الفصل الأول | تمهيد

17.7K 570 215
                                    

| خَريف |
.
.
.

قطراتُ المطر الرقيقة تحولتْ في غضونِ وَقتٍ قِياسيّ لأسهمٍ هابطة بشدة مُحدثةً ضَجُيجًا مروعًا يُنبئ باقتراب عاصفةٍ هَمجية في القريبِ العاجل، فهبّ الجميع آويون لِمنازلهم و لِسَقفٍ يحميهم حيثُ الدفء و الطمأنينة بعيداً عن بُكاءِ السماءِ الحادّ و ضَجيجِ صرخاتِ المَطرِ الغزير.

جسده الصغير احتضنَ الجسدَ الأصغرَ لِجواره بشدّة لعله يخفف من ارتجافهِ، و رغم أن كِلاهما كانَ تحتَ صندوقٌ كرتونيّ مهترئ في قارعة الطريق، سوى أن ذلك لم يكن ليمنع لآلئ السماءِ الحادّة من الوصول إليهما و تبليلِ أجسادهما الضَئِيلة

شعرَ الأكبر بينهما بالسوء لتغير الأجواء المُناخيّة بهذا الشكل و ذلك دفعه لاحتواءِ أخيهِ الأصغر بين ذراعيه أكثر في محاولة يائسة منهُ لمواساته و التخفيفِ من خوفه بالتربيت على شعره الأشقر المُبلل بِلُطف

-" سيكون كل شَيء على ما يُرام، دِاي. "-
-" دِاي جَائِع.. "-

بين رجفة شفتاهُ الصغيرتان، همسَ الصغير مُتألِماً يَتشبّث بِجسدَ شقيقه الأكبر بكل ما تبقّى له من قوى خائِرة فصمتَ الآخر ينتظر من عقلهِ تأليفَ جُملةً جديدة لتهدئه أخيه بدلاً من تكرار أن الأمور ستكون على ما يرام طوالَ الوقت.

رفع رأسه مُتأملاً السماءَ الداكِنة و مركزاً على صوت ضربِ قطرات المطر للأرضِ شبهِ الخالية حولهما في ليلة هائجة كهذهِ
لقد مضت أكثر من عشرون ساعة على هروبهِ من ذاك القصر بالفعل و هو حَتماً لا يدري ما خطوته التالية فمهمته و هدفه الأساسيّ بإنقاذ شقيقهِ و حمايته يتداعى أمامه ببطئ مُبشراً بسوءِ المصير الذي ينتظر كِلاهُما على الجانب الآخر ..

-" لا تقلق دِاي .. أنا هُنا لأجلكَ، سأجلبُ لكَ الطعام. "-

بالتفكير في آخر جملةٍ قالها .. هو كان يقصد طعاماً طبيعياً لا دِمَاء سائلة، و هذا بالتحديد ما جعلهُ يقطبُ حاجبيه بضيقٍ و قلق فما لا يدركُ ماهيّته الآن هوَ ما يحتاج إليه أخوه الأصغر لِلبقاء على قيد الحياة و الصمود لفترة أطول
الطعام .. رغم معرفته لشكلهِ و رائِحَته لكنه لا يدرك حقاً من أين يتم الحصولُ عليه و لم يفكر يومًا في سؤال والدتهِ بخصوصه.

-" أشعر بالنّعاس .. "-

يقولها بخمول و صوت طفوليّ مُرهَق و هادئ لِلغاية ثم يغفو ببطئ و يقفل عينيه العُشبية ليسقط جسمه الصغير فِي جحر أخيه الذي ما إن رأى ذاكَ المنظر حتى انطلقت صافرة الإنذار في رأسه تُعلمه بأن الصغير قد ماتَ بين يديهِ للتو !..
و هو الشيء الذي جعله يتصنّم كالتماثيل للحظات و قبل أن يقوم بأي ردّ فعلٍ عشوائي نظراً لما شعر به، حينها اندلع صوتٌ أنثوي قلق من الأعلى و ذلك جعله تِلقائياً يرفع رأسه لمصدرِ الصوت بأعينَ قرمزيّة قد احتلّتها الدموع مُتمتمًا باختناق امتزجَ مع صدمتهِ كمن يسأل لا يُخبِر

دِماءٌ مُتجمّدة. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن