|٣٩|

127 7 7
                                    

تجمع الرفاق حول المائدة و صوت الأذان يأتي من التلفاز و المساجد المحيطة.. كانوا علي وشك أن يتناولون فطورهم و لكن قاطعهم صوت طرقات علي الباب.. أسرع عمار ليفتح الباب و يشير نحو الطارق:اهو جه اخيراً.
ألتفت له سيف قائلاً:كدا تتأخر و انا مستنيك من بدري.
وقف يحيي في مقابلة المائدة تماماً و هو يقول:معلش بقا منا قولت لفريدة بحضرلكم مفاجأة.
تبادلوا النظرات بفضول و اختلطت اصواتهم و هم يتسائلون عدا فريدة التي أغمضت عينيها و تدعو بداخلها ألا يعترف ..تعلم جيداً أنها لن تتماسك و ستنهار و ينكشف أمرها..في حين أنه اتسعت ابتسامته الجميلة و ألتمعت عينيه بسعادة بالغة.. سعادة لم يروها علي وجهه من قبل.. الصمت يعم الموقف و الجميع ينظرون له بترقب قبل أن ينطق:أنا أسلمت.
تعالت شهقاتهم بذهول و هم في حالة دهشة كبيرة.. افتحت فريدة عينيها و هي تنظر نحوهه بعدم تصديق..تلتقط انفاسها وكأنها قد عادت للحياة للتو.. بينما هم وقفوا يتبادلون النظرات بذهول قبل ان ينطق عبدالرحمن و عينيه تلتمع بسعادة غامرة:انت.. انت بتتكلم بجد؟ اسلمت اسلمت يعني و لا بتشتغلنا؟
مازحه يحيي كعادته:لا اسلمت نص نص..اكيد اسلمت يا عبود هو في هزار ف الكلام دا؟
ضحكت فريدة بفرحة عارمة و الدموع تنهمر من عينيها.. ضمت كفيها نحو صدرها و هي تردد:انا قلبي كان حاسس والله.
بينما عائشة رفعت يدها للسماء و هي تقول:اللهم لك الحمد والشكر.
أسرع عمار بعناق يحيي و هي يضرب ظهره:كنت حاسس بيك ياقلب اخوك و انت تايه والله ودعيتلك كتير ربنا يرشدك.
ابتعد يحيي عن عناقه ونظر له بإبتسامة متسعة:واهي دعواتك استجابت الحمدلله.
الفتيات يتعانقن بسعادة بالغة و الدموع تنهمر من اعينهن بفرحة شديدة متآثرن بتلك اللحظات السعيدة.. لربما كانت دوماً الفتيات في شجار دائم مع يحيي و لكن الأيام أجبرتهم علي العيش تحت سقف واحد..في اصعب الأوقات التي تفرقوا فيها و تلك الليالي التي لم يمتلكوا النقود الكافية ليشتروا الطعام او ليسددوا فواتيرهم..في الطقس البارد و الجوع و الغربة و الدراسة و اختباراتهم..كل تلك الليالي شكلت بينهم رابطة قوية فأصبحوا كالأخوة يتشاركون الطعام و الدفئ و الحزن و السعادة..فكان لابد أن يسعدوا جميعاً بأخيهم الذي دوماً كان أطيبهم قلباً و أقربهم للجميع..قطع هذه اللحظات الدافئة التي تملئها المباركات و العناقات بتأثر صوت "زغروطة" سلمي التي اصدرتها بأعلي صوتها.. انفزعت اجساد الشباب و ألتفتوا نحوها بفزع.. انتظروا لثواني طويلة قبل ان تنهيها و يصفق لها سيف بفخر:عظمة علي عظمة.
قهقهن كثيراً لترد سلمي بوجهها المبتهج:محوشهاله بقالي كتير.
حاوط سيف بذراعه عنق يحيي ومازحه:شوفت يعم اهي زغرطتلك قبل ما تزغرطلي انا شخصياً.
ضحك يحيي معه قبل ان يأتي صوت آذان الإقامة فأنتبهوا و كأنهم قد نسوا أمر الفطور تماماً وجوعهم الشديد من فرحتهم به فبادرت سمر:يلا يلا اقعدوا اما نفطر سوا.
شمرت عائشة عن ساعديها و هي تقول بحماس:فتحت نفسي والله.
حمل يحيي صحنه ليهديه لسمر:وهي من امتي انسدد اصلا؟
قذفته عائشة بمنديل ورقي فتفاداه و هو يقهقه.. وضع صحنه امامه وبدأ يتناول طعامه كالجميع و هم يتبادلون الحديث و المزاح..
نهض العم سيد من اريكته بعدما انتهي من طعامه و هو يحمل صحناً فارغاً قد اهدته اياه سمر قبل وقت أذان المغرب بدقائق و امتلئ بالمحاشي و الدجاج.. حمد ربه عن هذا الطعام اللذيذ و كاد ان يعود للداخل فسمع صوت ضحكاتهم العالية التي لا تنقطع منذ عودة يحيي.. رفع رأسه للأعلي نحو شرفة الطابق الثالث التي قد فُتحت علي مصرعيها و يظهر خيالات منعكسة علي حائط الشرفة لإجسادهم و هم يلتفون حول المائدة المتواضعة و يأتي صوت شجارهم الممزوج بالمزاح و الضحك و لا يقطعه سوي صوت ارتطام المعالق بالصحون..
قهقهوا كثيراً بعد تلك الدعابة التي ألقاها عبدالرحمن عن سمر بينما تزمرت هي بوجه طفولي قبل أن يدير يحيي وجهه نحو فريدة التي جلست في مقابلته علي المائدة.. تقلب الطعام بمعلقتها وبالكاد لم تتناول شئ..لاحظ انها لا تزيح بصرها عنه قط.. نظر نحوها لثواني فكانت تلك الابتسامة المتسعة التي ملئت وجهها.. و وجنتيها اللاتي توردا من شدة حماسها و سعادتها.. عينيها الجميلتين التي كانت دوماً تسحره بنظراتها تلتمع بالدموع.. مازالت لا تصدق أنه اخيراً فعلها و أزاح تلك العقبة الكبيرة التي كانت تعوق مشاعرهما.. تنظر له نظرة حنونة تمتلئ بالفخر الشديد..ارتبكت كثيراً عندما وجدته محدقاً في وجهها منذ لحظات طويلة لا يبعد عينيه.. لم تكن تدري ان نظراتها تلك في هذه اللحظات كانت بمثابة السهم الذي أصاب قلبه..لا ترمش عينيه حتي و ينظر لها كالمسحور متجمداً مكانه..لم يوقظه من غفلته سوي سلمي التي دفعت ذراعه:انت يابني!..بقولك ناولني طبق ورق العنب.
ادار وجهه لفريدة التي ضحكت ضحكة خبيثة و هي تنظر له بضيق عينيه..وضع الصحن امامها و هو يهمس لها:والله لولا ان سيف قاعد معانا لكنت ناولتهولك ف وشك.
وقفت فريدة تغسل الصحون في مطبخ منزلهن بعدما جلس الجميع يشاهدون برنامج رامز المعتاد و يحتسون الشاي.. خفق قلبها بشدة عندما وجدته يدخل المطبخ و هو يحمل كوبه:محبكتش المواعين يا فريدة تعالي كلنا مجمعين برا.
ردت فريدة:هخلصهم بسرعة واجي.
وجدته لم يغادر و اقترب منها و هو يهمس:انتي بتهربي مني؟
ابتلعت لعابها بصعوبة و لم تنظر له و هي تضع الصحن النظيف جانباً فأقترب اكثر و ناداها همساً:فريدة!
اخفضت رأسها و هي تخفي دموعها التي فرت من عينيها فأسرع ليدير وجهها نحوه و يتسائل:مالك بس مش كنتي مبسوطة من شوية!
اومأت برأسها و هي تقول بصوتها الباكي الذي يرتجف:منا مبسوطة والله دا انا بعيط من فرحتي بيك..انت عارف ان دموعي قريبة و مش عايزة انكد عليك ف يوم زي دا.
حمل وجهها بين كفيه و هو يمسح دموعها بإبهامه و يتحسس وجنتها الناعمة و هو يهمس:مبسوطالي اوي كدا!
حركت رأسها بالإيجاب و هي ترد:طبعاً يا يحيي.. انت اقرب حد ليا ف الدنيا من بعد جدو..لازم افرحلك من قلبي و ابقي اسعد حد بيك.
اتسعت ابتسامته و هو ينظر لها لثواني صامتاً يتأمل عينيها الخضروتان اللتان مالا للإحمرار بعد بكائها.. تلتمعان بشدة و هي ترفع رأسها له و تنظر له نظرتها الرقيقة التي تذيب قلبه فأسرع:بلاش النظرة دي انتي عارفه نهايتها.
ضحكت فريدة بينما هو ابتعد قائلاً:يلا سيبي اللي ف ايدك بقا وتعالي و بعدين عايز احكيلك حاجات كتيره اوي.
ابتسمت بحماس و هي تجفف يديها و تغادر المطبخ معه..

أحمق في بيتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن