|١٣|

125 7 0
                                    

حافلة تحمل العشرات من الركاب العائدين لبلدتهم التي تتميز بجوها الحار و بساطتها في المباني و الطرق..خلعت عائشة نظارتها الشمسية وهي تقول بنفاذ صبر:لا ي عمار مش قادره استحمل رجعوني اسكندرية.
رد عمار ليطمئنها:خلاص والله قربنا و هتاخدي دوش و ترتاحي.
توقفت الحافلة ليترجل منها ركابها الستة و هم يحملون حقائبهم.. أشار عمار نحو أحدي البيوت التي لا تبعد كثيراً عنهم:اهو دا الدوار.. يلا يلا وصلنا.
أسرعوا بحماس نحو الدار و هم يتجاهلون ذلك الأجهاد الشديد أثر طول المسافة المقطوعة.. اقتربوا أكثر نحو المنزل لتشهق فريدة بإندهاش:واااو.. انا فكرته شبه بيت الكبير اوي.. طلع احلي منه كمان.
ابتسم عمار بفخر قبل أن يضيف لها:و مش بس كدا.. دا في جنينة في الباب الوراني انما ايه تشرح القلب.
انهي جملته ليفزعهم جميعاً صوت طلقات نارية.. صرخت الفتيات بخوف و ارتجف الشباب بفزع قبل أن يقطع تلك الطلقات النارية صوت رجل يتحدث بلهجته الاصيلة:عمار ولد الشيخ وهدان.. ي مرحب ي مرحب.
أقترب ذلك الرجل من عمار فاتحاً ذراعيه بعدما أبعد سلاحه بينما عمار تحدث منفعلاً:ي خضر قولتلك الف مره بلاش الترحيب دا هتوقف قلبي ف مره و بعدين انا معايا ضيوف ي اخي.
تعانقا بقوة ثم ابتعد خضر و تفحص وجوه الرفاق.. توقفت عينيه علي سمر التي أشعلت قلبه منذ نظرته الأولي لها.. و رغم الأجهاد الظاهر عليها إلا أنها كانت جميلة و بسيطة.. توقف عدة ثواني بلا حراك و انفتح فمه قليلاً و هو ينظر لوجهها بإنبهار شديد.. علي الجهة الأخري ركض نحو عمار شخصاً يشبه خضر كثيراً و ربما نفس سنه و قد أخفي سلاحه خلفه أيضاً..عانق عمار بود و رحب به كثيراً ثم صافح الرجال و تبسم للفتيات قبل أن يبادر عمار:خلف يجماعة أخو خضر التؤام و هم رجالة البيت هنا و بعتبرهم زي أخواتي.
لاحظت سمر الشبه الكبير بينهما عدا أن خضر لديه ندبة في جبينه و عينيه ليست بهما توازن.. ربما عينه اليمني بها شئ من الحول و أيضاً له شارب ضخم مخيف و لكن سمر لم تخاف بل تبسمت له:اهلا وسهلا ي خضر.. انت كويس؟
لم يرد خضر بينما أخيه شعر بالأحراج فجذبه و هو يقول:خضرر.. سيب الضيوف يرتاحوا.
اومأ خضر برأسه دون أن ينطق بكلمة..دعاهم عمار للداخل فساروا عبر البوابة الحديدية ثم صعدوا عدة درجات..قفزوا في اماكنهم بفزع عندما أطلق خلف عدة طلقات نارية في الهواء.. صاح فيه عمار مجدداً ليقول بإبتسامة متسعة:بنرحب بضيوفك ي عمار.. يا مُرحب اتفضلوا.
فُتح باب الدار علي مسرعيه ليدخل عمار في المقدمة و خلفه رفاقه الخمسة يدخلون بخطوات بطيئة و هم يتأملون ذلك المنزل الرائع التي تزينت كل جوانبه بالذوق الصعيدي الأصيل.. كان هناك سلم كبير في منتصفه نزلت من أعلاه أمرأة خمسينية جميلة تبدو و كأنها شابة و لكن ملابسها و حجابها أعطوها مظهراً مهيباً..و لكن لمجرد النظر لوجهها تشعر بالطيبة و البساطة.. أسرعت نحو أبنها و هي تفتح ذراعيها له و تتسع ابتسامتها:ألف حمدلله علي السلامة ي ولدي.
عانقته لعدة ثواني قبل أن يبتعد عمار و يقبل يدها..مسحت علي كتفه بإبتسامة حنونة قبل أن تقترب من فريدة و هي ترحب بها:ي مُرحب ي مُرحب.. نورتوا سوهاج كلتها والله.
صافحتها فريدة بإبتسامة ودودة:دا بنورك ي طن..
قاطعتها والدة عمار بأسلوب حازم:انا مش طنط ي حبيبتي.. انا حجة..الحجة صفية.
اومأت برأسها فريدة بتفاهم و لكن ساد الصمت و السيدة صفية تنظر لفريدة بترقب بينما فريدة ارتبكت و لم تفهم ماذا ينتظرها.. نظرت لعمار بإستنجاد فأشار لها أن تقبل يدها.. استدركت مسرعة و أنخفضت لتحمل يدها و تقبلها حسب تقاليدهم.. ابتسمت لها السيدة صفية برضا ثم ابتعدت فريدة قليلاً ليقترب عبدالرحمن و يصافح الحجة صفية و هو يُعرف نفسه لها.. أنخفض ليقبل يدها بأدب فمسحت علي كتفه بود ثم أقتربت عائشة و هي تبتسم ابتسامة عريضة.. نظرت الحجة صفية لها بتأمل قبل أن تسأل عمار:هي دي؟
ارتبك عمار و لم يجيب بينما عائشة تسائلت بعدم فهم:هي دي ايه؟
اتسعت ابتسامة الحجة و هي تجيبها:عايشة صُح؟ اللهم صلي ع النبي اللهم بارك.. بتفهم ي عمار انت بردو.. طالع لامك ناصح.
كانت الحجة صفية الوحيدة التي تضحك في هذا الموقف بينما عمار كان في قمة خجله أما عائشة كانت تنظر لهما ببلاهة.. مدت يدها لتصافحها و لكنها تعجبت عندما وجدت الحجة تجذبها لحضنها و تعانقها بحنان..تعارفت علي بقية الرفاق و أظهرت لهم العديد من الترحيب قبل أن تنادي علي خلف:طلع شنط الضيوف لأوضهم فوق و خلي سمية تساعدك.
أومأت سمية الخادمة التي وقفت خلف سيدتها و نفذت ما طُلب منها.. تسائل عمار:أمال فين سامي؟
سمع عمار صوت من خلفه يقول:أجيت ي حبيب اخوك.
تعانق عمار مع أخيه الأكبر الذي بدا أطول قامة و أكثر ضخامة من عمار.. كان حليق الرأس و لديه لحية طويلة و يرتدي جلباب بني اللون.. تحدث سامي:متواخذنيش ي عمار لسه داري بوصولك و كنت مشغول في تجهيزات الفرح.
اقترب منه عبدالرحمن يصافحه و هو يبارك له علي حفل زفافه و فعل يحيي المثل قبل أن يلقي التحية علي الفتيات الثلاثة.. بادرت الحجة صفية:يلا اطلعوا غيروا هدومكم عشان تاكلوا لقمة و ترتاحوا من السفر.
تدخل سامي قائلاً:لا قبل ما ينام و ياكل يچي يزور المرحوم ابوه ف المقابر.
ردت الحجة صفية:محبكتش ي ولدي الدنيا هتليل.. خليها بكرا يكون ارت..
قاطعها سامي:بكرا الحنة ي امه وبعدين الفرح.. و بعدين ميصوحش يجي البلد من غير ما يزور المرحوم.
كادت الحجة صفية أن تجادل ابنها مجدداً حتي بادر عمار:خلاص ي امه انا هروح و مش هتأخر.
بادر عبدالرحمن:انا هاجي معاك نقرأله الفاتحة.
وافق عمار ثم وقع بصر سامي علي يحيي الذي التزم الصمت:و انت؟ مش هتيجي معانا؟
نظر يحيي له بعدم استدراك و هو علي وشك أن ينام و هو واقفاً علي حالته من شدة تعبه.. أسرع عبدالرحمن بالرد:لا ازاي هيجي معانا طبعاً.
همس يحيي لعبدالرحمن:اجي معاكم فين؟
رد عبدالرحمن هامساً:هنزور ابوه ف المقابر و هنرجع علي طول.
لم يعطي يحيي أي ردة فعل برفض أو قبول حتي جذبه عبدالرحمن و هما يغادران مع عمار و سامي.. يسيروا منذ عدة دقائق و قد مرت علي يحيي كأنها ساعات و هو لا يتمني شئ في هذه اللحظة سوي فراش مريح..بدأ يغمض عينيه بإستسلام و هو يسير علي خطي عبدالرحمن الذي يجذبه برفق بين الحين و الآخر.. هدوء شديد و بدأت حرارة الشمس تذهب تماماً و الضوضاء قلت بعدما حل الظلام.. يسير بخطي طفل و هو يغمض عينيه و يبدو كأنه غارقاً في نومه.. سمع سامي يلقي التحية:السلام عليكم.
لم يهتم يحيي علي من يلقيها حتي أفزعه من نومه تلك الأصوات العالية المتداخلة و هي ترد:و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته.
قفز في مكانه مفزوعاً و كادت تتعثر قدمه حتي امسك به عبدالرحمن و همس له:متخافش متخافش دول اعمام عمار جايين يقرأوا الفاتحه هم كمان.
أشتدت فزعته عندما أفتح عينيه و رأي هذا المنظر المرعب.. سبعة رجال ضخام الهيئة يقفون متجاورين يرتدون جلباب أسود و جميعهم يملكون لحية طويلة و شارب ضخم.. كان احدهم يحمل كشاف إنارة لينير هذا الظلام الدامس.. سأل يحيي عبدالرحمن:متأكد أنهم اعمام عمار مش حاجه تانية؟
نظر عبدالرحمن ليحيي بنفاذ صبر قبل أن يدير وجهه و يرفع يداه أمامه و هو يقرأ الفاتحة لوالد عمار و يدعو له بالرحمة مثلما فعل الجميع.. وقف يحيي يتفحصهم بقلق قبل أن يرمقه أحدهم بنظرات حادة أشعلت الرعب في قلبه مجدداً فأدار وجهه مسرعاً و رفع يده مثلهم ثم حرك شفتيه عدة ثواني حتي نظر بضيق عينه لعبدالرحمن ووجده يمسح وجهه بكفيه قائلاً:صدق الله العظيم.
فعل يحيي المثل و هو يرتجف بداخله من ذلك المكان و هذا الظلام الدامس و هؤلاء البشريين المرعبين.. اسرع يحيي قائلاً:صدق الله العظيم..يلا نروح ننام و نرتاح بقا.
بادر عم عمار الأول قائلاً بنبرة صوته الخشنة:تروحوا ايييه.. دا الحجة اعتماد من صباحية ربنا بتحضرلكم الوكل.
همس يحيي لعبدالرحمن:الحجة اعتماد مين؟
رد عبدالرحمن هامساً:تلاقيها عمته او مرات عمه.
رد عمار علي عمه:يعمي مجدرشي اروح انا يادوب اروح استحمي و انام و زمان امي مجهزة الوكل و مستنياني انا و الشباب.
رد عم عمار الثاني و الذي كان اضخمهم حجماً و اخشنهم صوتاً:كييف يعني.. بيجولك الحجة اعتماد مجهزه الوكل بنفسيها.
حاول أن يقنعه يحيي:اصل ي استاذ والله احنا منمناش خالص و والدة عمار مستنيانا ف الدو..
اقترب منه عم عمار و كشر عن انيابه مصدراً صوتاً مرعباً و هو ينظر ليحيي بغضب شديد و كأنه علي وشك أن يلتهمه لأنه حاول مجادلته.. قفز قلب يحيي من مكانه و التصق في عبدالرحمن مرعوباً:فين دوار الحچة اعتماد؟

غادرت الفتيات الثلاثة غرفتهن الكبيرة التي تحتوي علي فراشين ضخمين ربما الواحد منهما يكفي الثلاث فتيات.. كانت كلاً منهن استحممت و ارتدت ملابس نظيفة و قررن النزول لمجالسة الحجة صفاء.. أرشدتهن الخادمة للصالون حيث تجلس هناك الحجة.. ألقت عائشة السلام:السلام عليكم.
انتبهت لها الحجة صفية و نهضت مسرعة بحيوية و هي تتفحص عائشة بنظرة إنبهار و إعجاب لجلبابها الفضفاض و حجابها البسيط و قد وضعت القليل من مساحيق التجميل.. تبسمت عائشة لها رغم شعور الأرتباك الشديد الذي ينتابها.. و لكن الحجة صفية وجهت حديثها للخادمة:سمية.. العشا جهز؟
ردت سمية بالإيجاب لتصحبهم الحجة صفية لخارج الصالون و هي تحاوط ذراعها بجسد عائشة و تبدو مهتمة بها كثيراً..قادتهم لغرفة أخري بها مائدة طويلة جداً وضع عليها كل الخيرات بالإضافة للفواكة و الحلي..جلست سمر علي يسار الحجة صفية:أمال فين الشباب مش هياكلوا معانا؟
ردت الحجة و هي تضع الطعام في صحن سمر:لا..هياكلوا في دوار اعتماد.
سألتها عائشة بغيرة:اعتماد مين؟
تبسمت لها الحجة و هي تتناول صحنها الفارغ:الحجة اعتماد.. عمة عمار الكبيرة.. عوايدها دايما تعزم عمار كل ما يرجع البلد.
ارجعت لها الصحن الذي امتلأ بكل اصناف الطعام بينما عائشة تبسمت بإرتياح.. سألتهم الحجة:الاوضة عجبتكم ولا صغيرة علي..
قاطعها أصواتهن المختلطة:لا دي كبيرة و عجبتنا اوي.. شكراً يحجة صفاء.
تسائلت صفية:مقولتليش بقا.. اتعرفتوا علي عمار ولدي و الشباب منين؟
ردت فريدة ببساطة و هي تمضغ:ف حادثة.
شهقت السيدة مفزوعة:حادثة ايه كف الله الشر؟!
ردت فريدة مجدداً بهدوء:مفيش.. شباب طايشين بقا راكبين عربية قاموا خبطوا البت عايشة.
شهقت مجدداً و وضعت يدها علي قلبها بهلع:وه!..عايشة انتي كويسة ي حبيبتي؟
أسرعت سمر بتهدئتها:متخافيش ي حجة دي كانت خبطة خفيفة و عايشة محصلهاش حاجه الحمدلله.
أكملت فريدة سردها للقصة متجاهلة حالة الذعر التي اصابت الحجة صفية بسببها:لا بس سمر بمية راجل.. وقفتلهم هم التلاتة بطولها فرجت عليهم كورنيش سيدي بشر كله.
أكملت عائشة محاولة تهدئة الحجة:و فريدة و عبدالرحمن طلعوا صحاب و هم اعتذرولي و بقينا صحاب ف الكلية.
اومأت برأسها متفاهمة قبل أن تنظر لصحنها و تقول بنبرة مترددة:والله يابنات احنا معندناش ف البلد صداقة بين ولد و بنت..بس من كتر ما حكالي عنكم عمار و انا حسيتكم بنات جدعان.. ولاد اصول.. و انا خابرة كويس عمار ولدي و بثق فيه.. هو عارف ربنا كويس و بيتقي الله.
اسرعت فريدة بنبرة صوت مكتومة بسبب الطعام الذي ملأ فمها:والله ي حچة يازين ما ربيتي فعلاً.
تجاهلتها صفية قبل أن تتبسم لسمر و عائشة بنظرة حنونة:و بصراحة اول ما شوفتكم و انا قلبي استريحلكم.
تبادل ثلاثتهم النظرات بإبتسامات لطيفة قبل أن يقاطعهن صوت الكأس الذي أسقطته فريدة.. نظرت لها الحجة بنظرة خالية من التعابير بينما سمر رمقتها بنظرة حادة جعلتها تقول بصوت مرتجف:والله ايدي خبطته من غير قصد.
تنفست عائشة بنفاذ صبر و هي تضع يدها علي وجهها من شدة الأحراج..

أحمق في بيتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن