الفصل الثالث

10.9K 269 9
                                    

أحبكِ جدًا
وأعرفُ أن الطريقَ إلى المستحيلِ طويلٌ
وأعرفُ أنكِ ستُ النساءِ
وليس لدي بديل.
****
أحبكِ جدًا وأعرف أني أعيشُ بمنفى
وأنتِ بمنفى
وبيني وبينكِ
ريحٌ
وغيمٌ
وبرقٌ
ورعدٌ
وثلجٌ ونار
وأعرفُ أن الوصولَ لعينيكِ وهمٌ
وأعرفُ أن الوصولَ إليكِ
انتحار.
"نزار قباني"
*************
تردد رنين الهاتف ليتبعه صوتُ خطوات أسرعت صاحبتها تلتقطه بقلب يخفق بجنون. ابتسمت بسعادة مع رؤيتها لاسم المتصل، لا تصدق أنّه اتصل أخيرًا. لامست قلبها المرتجف تتوسله أن يهدأ بينما تحاول عبثًا التحكم بأعصابها. ماذا أصابها؟ ما بالها تتصرف كمراهقة منذ قابلته؟ لم يفارق خيالها منذ اصطحبها للمشفى ولم يتركها لحظة حتى اطمأن وأوصلها إلى شقتها. صُدمت وهي ترى نفسها تتصرف بطريقة غريبة عنها وكأنّما استيقظ الجانب الشرقي منها فتحولت لفتاة شرقية خجولة.
أرادت طلب رقم هاتفه، لكنّها ولأول مرة تجد نفسها خجولة أمام رجل وكادت تبكي غيظاً من نفسها وهي تراه يتراجع ناويًا الذهاب. عضت شفتها وبدأت عيناها تدمعان بالفعل وقلبها يخبرها أنّها ترتكب خطأ بتركه يرحل. اختنقت لمجرد فكرة أنّها لن تراه مرة أخرى وفتحت فمها لتناديه لكنّه توقف وحده ثم التفت ناظرًا لها بتردد واضح. ارتجف قلبها ترقبًا وهو يعود ليقترب منها وابتسم بارتباك طالبًا رقم هاتفها ليطمئن عليها. أشرقت ابتسامة خجولة على شفتيها وأملته رقمها بصوت رقيق خجول، ودعها بعدها بابتسامة حانية رافقتها طيلة اليوم وحتى في أحلامها. انتظرت مكالمته بشوق رهيب وليومين كاملين ظلت تفعل حتى قررت أنّها لن تنتظر أكثر وإن لم يهاتفها اليوم ستتصل هي.
تنفست بعمق لتجيبه بصوتٍ متزن لا يعبر عن رجفتها أو اشتياقها لصوته الذي لامس قلبها بقوة
«مرحبًا يا آنسة إيفا»
همست بصعوبة
«مرحبًا»
«كيف حالكِ اليوم؟»
مشتاقة لك، أكاد أجن لأراك مرة أخرى، فقدت عقلي منذ التقيتك. هل يمكنني أن أراك الآن؟ أرادت بشدة نطق هذه الكلمات لكنها اكتفت بالرد بخجل
«أنا بخير شكرًا لك»
«هذا جيد، حمدًا لله»
ران الصمت للحظات شعرت خلالها أن نبضاتهما فقط ما يتردد، أو نبضاتها هي على الأقل... حتى سمعته يأخذ نفسًا مترددًا ويقول
«أردت الاطمئنان عليكِ، أعتذر فقد انشغلت اليومين الماضيين ولم... لم أستطع الاتصال بكِ»
«لا بأس، أنت قمت بالكثير من أجلي و... أنا بخير الآن»
عاد الصمت وأرادت بشدة أن تخبره بكل ما بقلبها ولم تقاوم رغبتها فهمست
«هل يمكن...»
«هل أنت...»
تحدثا بنفس اللحظة ليتوقفا معًا بارتباك، عضت شفتها ثم ضحكت وهي تسمع ضحكته الرجولية ورددت
«ماذا كنت ستقول؟»
«لا قولي أنتِ، السيدات أولاً»
همست بدلال غير متعمد ودون أن تنتبه أنها تناديه باسمه
«آدم، هيا... أنت أولًا»
سمعت تنهيدة بعد لحظات قبل أن يردد
«هل قدمكِ ما زالت تؤلمكِ؟»
نظرت لقدمها بدهشة منتبهة لحظتها أنّها اندفعت على قدمها المصابة ولم تشعر بألمها في غمرة لهفتها وانفعالها. ضحكت مرددة وهي تجلس على حافة فراشها بعد أن عاودها الألم.
«تؤلمني قليلًا، لكنها تتحسن»
همس بتردد
«جيد، إذن... هل يمكنكِ الخروج للشرفة؟»
خفق قلبها ونهضت مسرعة نحو الشرفة قبل أن تتوقف عند الباب لتغير اتجاهها نحو المرآة. ألقت نظرة على ملابسها وعدلت خصلات شعرها ولامست بشرتها بتوتر قبل أن تتجه للشرفة وتفتحها. اقتربت من السور المزين بنباتات الزينة والزهور ونظرت لأسفل. لمعت عيناها بفرح حين رأته واقفًا يستند إلى سيارته ناظرًا للأعلى وما أن رآها حتى اتسعت ابتسامته ولوح لها. انتفض قلبها وابتسمت ملوحة له ثم همست بلوم.
«لماذا تقف عندك؟ لماذا لم تصعد فور قدومك؟ هيا اصعد»
ضحك وهو يهرش رأسه بحرج
«لا بأس، أردت الاطمئنان عليكِ من بعيد... كما أنكِ تقيمين وحدكِ ولا يمكنني أن»
قاطعته باعتراض
«هيا يا آدم، لا تكن عنيدًا... ستؤلمك قدماك»
ابتسم برقة أذهبت أنفاسها
«فداكِ»
ارتجفت شفتاها وأنفاسها قبل أن تقول بسرعة
«انتظر لحطة»
لم تنتظر رده وأغلقت هاتفها وأسرعت للداخل. لم تنتظر المصعد لتهبط درجات الطابقين اللذين يفصلاها عنه رغم ألم قدمها، وابتسمت حين اندفع نحوها بقلق ما أن لمحها
«لماذا نزلتِ؟ لقد أمركِ الطبيب بالراحة، كيف تتعبين قدمكِ هكذا؟»
همست برقة
«فداك»
ابتسمت لارتباكه وتمتمت مضيفة
«أنا سعيدة جدًا أنك أتيت، ظننتك نسيت أمري»
«آسف، كان يجب أن آتي في وقتٍ أبكر لأطمئن عليكِ»
هتفت بلهفة
«المهم أنك أتيت»
ران الصمت وحديث أعينهما كان أغنى بالكلمات من أي حديث، وقلباهما اللذان كانا يخطوان في تلك اللحظة خطواتهما الأولى المتخبطة في طريق العشق تبادلا آلاف الكلمات والرسائل ليقطع هو الحديث الصامت بين قلبيهما
«كنت مترددًا وفكرت ألف مرة... خشيت أن تكوني»
قطع جملته ناظرًا في عمق عينيها، لتجد نفسها تقترب الخطوتين اللتين تفصلهما وهمست وقلبها في عينيها
«لا تخشى شيئًا... ولا تتردد»
«آنسة إيفا، في الواقع أردت أن»
هسمت تقاطعه
«إيف... أصدقائي ينادونني إيف»
تأمل عينيها للحظات ثم ابتسم هامسًا
«إيف»
ابتسمت بسعادة غامرة
«إذن هل يمكنني أن أعتبر أننا صرنا أصدقاء؟»
أومأ فاتسعت ابتسامتها، الآن على الأقل هما صديقان، لكنها تعرف أن قلبها يريد منه أكثر، ومن نظراته تعرف أنه هو الآخر لن يكتفي بصداقتهما. قطع تواصل أعينهما وتراجع نحو سيارته ليلتقط منها شيئًا ثم عاد إليها. شهقت بسعادة وهي ترى باقة الزهور الخلابة التي قدمها لها متمنيًا لها الشفاء العاجل. احتضنتها إلى صدرها ورفعتها تدفن أنفها بين زهورها وتتنفس عطرها بعمق. فتحت عينيها لتجده ينظر لها بعينين عصفتا بمشاعر شتى قبل أن يبتسم.
«اهتمي بنفسكِ يا إيف»
«هل سأراك مرة أخرى؟»
سألته بتهلف فأومأ واعدًا
«نحن صديقان الآن، بالتأكيد سنتقابل مجددًا»
راقبته وهو يحتل مقعد سيارته و لوحت له بيدها
«أراك قريبًا يا آدم»
«أراكِ قريبًا»
راقبت سيارته تبتعد وابتسمت بهيام وهي تحتضن الباقة هامسة بسعادة
«مذهل... ساحر»
عادت لشقتها وقلبها وعقلها غارقان في سعادة ونشوة أيقظها منهما رنين هاتفها. التقطته وشحب وجهها لرؤية الاسم. كيف نسيت؟ حقيقتها التي عادت توقظها من أحلام يقظتها وتخبرها بقسوة أنّه ليس من حقها عيش هذه اللحظات، ليس من حقها إدخاله حياتها المعقدة. كيف ستخبره عن ماضيها؟ عن حقيقتها المرة؟ سيكرهها حتمًا، سيمقتها ويرفض صداقتهما الوليدة. قلبها اختنق وهي تستوعب الخيارات أمامها؛ إما أن تخبره حقيقتها وتراقبه يخرج من حياتها للأبد أو تكذب عليه وترمي ماضيها خلف ظهرها وتدعي أنّها فتاة أخرى. تعرف أنّها تخدعه هكذا لكنّها لا تستطيع التفكير في حل آخر، هي حتى دون أن تدري بدأت هذه الخدعة، لا تستطيع التراجع الآن.
رن هاتفها مجددًا بنفس الرقم فتنهدت بمرارة، لكن هل سيتركها ماضيها دون تدخل؟ ألن يعود ويكشف كذبها يومًا؟ وقتها سيكرهها أضعافًا مضاعفة ولن يطيق رؤيتها أبدًا. دمعت عيناها لتمسحهما بقوة ثم حسمت أمرها وردت على المكالمة. أتاها صوته بلهفة بعد أن كاد يفقد الأمل في ردها.
«سيلينا أين أنتِ؟ لماذا لا تردين على اتصالاتي؟ أنتِ بخير؟»
تنهدت بألم وأجابته
«بيير، اهدأ قليلًا... أنا بخير، صدقني أنا بخير. آسفة لأنني لم أرد على اتصالاتك، احتجت بعض الوقت مع نفسي»
همس بعتاب
«سيلينا، كل شيء يمكن حله. عودي فقط وأنا سأحل كل شيء، سنتفاهم معه و»
قاطعته بمرارة
«بيير، لا تخدع نفسك. هو لن يتفاهم، وأنا لن أعود لهذا العالم مرة أخرى. أخبره بهذا... قل له أن يتوقف عن البحث عني»
قال بتأكيد ورجاء
«حبيبتي، ولا أنا أيضًا أريد عودتكِ لهذه الحياة. أنا أخشى عليكِ منه، سيفعل أي شيء ليعيدكِ رغمًا عنكِ وعندها لن أستطيع حمايتكِ ولا أريد تخيل ماذا سيفعل بكِ إن عثر عليكِ بنفسه. إن عدتِ الآن سيمكننا التفاهم وأعدكِ سأفعل أي شيء لأقنعه بما تريدين»
قالت بحدة
«إذن أقنعه الآن إن استطعت. أنت لا تعرفه كما أعرفه أنا، لن أخاطر بعودتي وأخسر فرصتي الوحيدة في بدأ حياة نظيفة بعيدًا عن عالمه القذر. أنت صديقي يا بيير حاول أنت الآخر النفاذ بجلدك وابدأ صفحة جديدة»
صمت للحظات قبل أن يقول بضيق
«إنه يعتقد أنني ساعدتكِ في الهرب»
أغمضت مرددة بأسى
«لن يؤذيك أبدًا، أنت حصانه الرابح»
هتف بغضب
«هل تعتقدين أنني خائف منه؟ أنا احتملت كل هذا لأجلكِ سيلينا، بقيت لأجلكِ وفي النهاية هربتِ ولم تفكري في من تركتِ خلفكِ»
همست بغصة مؤلمة
«بيير، أخبرتك أن ما تريده مستحيل وأننا»
قاطعها برجاء مرير
«أعرف... وأنا لا أطمع في أي شيء منكِ، لا أريد سوى أن تكوني بقربي. لن أطمئن وأنتِ بعيدة عن ناظريّ»
تألم قلبها لأجله وسالت دمعاتها
«تعرف أنني لست ضعيفة وسأكون بخير. أرجوك لا تتصل مجددًا، ربما يتجسس عليك ويراقبك. لا أريدك أن تتأذى بسببي ولا أن يصل إليّ عن طريقك، سأكون بخير صدقني»
«لن تكوني بخير ما دمتِ باقية في فرنسا، سيجدكِ مهما طال الوقت»
تعرف أنه محق وأنها يجب أن تهرب بعيدًا جدًا.
«لا تقلق، أعرف ماذا سأفعل»
تنهد بقوة وهو يرد
«أعرف كم أنتِ عنيدة. حسنًا، اعتني بنفسكِ ولا تترددي في الاتصال بي. هذا الهاتف آمن، إن احتجتِ للمساعدة اتصلي فورًا، مفهوم؟»
«بالتأكيد، لا تقلق... إلى اللقاء بيير»
هتف بسرعة قبل أن تغلق
«سيلينا»
«نعم»
همس بحب مغموس بالألم
«أحبكِ»
صمتت لحظة بارتباك ثم همست
«وأنا أيضًا يا صديقي»
أغلقت الهاتف وألقته جانبًا لتتمدد على فراشها ودموعها تسيل، تعرف أنها آلمته كثيرًا بهربها، لكنّها ما عادت تحتمل. لم تكد تجد الفرصة حتى هربت لتبدأ حياة نقية بعيدًا عن كل ماضيها، ستولد من جديد. سيلينا رحلت للأبد والآن لا وجود سوى لإيفا أنطوان. أغمضت عينيها لترتسم صورة آدم بمخيلتها وانسابت دموعها أكثر، كانت تخطط لتهرب لدولة أخرى، لكنّها الآن لا تعرف ماذا تفعل. ستنتظر قليلًا لترى إلى ما ستنتهي علاقتهما. من يدري ربما ينتهي بهما المطاف وتسافر معه إلى دولته، فلتدعو فقط ألا تظهر الحقيقة أمامه يومًا. احتضنت نفسها أكثر وبكت بحرارة تبكي بينما شعور بالبرد بدأ يخترق جسدها وشفتاها تهمسان اسمه بألم.
البرد يزداد بضراوة فضمت نفسها أكثر وتحركت يدها بحثًا عن الغطاء. كان الجو صيفًا قبل قليل كيف انقلب هكذا فجأة؟ ارتجفت وهي تفتح عينيها فاختفى ما حولها وغرقت في ظلام دامس لتشهق بخوف
«آدم... آدم أين أنت؟»
لمحت خياله يبتعد فنادته بكل قوتها لتنتفض فاتحة عينيها. قابلها النور الخافت قادمًا من مصباح قديم لولا لسبحت الغرفة في عتمة شديدة. هل كانت تحلم؟ أهي الآن مستيقظة؟ للحظات تخبط عقلها ليعود ببطء للواقع وتدرك أنّها كانت تحلم كالعادة، هذه المرة كان حلمًا عاديًا. ألأنه عاد إليها وباتت قريبة منه؟ تمامًا كأول مرة دخل حياتها فرحلت الكوابيس.
اعتدلت في الفراش تنظر حولها بخوف، ماذا حدث؟ قبل ساعات كانت تواجهه في تلك الشقة لكن بالنظر للغرفة فيبدو أنّها انتقلت لمكان مختلف. تحسست المفرش القديم وعيناها تتحركان على محتويات الغرفة القديمة، خزانة خشبية صغيرة بالركن، وطاولة فوقها صينية تحمل القليل من الطعام وفوقها استقر المصباح القديم. نهضت بتوتر عندما رأت النافذة المرتفعة التي يتسرب عبرها الهواء البارد وارتفعت على أطرافها لتقبض يداها على القضبان الحديدية تحاول النظر للخارج. تلفتت بحثًا عن مقعد ثم تحركت تزيح الصينية والمصباح لتحمل الطاولة إلى قرب النافذة، صعدت فوقها بحذر تتوسلها أن تحتمل وزنها ولا تتحطم.
نظرت للظلام في الخارج إلا من أعمدة متناثرة على طول الطريق البعيد. أين هي بالضبط؟ ضاقت عيناها تتدقق النظر في الضوء الشاحب وشهقت بجزع، أهذا حقل؟ هي ترى أشباحًا تتحرك مع النسيم، تبدو كأعشاب طويلة أو نباتات. تنهدت وهي تنظر للقمر المتواري خلف الغيوم، لا يمكنها الرؤية بوضوح. أغلقت النافذة لتمنع البرد ونزلت وهي تدلك كفيها بقوة لتحصل على بعض الدفء. شدت بلوزتها الرقيقة حولها وهي تشتمه، هل ينوي قتلها بردًا؟ واضح أنّه نقلها أثناء نومها لمكان آخر أكثر أمنًا، ولا بد أنّه يبعد كثيرًا عن المدينة؟ كيف لم تشعر؟ لا تتذكر شيئًا بعد مواجهتهما، هي فقط تناولت الطعام الذي أحضره وبعدها... هل خدر طعامها؟ شتمته بحنق وهي ترمق صينية الطعام بشك ثم تأفتت وارتمت على الفراش
«حسنًا يا آدم، لنرى آخرها معك. تكون واهمًا لو ظننتني سأخاف من الظلام والـ»
انتفضت فجأة حين اخترق أذنها صوت مخيف، صوت عواء ذئاب. ترددت الأصوات متوالية واقشعر جسدها أكثر، احتضنت نفسها ملتصقة بالحائط وعيناها تدوران حولها بخوف قبل أن تندفع نحو الباب رغم تأكدها أنّه لن يتركه مفتوحًا. حركت المقبض بقوة ثم تنهدت راحة حين وجدته محكم الغلق، لن يستطيعوا الدخول. ضربت الباب بعنف تناديه بينما تدرك داخلها أنّه حبسها ورحل تاركًا إياها في هذا المكان المهجور لتموت رعبًا. عادت تنتفض مع العواء القوي وتراجعت بعينين دامعتين لتجلس على الفراش ملتصقة بالحائط. دفنت رأسها فوق ركبتيها وغطت أذنيها بقوة بينما تستعيد صورة الذئاب التي تطاردها دومًا في كوابيسها لترتجف أكثر. رغمًا عنها انحدرت دموعها وهمست
«لن أسامحك أبدًا على هذا يا آدم، لن أسامحك»
مؤكد تعمد هذا، هي متأكدة. كيف ستنام الآن؟ شتمته وهي تبكي بحرقة، ها قد اختفت سيلين القوية التي لا تخشى شيئًا وحتى إيفا الرقيقة، الآن عادت الطفلة المسكينة التي كانتها قبل زمن طويل، سديم الصغيرة، سديم التي خسرت أسرتها ونفسها وكل شيء... سديم التي تخاف الوحدة، والظلام، والدم، و... الذئاب
همست لنفسها مشجعة وهي تحتضن جسدها المرتجف
«لا تخافي يا سديم، ستكونين بخير. سينتهي كل شيء، لا تخافي... ستشرق الشمس، وسيختفي الظلام و... الذئاب... وستكونين بخير»
*******************
ابتسم منذر بدبلوماسية وهو يتحدث مع أحد رجال الأعمال في الحفل المُقام بأحد الفنادق الكبيرة، أشار للنادل فاقترب ليتناول منه أحد كؤوس الشراب التي يحملها وصرفه بإشارة أخرى ليلتفت لمضيفه
«مبارك لك الصفقة يا مختار بك، والحفل أيضًا»
تلوت نفسه باشمئزاز والرجل يحيني رأسه بتواضع كاذب ويرد بتزلف
«لم يكن ليحدث كل هذا لولا رعايتك ومساعدتك يا باشا، لن أنسى أبدًا فضلك عليّ»
ارتفع ركن شفتيه بابتسامة لم ينتبه الرجل لسخريتها بينما يُتابع
«سمعت أن معاليك تنوي مشاركة عائلة هاشمي وبالتحديد آدم بك في صفقة جديدة»
قطب يرمقه بضيق فتراجع الرجل باعتذار
«آسف يا باشا لو كنت أتدخل فيما لا يعنيني، لكن أنا فقط أردت الاستفادة من خبرتك، وأبارك لك هذه الخطوة. عائلة هاشمي لهم وزنهم واسمهم الكبير والكثيرون يتنافسون على فرصة للعمل معهم»
نظر لوجه منذر الجامد دون تعبير وعاد يتمتم بارتباك
«أعني... بالطبع لهم الشرف بالعمل مع شخص مثلك يا باشا، أنا فقط كنت أفكر ماذا لو أنني»
لم يهتم بالاستماع لباقي كلماته وقال بعجرفة
«ركز في مشروعك القادم ولا تشتت نفسك، لا أريد أن أسحب دعمي لك لو شعرت بعكس ما وعدتنا بتقديمه»
هز رأسه بسرعة وتزلف
«بالطبع لا يا باشا»
ردد وهو يرتشف كأسه ببرود
«جيد، أنا لا أحب من يتراجعون في وعودهم ولا من يخذلون ثقتي، مفهوم؟»
«طبعًا يا باشا طبعًا»
رمقه بنظرة اخترقت أعماقه فابتلع لعابه بصعوبة، أنقذه رنين الهاتف الذي التقطه منذر ليهز رأسه معتذرًا بدبلوماسية وابتعد ليرد، في اللحظة التي اقتربت فيها زوجة مختار مرددة
«يا له من مغرور»
التفت نحوها هامساً بحدة
«اصمتي، هل فقدتِ عقلكِ؟»
تأففت وهي تتابع منذر حتى اختفى في الشرفة الخارجية
«من يظن نفسه ليتحدث مع الجميع من طرف أنفه؟»
زم شفتيه وأخبرها
«يحق له، رجل في مثل عمره يملك كل هذه الثروة والنفوذ يحق له بالطبع، بإشارة واحدة منه يمكن أن يختفي كل هذا النعيم الذي ترفلين فيه لذا توقفي عن ثرثرتكِ التافهة وركزي على استقبال الضيوف. لا أريد خسارة كل شيء لأنه لا يعجبكِ أنه يتحدث من طرف أنفه»
رمقته بقرف وابتعدت هامسة
«جبان أحمق»
وسرعان ما رسمت ابتسامة ترحيب زائفة وهي تستقبل مجموعة من ضيوف زوجها وعقلها لا يتوقف عن التفكير في منذر، من أين له حقًا بكل هذه الثروة والنفوذ في عمره الذي تجاوز الثلاثين بسنوات قليلة؟ لا تتخيل سببًا لهذا الثراء السريع إلا أنّه من طريق غير قانوني. لا تعتقد أنّه مثل زوجها المتسلق الذي لا يصعد على أكتاف الآخرين ولا يخجل من نفاقه وتملقه المثيرين للغثيان. لا تتخيل منذر أبدًا ينحني كالأحمق متزلفًا أحدهم لأجل خدمة تافهة، ذلك الرجل مختلف وغامض، وغموضه ذاك يثير فضولها بشدة.
غافلتها عيناها نحو الشرفة التي اختفى فيها وما أن وجدت فرصة حتى تسللت بحثًا عنه رغم تحذيرات عقلها. ما تفعله سيجلب لها مشاكل هي في غنى عنها لكنّها منذ رأته لا تستطيع مقاومة رغبتها الحارقة لتكشف ما يخفيه أسفل قناع التهذيب والبرود. غموضه يستفز ذلك الفضول القاتل الذي تكرهه داخلها. اقتربت ببطء على كعبيها العاليين وفستانها الضيق يتحكم بخطواتها. حاولت التراجع مذكرة نفسها بالقول الشهير عن الفضول الذي قتل القط، لكنّها رغم ذلك تابعت حتى توقفت قربه.
كان يقف متطلعًا للحديقة الواسعة التي تطل عليها الشرفة بعد أن انتهى من مكالمته مع رجله الذي كلّفه بمراقبة سامر، كان ينقصه مشاكله وتهوره هو الآخر. ما كان عليه مساعدة ليلى لكنّه لم يملك خيارًا. لم تطلب مساعدته مباشرة بل تحدثت مع والده ليأمره بتقديم المساعدة التي تريدها. ضرب بقبضته السور بعصبية، هو مجبرٌ على التحمل للنهاية.
شرد عقله إلى وتين فابتسم، حسنًا، هو ليس نادمًا على تقديمه تلك الخدمة. خسارة أنّها أفلتت منه، أغمض متذكرًا خصلاتها الفاتنة بلونها القمحي، كانت فتنة طبيعية خالصة عكس النساء اللاتي اعتاد رؤيتهن. روحها هي من كانت تمنحها تلك الفتنة وهو رأى تلك الحقيقة في حفل زفافها، بابتسامتها الفاتنة ونظراتها العاشقة لزوجها. زفر بقوة مقاومًا الشعور الذي ضاق به صدره بينما يدرك أنّه لحظة رآها شعر بالحسد تجاه أحدهم. شعر بالضيق والغيرة من زياد الذي حصل على هكذا روح وحبٍ نقي.
هز رأسه مستنكرًا أفكاره، ما الذي يفكر فيه؟ الحب لا يصلح لأمثاله، كيف يحسد أحدهم على أنّ قلبه حصل ذلك الحب بينما هو نفسه لا يملك قلبًا؟ ذلك العضو الذي ينبض في صدره مجرد عضو أجوف له مهمة محددة، أن يبقيه حيًا لا أكثر. تنفس بقوة وطرد خيالها، هو لا يريد من النساء إلا شيئًا واحدًا وهن... هن لا يطلبن منه قلبًا، يكتفين بدفتر شيكاته وبالمكانة والشهرة والنفوذ ولا شيء آخر. يعرف أنّهن سينصرفن عنه بمجرد أن يفقد كل هذا.
أخرج محفظته وفتحها ينظر للصورة القديمة داخلها، تأمل وجه صاحبتها بعينين معتمتين، وحدها هي أحبته بصدق خالص، وحدها قدمت حياتها وعمرها لأجله. لامس وجهها وعقله يسافر بعيدًا. هي وحدها كانت صمام الأمان بحياته، كانت الحاجز الذي يمنعه من الانزلاق لذلك الطريق. من أجلها كان سيفعل أي شيء ومن أجلها ترك قلبه يموت لاحقًا بروحها. موتها حطم كل شيء، مات قلبه النقي وصفحة حياته البيضاء انطوت بموتها ليولد ذلك الشيطان عديم القلب، منذر صفوان، الشيطان الذي استلم إرث والده الأسود لأجلها وما زال يسير في نفس الطريق فقط لأجلها.
انتبه لصوت خطوات خلفه فتصلب بحذر ثم استرخى حين تسللت إليه رائحة عطرها. ابتسم بسخرية وهو يعيد المحفظة لجيبه والتفت مبتسمًا للدخيلة
«شاهي هانم، هل كنتِ تبحثين عني؟»
ابتسم بمتعة مع احمرار وجهها ارتباكًا بينما تبحث عن الكلمات
«أنت ضيف شرف حفلتنا، أردت التأكد من أن سيادتك لا تحتاج أي شيء»
لمعت عيناه بعبث زاد احمرار وجهها بينما مرت عيناه عليها بتقييم ذكوري. ابتلعت لعابها بصعوبة وتضاعف شعورها بالخطر، عضت شفتها تسيطر على أعماقها التي بعثرها بنظرة وارتبكت أكثر حين تركزت عيناه على شفتيها فشهقت محررة إياها من ضغط أسنانها.
«ظننت قبل قليل أنّكِ تتمنين لو تلقين بي خارج حفلكِ»
تراجعت شاهقة بحدة فاتسعت ابتسامته ومال مقتربًا حتى اخترق عطره أنفاسها
«لا بد أنني أسأت الفهم إذن»
أومأت دون شعور وأنفاسها تحتبس أكثر بينما تنظر في عينيه وفزعها تضاعف بينما عقلها يأمرها بالابتعاد فورًا. عيناها تحركتا نحو شفتيه المبتسمتين بعبث خطر قبل أن يقاطع أفكارها صوتٌ نسائي ينادي على منذر. ارتدت للخلف خطوة بينما تراجع هو مستندًا للسور وكتّف ذراعيه دون أن تفارقها عيناه. اقتربت صاحبة الصوت تقطع الطريق بينهما لتلتصق به قائلة بدلال
«حبيبي أنت هنا وأنا أبحث عنك»
نقلت بصرها للفتاة ذات الشعر الأشقر المصطنع التي رمقتها بضيق قبل أن تسأله بلوم وغيرة
«من هذه يا حبيبي؟ وماذا تفعل معها هنا؟»
راقبته يقرب تلك العلقة الملونة إلى صدره أكثر ويرمقها بابتسامة خبيثة
«إنّها شاهيناز هانم، زوجة السيد مختار صاحب الحفل»
رمقتها بنظرة متعجرفة فشدت شاهي جسدها بكبرياء بينما تردد الأخرى
«حقًا؟ وماذا تفعل سيدة الحفل هنا معك ووحدكما؟»
رمقتهما بحدة وقالت بجمود
«أعتذر منكما، يجب أن أعود للحفل»
استدارت تغادر بخطوات سريعة لكنّها دون شعور توقفت عند الباب وعادت تلتفت نحوهما. رأته يضم الفتاة إليه ويده تلامس ظهرها العاري ووجهه مدفونٌ في عنقها، رفعت يدها تتحسس عنقها باختناق وتوتر قبل أن تشهق حين رفع عينيه كأنّما شعر بنظراتها. لم تر شفتيه لكنّ ابتسامته العابثة لمعت في نظراته، فأسرعت تدير ظهرها لتدفعها قدماها بسرعة للداخل كأنّما تطاردها الشياطين ليخبرها قلبها المتخبط بذعر، بل هو شيطان واحد... أو رجل واحد بقلب شيطان.
*******************
استمع عماد لمحدثه بقلق بالغ ثم تمتم
«كل شيء على ما يرام حقًا؟ أهي بخير؟»
استمع لصديقه على الطرف الآخر من الهاتف قبل أن يردد
«مراد، لن أوصيك يا صديقي. لا تدعها تغيب عن عينيك. أعرف أنك قادرٌ على حمايتها وأثق بكفاءتك ولذلك اخترتك أنت بالذات. تمام... هل قابلت راجي؟ هل أخبرك بشيءٍ جديد؟... نعم... تمام، سأقابله عندما أعود وأستلم منه المعلومات بنفسي. مراد يا صديقي لن أكرر رجاءي، أنا أستأمنك على قطعة غالية مني فضعها في عينيك»
ابتسم بأسى وهو يسمعه للحظات ليقول بتنهيدة متعبة
«أعرف أنها ستغضب عندما تعرف الحقيقة. سأتفاهم معها وقتها، لا تقلق»
ودعه وأغلق الهاتف زافرًا بتوتر، كل شيء سيكون بخير، هو يثق بمراد ويعرف أنه قادر على حمايتها، لكنه لا يضمن تهورها.
أغمض عينيه ليشرد لسنواتٍ مضت بينما يفكر في صديقيه القديمين، مراد وراجي صديقا طفولته وصباه. بحث عنهما عندما عاد لأول مرة قبل خمس سنوات حتى وجدهما وأعاد روابط الصداقة بينهم واستغل مهارات كل منهما وأقنعهما ليبدآ عملهما معه. بصعوبة أقنع مراد صاحب المباديء والمثاليات، الضابط الذي ترك عمله في الشرطة في أوج مجده بسبب حادثة أليمة مر بها أثرت عليه نفسيًا وفقد بعدها رغبته في الحياة والعمل حتى أعاده مرغمًا لشغفه القديم.ابتسم متذكرًا لمعان عينيه عندما أخبره عن شركة الحراسات الخاصة التي ينوي تأسيسها ويريد مساعدته بها والتي تولى إدارتها ولم يتوان عن أن يتولى بنفسه بعض المهام الصعبة التي تحتاج تدخله والشركة أثبتت تفوقها مع الأيام وصارت من أفضل شركات الحراسة.
بينما كان من السهل إقناع راجي الذي تغير تمامًا عما كان عليه قديمًا بعد أن ضاقت به السبل وتخبطت به الحياة بعد الأزمة التي تعرضت لها أسرته وخسارة والده لكل ثروته لينتهي به الحال إلى طريق غير مُتوقع. ابتسم بسخرية، صار محتالًا. لكنّه والحق يُقال اقتصر في احتياله على الأثرياء، الفاسدين تحديدًا. صديقه المحتال يُصر على أنّه روبن هود عصره وأنّه لا يحتال بل هو فقط يساعد الفقراء وضحايا الطبقة الثرية.
هز رأسه مبتسمًا، مزيج غريب وطرفيّ نقيض... ضابط شرطة ومحتال محترف. لم يلم راجي أبدًا فهو أكثر من يعلم كيف يمكن أن تجبرنا الحياة على السير في طرق لم نتوقع أبدًا أن نسلهكها.
وفي الحقيقة ساعدته كثيرًا، مهارات راجي في الاحتيال وجمع المعلومات والتي تطورت عن شقاوات الصبا التي كان يحتال بها على مدرسيهم. اقترح عليه استغلال موهبته في إنشاء مكتب للتحقيقات السرية وساعده بالمال اللازم، راجي كان ذراعه الذي تولى جمع المعلومات الخاصة بعائلتيّ رضوان وهاشمي، وهو من لجأ إليه عاصي... كان يعرف أنّ سمعة المكتب الشهيرة ستدفعهم إليه بالذات طلبًا للمساعدة وعن طريقه أوصل لهم فقط ما أراده لهم معرفته عنه هو وعائلته.
راجي لم يخب ظنه لحظة ولذلك كلّفه بمهمة أصعب حين غادر عائدًا لأسرته، صار هو عينه التي تمده بكل أخبار مليكة قلبه العنيدة، تلك التي ستوقف قلبه بتهورها. تذكر كيف صعقه راجي بإخباره عما تخطط له هي وزميلها الذي لجأ لمكتبه قبلها بأشهر طالبًا البحث عن معلومات تخص بعض رجال الأعمال المتحكمين في اقتصاد البلاد. أخبره أنّها وزميلها يعبثان بعش دبابير خطرة ويعرضان حياتهما للخطر وتجاهلا كل التهديدات التي تعرضا لها حتى انتهى الأمر بزميلها راقدًا في غيبوبة بينما هي...
قبض كفه بقوة، الغبية... تصمم على رمي نفسها إلى التهلكة وما عرفه من راجي عن خططها المجنونة كاد يشيب قلبه. أجبرته على تغيير خطته كُليًا والعودة لأجلها ويعرف أنّها ستفقد عقلها حين تعرف الحقيقة كما قال مراد لكنّه سيتكفل بغضبها لاحقًا. لن يستطيع إجبار قلبها العنيد الممتلئ بالحقد والغضب على رؤيته أو الاعتراف به ويعلم أنّ الطريق إليها يكاد يكون مستحيلًا لكنّ ليس هو من يتراجع. يعرف كيف سيشق طريقه عبر جليد قلبها ليعيد الحياة إلى قلبها وروحها مهما طال الوقت.
***********************
زفرت سؤدد بحدة وألقت فرشاة شعرها على طاولة المرآة لتدفن بعدها رأسها بين كفيها متنهدة بحرارة. هل تمادت في ثقتها بنفسها؟ هل أخطأت دراسة الوضع والمعلومات التي حصلت عليها وتلك التي تركها كرم وعلى أساسها بنت خطتها؟ كانت على يقين من أنّها ستجد ضالتها في ذلك الملف، لا يمكن أن يكون راجي قد أخطأ. كرم أكد لها أن مكتبه من أفضل المكاتب ليس في مدينتهم وحسب بل تخطت شهرته كل أطراف البلد. وقد أكد لها راجي أكثر من مرة أن المعلومات التي جمعها لو سافرت بنفسها واستأجرت مخبرًا خاص في ذلك البلد الأوروبي لحصلت على نفسه النتيجة.
العائلة التي تبحث عنها لم يبق أحدٌ منهم على قيد الحياة، رحلوا كلهم منذ سنوات طويلة.
تأوهت بحرارة وهي ترفع رأسها ونظرت لنفسها في المرآة وهالها اليأس المرتسم في عينيها فنهرت نفسها بضيق، منذ متى تستسلم لليأس في تحقيقاتها؟ مهما تعقدت الحقائق وبدا الوضع مستحيلًا في النهاية تتمكن من العثور على المخرج. لا بأس ستجد البديل... لا يهم الماضي المشترك وحلقة الوصل، يمكنها إيجاد أي بديل للمهمة. ماذا لو كانت الفتاة التي تبحث عنها ليست في دنيانا؟ يمكنها إيجاد بديلة مناسبة. سيكون الأمر صعبًا، لكنها ستجد واحدة، عندما تراها ستدرك أنها الأنسب. نقطة الضعف والفخ الذي لن يقاوم منذر الانسياق إليه والوقوع فيه.
ابتسمت بسخرية مستحضرة شخصه الواثق شديد الغرور، يظن نفسه حصينًا ولا يدري أن نقطة ضعفه أوضح من الشمس. لا يقتصر الأمر على مجرد شقراء توقعه في فخها. لا، هي لا تريد أي شقراء، تريد واحدة أقرب إلى وتين. شقراء ملائكية الملامح والروح، نوعه المفضل. هي درست شخصيته وراقبته جيدًا وتعرف أن الأمر يتجاوز مجرد امرأة شقراء. لقد رأت نظراته لوتين وزياد والتي غفل عنها للحظة قبل أن يخفيها وراء سخريته وتهديداته المغرورة، رأت ذلك الجوع للمشاعر التي كانت تشع منهما، الجوع المهلك الذي يضني قلبه لروح نقية مثل روح وتين، لحب قلبٍ نقي طاهر كحبها.
كانت تلك الفتاة أملها الذي عندما وصلت إليه أخيرًا أدركت أنه سراب وأن الزمن طواه منذ سنوات. لا بأس، قلبها يخبرها أنها ستجد الفتاة التي تجعل قلبه الشيطاني لا يملك إلا الانجذاب نحو قلبها الملائكي، طهارتها وبراءتها وهالتها الملائكية ستجذبه إلى الفخ الذي سيكتب نهايته.
هي تثق بإحساسها وبالقدر، لن يضع أمامها هذا الأمل بعبث. هي لا تؤمن بالصدف في هذه الحياة، وهذه القصة التي يغزلها القدر حتمًا ستجتمع خيوطها بطريقة ما، كل ما عليها إدراك اللحظة الفاصلة التي تلتقي عندها كل خيوط القدر.
نهضت لتتجه نحو شرفة الفندق الذي تقيم فيه ونظرت للأفق أمامها بتصميم وابتسمت بثقة قبل أن تنمحي ابتسامتها مع رؤيتها لحارسها الشخصي. تذكرت بنقمة كيف حاولت إقناع جدها بسفرها وحدها لكنّه أصر على أن يرافقها ذلك المتعجرف بحجة حمايتها في الغربة. قطبت بضيق وهي تراقب تحركه في الأسفل بتمعن، كان يتحدث عبر الهاتف وحركاته تنم عن توتر بالغ. مع من يتحدث بهذه الجدية؟ اشتعل فضولها وضيقت عيناها محاولة التقاط حركة شفتيه. ضربت السور حنقًا حين أعطاها ظهره ولم تتمالك نفسها، اندفعت بسرعة وفي لحظات كانت تهبط السلالم التي تفصلها عن الطابق الأول ولم تنتبه لتصرفها الأحمق إلا مع نظرات نزلاء الفندق في الصالة التي عبرتها حتى وصلت إلى مسبح الفندق الكبير. رفعت رأسها باعتداد تداري ارتباكها وتحركت مقتربة منه بهدوء. لضيقها كان قد أنهى المكالمة ووقف مكانه لحظات قبل أن يجلس على أحد الكراسي أمام المسبح. راقبت إحدى الأجنبيات تقترب منه في ثوب سباحة من قطعتين لتجلس على الكرسي المجاور تبتسم له بدلال.
دون تفكير قطعت الخطوات التي تفصلها عنهما ووقفت أمامهما ليرفع عينيه ما أن شعر بظلها يمنع عنه نور الشمس. تطلع إليها من خلف نظارته الشمسية وقاوم ابتسامته مع رؤيته لغضبها المكتوم المنصب على الفتاة التي كانت تغازله تقريبًا قبل أن تهبط هي عليهما من السماء. اعتذر منها بلباقة واقترب يهمس لها بشيء لم تسمعه سؤدد التي قطبت بشك حين ابتسمت الفتاة بعبث وشيء من الغيرة قبل أن تنهض وتتركهما لكن ليس قبل أن تغمز بعينها لسؤدد.
«تبًا، ماذا تقصد هذه الوقحة؟»
سمعت ضحكته الرجولية فأغمضت بنفاذ صبر ثم التفتت له هاتفة بغضب
«ماذا قلت لها بالضبط؟»
هز كتفيه دون رد فكتفت ذراعيها قائلة ببرود
«هل أنت هنا لتستجم؟ على ما أذكر أنّك رافقتني هنا لأنّك من المفترض أن تحميني من ذلك الخطر المزعوم»
ابتسم ببرود مماثل ورد
«أردت منحكِ بعض الراحة بعيدًا عن أوامري وتحكماتي الجهنمية التي يجب أن أذهب بصحبتها للجحيم حيث مكاني المناسب»
ضغطت على أسنانها وهي تسمعه يعيد الكلمات التي ألقت بها في وجهه ما أن وصلا. قالت وهي تهز قدمها على الأرض برتابة مستفزة قابلها هو ببرود تام
«جيد، واصل ما تفعله. لا تعرف كم أشعر بالراحة لأنك فهمت حدودك وابتعدت عن طريقي»
رفع حاجبًا ساخرًا
«واضح. تبدين مرتاحة للغاية، خاصة بثيابكِ اللطيفة هذه. حتى أنكِ لم تستطيعي تبديلها قبل أن تهبطي عليّ من السماء مقاطعة خلوتي مع الفاتنة التي طردتِها بنظراتكِ القاتلة»
كادت تشتمه لولا انتبهت لكلماته فخفضت عينيها لتتسعا بارتياع وهي ترى السروال المتسع الذي ترتديه، يشبه سروال علاء الدين وتعتليه بلوزة قطنية مريحة بنصف كُم ارتسمت فوقها ساحرة شمطاء شهيرة بأحد أفلام الرسوم المتحركة. أغمضت بيأس شاتمة نفسها، لم تفكر لحظة وهي تغادر غرفتها وها قد منحته من جديد فرصة ليسخر منها. نهض من مكانه واقترب منها وعيناه تتأملان ملامحها الرقيقة وخصلات شعرها الحرة. متأكد أنها لم تنتبه لها، كما لم تنتبه لثيابها. بدت كطفلة عنيدة وهي تزم شفتيها بغضب كاد يدفعه للضحك. قاوم بصعوبة رغبة محرقة في لمس خصلاتها التي يتلاعب بها الهواء. بدت لعينيه فاتنة بطريقة مؤلمة ولم ينتبه لهمسته التي خانته.
«خلابة»
رفعت عينيها بوجل فانتبه وأجبر نفسه على الابتسام بسخرية وتابع بسرعة مشيرًا للساحرة فوق بلوزتها
«الساحرة الشريرة، خلابة جدًا»
ضغط على شفتيه مع اشتعال النار في عينيها وأضاف بغمزة مستفزة
«ذوقكِ رائع بالملابس، أهنئكِ عليه»
قالها وابتعد مدركًا أنّه لو تأخر لحظة لنفذت رغبتها الواضحة في دفعه إلى الماء وهي تأمل ألا يعرف السباحة أو يتدخل أحدهم لإنقاذه. تركها تتمتم بقهر قبل أن تلحق به وهي تتوعده بانتقام قريب. لن يدفعها لليأس، هي من ستدفعه ليتوسل جدها ليترك العمل معها. كُتلة العضلات الحمقاء، فليصبر قليلًا وسترد له الصاع صاعين.
*****************
حركت آنجيليكا قدمها على الأرض بتوتر وهي تقف أمام مديرها الذي يرمقها ببرود وقالت بنفاذ صبر ملوحة بالنقود في يدها
«هل يمكنني أن أفهم؟ مرتبي غير كامل يا سيد باولو، واضح أن هناك خطأ»
ردد ببرود وهو يهز رأسه
«من الواضح أن لديكِ خصمًا يا عزيزتي آنجي»
كادت تهتف فيه أنها ليست عزيزته وبالتأكيد ليست آنجي بالنسبة له، ذلك الأحمق البغيض. ابتلعت شتائمها لتقول
«لماذا سيدي؟ أنا أقوم بعملي على أكمل وجه»
ابتسم بسماجة ورفع يده أمام عينيها
«خمس مرات، تأخرتِ على العمل خمس مرات في شهرٍ واحد عزيزتي»
ابتلعت لعابها ناظرة له بتوجس ليبتسم مكملًا
«هل تظنينني غافلًا عما يحدث بمطعمي يا صغيرة؟ أعرف في أي أيام بالضبط وصلتِ متأخرة ومن غطى غيابكِ والتي بالمناسبة حصلت على خصم مماثل، هل ظننتما أن الأمر سيمر ببساطة؟»
عضت شفتها بحنق، تبًا له، آذى ماريا أيضًا. لولا حاجتها المال لألقت بمريول مطعمه في وجهه ولأخبرته رأيها في شخصه البغيض بكل صراحة. نظرت للمال في يدها بضيق، ماذا ستفعل الآن؟ كانت تعتمد على مرتبها هذا الشهر. لم تنتبه لاقترابه إلا عندما شعرت بأنفاسه البغيضة تلامس وجهها فرفعت عينيها بفزع وتراجعت بحدة تمنعه من لمس خصلاتها. تمتمت بتشنج
«حسنًا، هل تريد شيئًا آخرًا يا سيد باولو؟ يجب أن أعود لقد تأخرت على موعد عودتي لبيتي»
تأمل جسدها بوقاحة جعلت معدتها تنقبض بغثيان مريع بينما يقترب هامسًا
«يمكنني توصيلكِ بنفسي، تعرفين أنكِ يمكنكِ طلب مساعدتي في أي وقت وأنا لن أتأخر عنكِ»
رددت ببرود وهي تتراجع
«شكرًا يا سيدي، ماريا تنتظرني»
وأشارت لباب الغرفة ترمقه بتحذير وتحدٍ وابتسمت بسماجة
«تنتظرني هي وبيدرو بالخارج، أمام غرفتك مباشرةً»
توقفت خطواته ورمقها بحدة قبل أن يتراجع ليجلس خلف مكتبه مشيرًا بعجرفة لتبتسم ببراءة مفتعلة
«إلى اللقاء يا سيد باولو»
أسرعت تغادر مغلقة الباب خلفها بقوة ثم نفخت هامسة بنفور وهي تنفخ.
«ليتك تتعفن بالجحيم أيها المتصابي اللعين»
عادت تتحرك إلى حيث تنتظرها ماريا وبيدرو يتهامسان متعانقي الأصابع، فتنحنحت بحرج مصطنع. ابتسم بيدرو وقطبت صديقتها بتحذير لتقترب وتتأبط ذارعها
«لا تنظري إليّ هكذا، صديقتكِ تشعر بالبؤس الآن. ذلك المدير الأحمق كان يعرف بتأخري وخصم جزءًا كبيرًا من المال، ماذا سأفعل الآن؟»
ربتت على كتفها بحنان لتتابع بأسف
«آسفة يا ماريا، خصم منكِ أنتِ أيضًا بسببي. أعدكِ سأردها لكِ بأقرب وقت»
هزت رأسها بتفهم
«حبيبتي، لا تحزني. ذلك البخيل كان سيتحجج بأي شيء ليخصم من راتبي هذا الشهر أيضًا»
سألها بيدرو وهو يخرج محفظته
«كم تحتاجين يا آنجي؟»
ابتعدت عن صديقتها وهزت رأسها
«شكرًا يا بيدرو سأتدبر أمري، لا تقلق»
هتفت صديقتها وهي تتحرك تلاحق خطواتها يتبعهما بيدرو
«آنجي، لا تكوني عنيدة. خذي ما تحتاجينه وتوقفي عن المكابرة، لماذا الأصدقاء إن لم يقدموا المساعدة وقت أن نحتاجهم؟»
رددت بضيق
«ماريا، أعرف كم تحتاجان كل سنت منها لتتزوجا، لن أكون سببًا في تأخر زواجكما أكثر»
تبادلا نظرة يائسة لتقول ماريا بمحاولة إقناع جديدة
«لا تقلقي، بيدرو وجد عملًا وبمرتب جيد جدًا حتى أننا سنحدد موعد الزواج قريبًا»
رمقتهما بشك لكنّهما ابتسما وتشابكت أكفهما بحب لتسألهما
«أتقولان الصدق؟»
أومأت ماريا فقفزت مصفقة بحماس ثم اندفعت تحتضنها
«أجل... أجل. أخيرًا يا أحمقان أخيرًا»
ابتسم بيدرو وهو يراهما تضحكان وتبكيان بنفس الوقت وتنهد قائلًا
»يبدو أنني كنت محقًا في غيرتي منكِ يا آنجي، أنتِ تستأثرين بجزء كبير من قلب حبيبتي»
ضربت على كتفه وقالت مغيظة
«أنت مخطيء، أنا أستأثر بقلبها كله وهي ستتزوجك شفقة ليس إلا»
قلّب عينيه لتتعالى ضحكاتهما قبل أن تمسح كل منهما دمعاتها. تأملتهما بحب ليقترب بيدرو ويمسك كفها ليضع بها أوراقًا نقدية. حاولت سحب يدها لكنّه أغلقها بحسم مدركًا مدى عنادها وشخصيتها العصامية.
«رديها عندما يتوفر معكِ المال، أعرف أنكِ تحتاجينها هذه الأيام»
نظرت لصديقتها بلوم ليقول لائمًا
«لماذا تنظرين لماريا هكذا؟ ظننت أنني أيضًا صديقكِ»
هزت رأسها باعتذار
«بالطبع يا بيدرو... أنا فقط»
ربت على شعرها بحنان أخوي خالص
«أنا أعتبر نفسي أخاكِ يا آنجي لا صديقكِ فقط»
رمقته من بين دموعها بامتنان، كم تمنت لو أن لها أخًا أكبر يحمل عنها كل الهموم التي أجبرتها الحياة على حملها في عمرٍ صغير، لكنَها لا تملك سوى أخٍ يصغرها بسنوات كثيرة كانت له الأم قبل أن تكون الأخت، صغيرها الذي من أجله تحتمل كل هذا العذاب ومن أجله فقط ما زالت صامدة تحارب بكل قوتها. مسحت دمعة خانتها وقالت بامتنان
«وهذا يسعدني كثيرًا ويشرفني بيدرو»
عانقت صديقتها مرة أخرى وتركتهما لتلحق بالحافلة، لوحت لهما من النافذة قبل أن تسترخي بمقعدها وتشرد بعيدًا ويدها تقبض على سلسلتها. أغمضت لتسيل دمعاتها بحرية مستغلة خلو الحافلة التي أقلت القليل من الركاب في هذه الساعة المتأخرة، وضمت سلسلتها أكثر هامسة
«سنكون بخير، لا تقلقا أنا قوية وأعتني بأخي جيدًا. سنكون بخير كما وعدتكما»
كانت تردد كلماتها علّها تحصل على بعض الدعم لقلبها الذي يكاد ينفطر من حمل المسؤولية التي أُلقيت على كاهلها وهي بعد بعمر الزهور. عادت تهمس لنفسها بتأكيد ومواساة
«أنتِ قوية يا آنجي وستقدرين على المواصلة، لا بأس. سنكون بخير»
تنهدت وهي تسند رأسها للنافذة تغمض بتعب ودموعها تسيل مزيحة بعض الألم عن قلبها المسكين الذي ما زال يتوسل للقدر أن يكون آخر طريق عذاباتها قد اقترب وأنها عن قريبٍ ستعثر على واحتها التي سترتاح فيها.
*******************
انتهى الفصل
قراءة ممتعة ❤️❤️

سديمُ عشق "ثلجٌ ونار"(الجزء الثاني من سلسلة حكايات الحب والقدر)  (قيد المراجعة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن