جحر الشيطان ج3 ح29ج2

1K 63 44
                                    

جحر الشيطان
الفصل التاسع والعشرين ج3

(إهداء هذا الفصل إلى الحبيبة التي لا تكفيها الكلمات ( أسماء)
جعلك الله منارة في حياتي لا تنطفئ أبداً، ورزقٌ لا يزول يومًا عني يا رزق الرحمنُ لقلبي، أشكرك لولاكِ ولولا تشجيعك ما اكتمل هذا الفصل، لحسن حظي إني حظيتُ بكِ قمرًا وسط سماءٌ مظلمة)

انقضى شهرًا بحلوه ومره، ولكن أيامه كانت أقسى أيام قضاها حمزة، أيام مرت كأنها سنين وكل يومٍ بسنة؛ كان يرى أروى وهي هائجة تارة، باكيةٌ تارة وتتوسله أن يعطيها ذاك السم، وتارة متعصبة حتى ذات مرة شجت جبهته حين غافلته وألقت عليه شيء، بل أشياء، بالأحرى كل ما بالغرفة، عاش أمر أيام من الممكن أن تمر عليه، أيام فطرت قلبه بل شطرته نصفين وتركت في سويداءه جرحًا غائر لن يزول أثره أمد الدهر.
يا الله كيف مر ذلك الشهر وقد ظن إنه لن يمر بذاك اليسر.
لقد تحسنت حالتها نوعًا ما!
لو يعرف كيف يحلق كطائر حر من شدة السعادة والله لفعلها بغير روية.
ما ألَم به ليس بهين، ما ألَم به لن ينساه، وكيف ينسى دموعها التي كانت تقهره؟
ولا المهدئ الذي كان يسري في أوردتها فتسقط فاقدة الوعي بين ذراعيه تصيبه بالعجز؟
كيف ينسى رجاؤها؟
والله لن ينسى، تلك اشياء لا ولن تمحى.
عجبي لفؤاده كيف تحمل كل هذا صامدًا صمود الجبال الراسيات.
يخشى أن يغفل عنها ثانية مخافةً أن تؤذي نفسها فيؤذى قلبه الولهان!
لم يتركها أحد كان الجميع يأتوها يوميًا، لكن حمزة كان يرفض أن يبيت أحد معها غيره.
كانت راقدة على الفراش وقد استردت بعضٌ من صحتها، واندملت حروقها، أما ندوبها فتالله لم تلتئم، وأنَّى لها أن تلتئم وكوابيس تلك الندوب ملازمة لها، في نومها، ويقظتها.
إنها هشة … هشةٌ للغاية.
طرقاتٌ منغمة على الباب، نبئتها بهوية صاحبها، من غيره شريك حياتها! كلا، شريك قلبها، شطرها الأخر من فؤادها! روحها الهائمة في داخلها، لقد اذداد حبه حتى تشعب بين حنايا جوانحها، وشغاف قلبها، حتى أصبحَ وتينه.
ألا يقولوا:  إن المُحب يُعرف وقت الأزمات.
وهو كان بلسم ازماتها، ورفيق نكبتها، ومشكاةٌ عتمتها الذي لم يبرحها في أشد أيامها حلكة.
فكيف لا يتعظم ويتغازر حبه في كيانها، و وجدانها؟
أطل حمزة برأسه من لدن الباب، وتأمل بسمتها التي انبلجت على محياها فور رؤيته، و وجهها الذي عاد له لونه، ونضرته، وغمغم غامزًا بمرح  :
_ أدخل ولا ارجع؟ القمر يأمر بس.
أشارت له أروى بأصابعها، وهي تقول ضاحكة في غبطة  :
_ أدخل، أدخل، قال يعني لو قُلت لك أمشى هتمشى!
قهقه حمزة ضاحكًا وهو يغلق الباب مجيبًا  :
_ لا طبعًا، قال امشي قال بعد ما جيت!  بتستهبلي انتِ ولا إيه يا ست البنات؟
لثم جبهتها بلطف، وسأل بنبرة حانية  :
_ عاملة إيه انهارده؟ 
زمت أروى شفتيها، قائلة بملل  :
_ زهقانة، وقرفانة وعايزة امشي  .
رد حمزة وهو يجلس على مقعدًا سحبه قريبًا من فراشها  :
_ خلاص بقا يا ستي هتطلعي اهو، ومحضرلك مفاجأة!
برقت عينا أروى ببهجة وحماس، وسئلته بلهفة ممزوجة بالسرور  :
_ إيه هي؟
_ وتبقى مفاجأة إزاي لو قُلت؟
راوغها حمزة، فمطت شفتيها متمتمة بضيق  :
_ ايوة صح.
ثُم أستطردت بنبرة يشوبها الحزن  :
_ هو البنات ليهم كام يوم مجوش ليه؟
أخذ حمزة نفسًا عميقًا ومال ممسكًا كفها في راحتيه، وقال بهدوء  :
_ أروى، شهاب قدم الفرح عشان مسافر في شغل وعايز ملك معاه، بس ملك رفضت والله وكانت حابة إننا نعمل فرحنا سوا، بس هو مصر وأنا قُلتلها خلينا نفرح بيكِ وحتى أروى تتحسن حالتها شوية، ونفرح تاني ان شاء الله، ومعاذ هيسافر.
لم يرى حمزة اتساع عينا أروى مذهولة من كم الأحداث التي طرأت، حتى صاحت فجأة منتفضة تاركة كفه بعنف  :
_ نعم.؟؟؟ جواز إيه؟  ملك مينفعش تتجوز شهاب! ملك لازم لازم …
تداركت نفسها فلاذت بالصمت، فبُهت حمزة وقطب حاجبيه، وسألها  :
_ لازم إيه؟ مش فاهم كملي!
تلاقت أعينهم وخيم الصمت وما هم حمزة أن يحثها أن تكمل كلامها إذ رحمها الطارق الذي طرق الباب فحادت بصرهما على سمر التي ظهرت عند الباب و وراءها شيماء التي تتحاشى النظر إلى أروى.
وقف حمزة فورًا، واعتدلت أروى في جلستها، دنا حمزة من سمر مرحبًا  :
_ تعالي يا ماما، شيماء! تعالي أدخلي.
لم يتصادفا منذُ أخر محادثة كادت تودي بعمرها، رمقت اروى شيماء بنظرات لم أحد يفقهه، ولم تلبث أن انخرطت مع سمر في التسامر.
لم تستطع شيماء أن تتفوه ببنت شَفة، فقد جاءت مجبرة مع والدتها التي أصرت على أتيانها.
لم تعلم كيف تتكلم أمامها وهي السبب في كل ما هي فيه!
وأي حديث هذا قد يُقال؟
عمَّ تسئل؟ عن صحتها؟ أم مسامحتها؟
استأذن حمزة منهن وغادر لدقائق، وبقين ثلاثتهن.
لم يزل توتر شيماء قط وبدا إنه لن يزول ألبتًا، حتى جاءت مكالمة لوالدتها فستأذنت لتجيب و وقفت امام الباب.
تفرست أروى في شيماء لحظة، قبل أن تسألها بلطف  :
_ عاملة إيه يا شوشو طمنيني عنك؟ كده متجيش خالص تشوفيني.
قد يظن ظانٌ أن أروى مار في نفسها عن خبث شيماء! وإنها تعمدت ذهابها إلى المحل! لكنها أبدًا لم تفكر في ذلك، بداخلها نطفة نظيفة ترى الجميع بريء، نظيف.
نظرت شيماء إلى أروى من خلف دموعها المترقرقة في عينيها، وفضحت نفسها بنفسها حين أردفت بتوسل  :
_ أروى، صدقيني مكنتش أعرف إن كل ده هيحصل! أنا … أنا.
انخرطت في بكاءٍ مرير من شدة الذنب الذي يبدو إنه سيمتد يأنبها طيلة العمر، فـ انتفضت اروى تربت على ظهرها، قائلة بقلق  :
_ يا بنتي بتعيطي ليه؟  أنا عارفة إنه …
قالت شيماء بصوتٍ متهدج مقاطعة كلامها  :
_ أنا كنت عارفة إن حمزة في مهمة في محل ملابس فيه بنات وشباب بيشتغلوا، عشان كده بعتلك عشان تشوفيه وتتخانقوا انتوا الاتنين … مكنتش عايزكم تكملوا مع بعض اصلًا! ليه حمزة ياخد كل حاجة حلوة وانا لا؟
فغرت أروى فاه مندهشة، واتسعت عيناها على آخرهما، وهي تتطلع إليها وقد ران عليها الصمت من شدة الصدمة، بينما غطت شيماء وجهها بكفيها.
كان حمزة واجمًا، ممتقع الوجه أمام الباب هو وسمر، لا مرية إن قلبه يغلي كالقدر الآن، أحس فجأة إن الدنيا ضاقت عليه بما رحبت.
كأن رحابها يتسع كل شيء إلا هو.
ما أقسى على المرء حين يوجعه قريب، لم يظن يومًا إن يوجعه.
كرَّ عليها بغتة ساحبًا إياها من ذراعها فشهقت مذعورة حين رأته ولم تكد تستوعب حتى تلقطت صفعة منه قوية تركت علامة على وجنتها، وهزها بعنف، وهتف بصوتٍ كسير  :
_ ليه، ليه كده؟ إيه كمية الغل إللي جواكِ دي؟ أنتِ إزاي كده يا شيخة؟
أدارها نحو أروى التي وقفت تحاول نزعها من يديه، وأسترسل قائلًا بحزن  :
_ بصي شوفي اللي قدامك دي … لو مكناش وصلنا في الوقت المناسب كانت ماتت!
تهدج صوته في آخر كلمة نطقها، كأن قولها بمثابة خروج الروح من الجسد لا يقوَ عليه المرء، ولم يزل ينظر إلى أروى مع عبارته بأعيُن فاضت بالآسف وشعر كأنه المسؤال عما عاشته.
وبعدما كظم حزنه، أدار جسد شيماء نحوه، ونظر لها بشفقة، بحزن، بوجع، بكسرة كلهم في آن واحد امتزجا ليؤلموا قلبه أشد ألم، وأتبع قائلًا بصوتٍ باهت  :
_ عايزة تفرقينا؟ ليه؟ مستكترة أروى عليَّ ليه؟ شوفتِ مني إيه وحش لكل الكره ده؟ حمزة اللي شايفه مالك كل حاجة خسر أمُه وهو بيجي على الدنيا! حمزة في كل مهمة بيروحها بتكون روحه في كفة والمهمة في التانية بيتولد ليه عمر جديد لو عاش ونجي!
حمزة بيكون رايح اما فشل وموت مفيش تالت بينهم!
أنا كنت بعمل كل حاجة عشان رضاكِ بس لأنك أختي، حمزة اللي كان أخوكِ … خلاص
قلب كفيه مع بعضهما مع قوله وهو يبتعد عنها خطوة  :
_ مفيش حمزة من دلوقتي في حياتك، حمزة اللي كنتِ بتدعي عليه بالموت من انهارده ميت بالنسبالك.
انتفض فؤاد شيماء مع هذه العبارة، لمَ انتفض؟
لماذا وجعها كلامه؟
عمَّ تتساءل الآن؟ ألم يكن هذا ما تمنته؟ ها هو حمزة يتخلى عنها!
لن يدخل في شئونها؟ سيغدا الحاضر الغائب في آن!
كم مؤلم موت الأنسان في قلب المرء وهو حيٌ يرزق، إنها أشد ألمًا من الميتون في القبور لو تعلمون!
وكم من ميت في قلوبنا وهو حي؟
كانت لم تزل سمر تتطلع إلى ابنتها واجمة، ممتقعةً الوجه الذي بدا كأنما فارق الحياة توًا.
ها هي نبتة عمرها تقتلع من بذورها أمام عيناها!
فيمَ اخطئت ليرزقها الله بابنة تمتلك كل هذا الجحود!
كيف تُرمم ما تصدع، أم إن النسيان قد يطمسه؟
_أمشي عشان خارج أنا ومراتِ.
قالها حمزة بخشونه ولهجة لأول مرة تخرج من فيه إلى شيماء التي نظرت له لثوانٍ كأنما تتأكد إنه يحادثها، لكنّ نظراته التى تألقت بالقسوة والجفاء نبأتها إنها بالفعل خسرته.
ويا عجبي إن تألمت لذلك ولم تقوّ على التحرك قيد أنملة.
إلى أن ضغطت سمر على مرفقها بقسوة، وقالت بلهجة أجشه  :
_أمشي خلينا نرجع، يا رتني ما جبتك معايا.
وهمست بخفوت  :
_ويا رتني ما ولدتك.
همهمتها وصلت إلى شيماء التي ذاد الحزن في قلبها واستسلمت لوالدتها التي سحبتها وراءها، خيم الصمت على حمزة وأروى دقائق، بترته أروى التي قالت وهي تضم كف حمزة   :
_حمزة، متزعلش شيماء متقصدش أكيد!
ألتفت إليها حمزة هامسًا  :
_ هششش، المفاجأة في الإنتظار.
وترك كفها ملتقطًا حقيبة ناولها لها، وهو يقول  :
_ غيري براحتك، وهستناكِ بره.
🍃لا إله إلا الله 🍃
توقفت السيارة أمام أكاديمية ( A,H) لتعليم أساسيات الدفاع عن النفس، جاست عينا أروى في المكان قبل أن تلتفت إلى حمزة وتسأله  :
_ إحنا هنا ليه؟
فحرك كتفيه مجيبًا وهو يترجل  :
_ هتعرفِ دلوقتي، تعالي!
تحرك حمزة ممسكًا بكفها وأخذ بيدها إلى داخل الأكاديمية فوجدت إسلام يجلس خلف مكتب أنيق ما أن رآها هب واقفًا مهللًا:
_المديرة التي يُجابه جمالها جمال القمر، حللتِ أهلًا و وطأتِ سهلّا.
ثُم اردف وهو يتقدم إليهما  :
_ كيف حالك اليوم، أريدك أن تتعافي سريعًا حتى نبدأ العمل.
_ عمل؟؟
تساءلت اروى بدهشة وهي تقلب بصرها فيهما وما هم حمزة أن يفسر، إذ بادر إسلام، قائلًا  وهو يشير إلى حمزة بنبرة لم تخلو من المرح والحماس في آن:
_ هذا الأخ الذي يجاورك وقف على رؤوس الجميع .
وتابع باسطًا ذراعيه بعينين تتألق بالسعادة  :
_ حتى صنع هذا الجمال لجميلة الجميلات .
زمت أروى شفتيها بدون فهم، وعقدت ذراعيها، وهي تقول  :
_ لم أزل لم أفهم، أريدُ توضيح الآن يا سيد حمزة.
تبسم حمزة في حنان، وقال بنبرات هادئة وئيدة  :
_ هذه الأكاديمية صُممت خصيصًا لكِ لتعلمين بها الفتيات الدفاع عن النفس، هذه هي هديتي لكِ!
فغرة أروى فاه مذهولة وهمست بصدمة:
_ماذا قُلت؟
_كما سمعتِ بالظبط يا حبيبتي.
جابت عينا أروى في كل شطر في المكان، وقالت ودموع الفرح تترقرق في عينيها  :
_ حمزة، أنا … أنا…
قاطعها حمزة مردفًا بنبرة حانية، وعينان تفيضان حبًا  :
_ متقوليش أي حاجة كفاية نظرت الفرحة في عينيكِ دي.
انبسطت اساريرها وتطلعت فيه أروى تتأمله مليًا بقلبٌ متيمٌ، وحين طال تطلعهما الهائم الذي يفيضُ بالعاطفة، تحمحم إسلام يثبت وجوده الذي بدا له منسيًا.
فتطلع فيه الأثنين مجفلان كأنما تفاجآ من وجوده، فتبسم إسلام قائلًا  :
_ يجب أن أغادر لدي موعد هام ينبغي بي الذهاب إليه، سأتركما تتفحصان في المكان وتأخذان راحتكما، هيا، إلى اللقاء.
قال آخر عبارته بعجل وهو ينظر إلى ساعة معصمه ويسير شبه راكضًا غير مبال باستماع الرد.

رواية "فتاة العمليات الخاصه" مكتملهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن