار السائق وجهه بإشمئزاز ثم رحل و وقف يحيي ينظر حوله في المنطقة.. وجد مجموعة من الأطفال يلعبون كرة قدم فأقترب من أحدهم و سأله:بقولك ايه ي شاطر متعرفش فين البيت اللي كان فيه العزا من يومين؟
لوح الطفل بيده و لم ينظر ليحيي حتي:قصدك من اسبوع يا بيه انت لسه فاكر.
تعجب يحيي:هو في ايه كل ما اكلم حد يقولي كدا!.. اخلص يالا فين البيت؟
ألتفت الطفل ليحيي و رفع رأسه له نظراً لفرق الطول الشديد بينهما و مد يده قائلاً:ايدك علي عشرينايه.
اعترض يحيي قائلاً:عشرينايه ايه هي خمسة جنيه كفايه انت هتعملي فيها چي بي إس.
غمز الطفل قائلاً:اتفقنا يا زميل.. تعالي ورايا.
سار الطفل عدة خطوات و ألتفت لرفاقه و قال بتحذير:دقيقتين و راجع اللي هيبوظ الكورة هأكلهاله.
دفعه يحيي و هو يقول ساخراً:ياجدع امشي دا انت شبر و نص.
رد الطفل بحدة:متزوقش طاااه.
سار الطفل لنهاية الشارع ثم اتخذ شارعاً أخر و كان يحيي يلحق به.. بادر الطفل:محسوبك عبدالقادر.. اسم الجميل ايه بقا؟
رد يحيي:هم كل اللي اسمهم عبدالقادر بيبقوا مفتريين كدا باين.
قال الطفل:بتقول حاجه ياباشا؟
رد يحيي:مبقولش امشي وانت ساكت بقا.
وقف الطفل أمام مبني بسيط يتكون من ثلاث طوابق فقط و يبدو انه الأقدم في الحي.. قاطع شرود يحيي في المبني صوت الطفل يقول من خلفه:يابيه خلصني ايدك ع الخمسايه خليني ألحق الرجاله.
أخرج يحيي ورقة نقدية بخمسة جنيهات و اعطاها له:ايوا انا عارف وقتك من دهب.. خد.. يلا انصرف.
خطف الطفل الورقة و ركض بسعادة ثم وقف يحيي ينظر حوله جيداً و يتأكد أن لا أحد يراه أو يراقبه ثم دخل المبني.. كان باب الشقة الموجودة في الطابق الاسفل مغلقة بقفل حديدي ضخم فصعد يحيي للطابق الثاني.. سمع صوت قرآن خافت يأتي من الداخل.. رفع يده ليطرق الباب و لكنه تردد كثيراً..شعر بنبضات قلبه تتسارع بشدة لأنه علي وشك رؤيتها الأن..قاوم هذا الشعور عندما تذكر الوعد الذي قطعه مع الله.. طرق الباب و وقف ينتظر لثواني معدودة قبل أن يُفتح الباب.. كانت هي.. بملابسها البسيطة و شعرها المبعثر و ملامح وجهها الفاتنة رغم شحوب وجهها و إحمرار عينيها و الدموع علي وجنتيها..كوردة ذبلت في عز ربيعها..
تجمدت مكانها لثواني مذهولة أنه امامها بينهما هو كانت عينيه تلتمع لرؤيتها مجدداً و صدره يعلو و يهبط بشدة من تسارع نبضاته.. سمع اسمه يخرج من بين شفتيها قبل أن ترتمي بين احضانه و هي تنهار باكية.. ارتبك يحيي و أخذ يمسح علي شعرها و يهدأها:وحدي الله يا فريدة انتي عارفه ربنا كويس.
ابتعدت فريدة بعد ثواني و مسحت دموعها بيديها ثم أشارت له:تعالي ادخل.
دخل يحيي المنزل و وقف يتفحصه بعينيه سريعاً بينما هي أغلقت الباب و اقتربت لتجلس علي الأريكة:حد شافك وانت طالع؟
طمئنها يحيي و هو يقترب ليجلس بجوارها:لا متقلقيش.
أدارت وجهها له و سألته:عرفت مكاني ازاي؟
رد يحيي:اتصرفت.. وبعدين مش دا المهم.. انتي عامله ف نفسك كدا ليه ي فريدة.. ليه بعدي ومش مديانا فرصه حتي نقف جمبك و لا نهون عليكي.
نظرت فريدة امامها في اللاشئ و ردت ببرود:هتعملوا ايه يعني؟..هتقولولي ايه جديد غير البقية ف حياتك اجمدي عشان ميزعلش ف قبره ادعيله بدل ما تعيطي.. كل الكلام دا حفظته.
أشارت حولها في الفراغ قائلة:كلهم كانوا هنا.. كلهم قالولي كل الكلام دا عشان سهل لسانهم يقوله.. بس محدش حاسس بالنار اللي ف قلبي يا يحيي.
أدارت وجهها له فوجدت عينيه تلتمع بالدموع و تعابير وجهه متأثرة للغاية:دا مكنش جدي بس يا يحيي.. دا كان اب و ام و اخ و صديق  و كل حاجه.. قدر يعوضني عن كل المشاعر الحلوة اللي عمري ما حسيت بيها مع بابا وماما.. كل واحد فيهم كان اناني عايز يعيش حياته و خلاص و ينسي التاني و محدش فكر فيا غير جدو.. هو اللي خدني ف حضنه ف البرد عشان يدفيني و يحضرلي اكلي و شربي و يغسلي هدومي يغنيلي و يلعبلي ف شعري عشان انام.. علمني احسن تعليم عشان ابقي البشمهندسة فريدة اللي يفتخر بيها ف الحته كلها.. علمني كل حاجه يايحيي.. إلا حاجه واحده.. اني اعيش من غيره.
انفجرت في البكاء و هي تردد:انا مش عارفه اعيش من غيره يا يحيي..الوقت مش بيمشي و نار قلبي مش بتهدي.. أنا مؤمنة بربنا و عارفه ان دا عمره و انتهي و كلنا مسيرنا نموت..وعارفه ان كان بينه و بين ربنا عمار و واثقة ف ربنا انه هيحسن مثواه.
كان يحيي يمسح علي شعرها و هي تبكي بلا انقطاع:انا بس اللي وجعني..انه عمره ما سابني لوحدي وقت ما الكل اتخلي عني.. و انا.. انا سبته يموت لوحده يا يحيي.
بكت بقوة و بصوت عالٍ و هي ترتجف بشدة.. اقترب يحيي و ضمها نحوه و هي تنكمش و يغطي وجهها شعرها الكثيف..دفنت رأسها بداخل صدره و هو فقط يربط علي ظهرها.. فرت الدموع من عينيه هو الأخر و لا يجد ما يقوله.. أياً كان ما سيقوله سيكون مملاً مثلما قالت و ليست بحاجة لسماعه.. هي بحاجة الأن ليسمع أحد ما بداخلها و يحتوي حزنها الشديد.. لا يعلم كم مر من الدقائق حتي بدأت شهقاته تهدأ و بكائها يخفت.. لم يتركها حتي ابتعدت هي و رفعت رأسها له.. نظرت لعينيه التي فر منهما الدموع و قالت بصوت مهزوز:انا اسفه.. انت مش لازم تسمع كل العيا..
أسرع يحيي بمقاطعتها:لا يافريدة.. انا هنا عشان اكون جمبك و اسمعك.. انا عارف ان اي حاجه هقولها انتي اكيد زهقتي منها بس ع الاقل متواجهيش كل حاجه لوحدك..انا هنا عشانك.
ابتسمت ابتسامة منكسرة و هي تهمس:شكراً.
بادلها الابتسام قبل أن يقاطعهما صوت رنين هاتف يحيي.. كانت سلمي المتصلة فأجابها يحيي و أخبرها انه عثر علي منزل فريدة و هي بخير الان..بمجرد أن أغلق المكالمة ابتعدت عنه فريدة قائلة:اياك تقولي ارجع اسكندرية.
أسرع يحيي بالرد:طبعاً انا جاي اصلا ارجعك معايا و مش همشي من غيرك.
نظرت له بترجي قائلة:يحيي عشان خاطري متغضطش عليا.
اقترب منها يحيي أكثر و تحدث بجدية:فريدة.. انا عارف انك تعبانه نفسياً بس انتي مش هتتحسني لوحدك.. تقدري تقوليلي انتي قاعده هنا بتعملي ايه؟.. ولا حاجه بتعذبي نفسك اكتر بس.. وبعدين عبدالرحمن تعبان هو كمان و محتاجك جمبه و سمر كمان.
سألته بتردد:هم متصالحوش؟
حرك رأسه بالنفي و أردف:مش كدا و بس.. عايشة مامتها عرفت انها عايشة معانا مش ف المدينة و جات البيت و فرجت عليها الدنيا و ضربتها.
شهقت فريدة و وضعت يدها علي فمها:يانهار اسود.. عرفت ازاي دي!
تنهد يحيي و رد:منعرفش.. دي عايزه تحولها من الجامعه كلها و تضيع عليها سنة.. و طبعاً مش عارف اوصفلك نفسية عمار و هو بيتفرج عليها ومش قادر يعملها حاجه.
أدارت وجهها بقلة حيلة و أخفضت رأسها ليردف يحيي:فريدة صدقيني الكل تعبان و الدنيا ملطشه مع الكل.. لازم نقف جمب بعض عشان الدنيا ترجع تمشي تاني.. هم محتاجينك زي ما انتي محتجاهم بالظبط.. دا كفاية عبدالرحمن لوحده هيتجن عليكي و مش عارف هيلاقيها منك ولا من امه ولا من سمر و لا عايشة و لا الحرباية اللي..
قاطعته فريدة قائلة:خلاص خلاص هرجع معاك.. عبدالرحمن طول عمره جمبي مينفعش اسيبه بردو ف ظروف زي دي.
ابتسم يحيي قائلاً بنبرة خبيثة:يعني عبدالرحمن بس اللي يهمك؟
لم تمنع ابتسامتها الجميلة و هي تنظر له بإمتنان شديد:انا مبسوطة اني شوفتك بجد..انا فعلا كنت محتجاك جمبي.
ابتسم يحيي لها و قربها منه ليقبل مقدمة رأسها بحنان:يلا قومي حضري شنطتك عشان نمشي.
اعتدلت في جلستها قائلة:نمشي فين انت مش شايف الساعه كام.. الصباح رباح بقا.
نظر لها بحيرة لتردف:متحسسنيش انها اول مره نبات ف شقة سوا.
رد يحيي:مش قصدي.. طب هنام فين؟
نهضت فريدة قائلة:انا هنام ف اوضة جده وانت نام ف اوضتي.

أحمق في بيتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن