الفصل التاسع

7.5K 220 11
                                    

ترحالكِ ضَيّع أيامي
إن ضاع العمرُ فهل يرجع؟
أنا أسأل نفسي أحيانًا
من فينا ضاع، ومن ضَيّع؟
أنا بعدكِ حلمٌ مجروحٌ
أنا نهرٌ تاه عن المنبع
سفني في عينكِ راحلةٌ
تنتظر وداعكِ
كي تقلع.
«عبد العزيز جويدة»
******************
حركت رأسها بصعوبة تهمس بضعف
«آدم، أين أنت؟ أشعر بعطش شديد، أريد القليل من الماء»
حلقها شديد الجفاف وجسدها يحترق كأنها في أتونٍ مشتعل وخفقات قلبها ضعيفة متسارعة، دموعها تسيل محرقة وهي تواصل همسها لطيفه الذي يقف بعيدًا. لماذا تركها فجأة؟ ألم تكن نائمة بين ذراعيه قبل قليل؟ لماذا يقف بعيدًا يرمقها بلوم وكراهية؟
«لماذا تعاقبني؟ أنت من خان أولًا. أنا أحببتك، لم أحب رجلًا قبلك ولا بعدك يا آدم. لقد عدت من أجلك، عدت لأكون معك أنا وطفلتنا، لكنك مضيت بطريقك ونسيتني. أثبت لي أنني كنت لا شيء، كنت مجرد نزوة تسليت بها في غربتك وعدت لتكمل حياتك مع أخرى. كما فعل هو قبلك. كلاكما خانني، أنت خنتني وتلاعبت بقلبي، ماذا كنت تنتظر مني؟ كان يجب أن أجرحك بعمق جرحك لي»
سالت دمعاتها أكثر وهي تهذي بارتجاف
«كنت أتخبط ذبيحة بسببك وكان يجب أن أذبحك بنفس سكين خيانتك. لماذا تعاقبني؟ لا تقل أنك تنتقم لقلبك، أنت لم تحبني، أنت تنتقم لكرامتك وجرح كبريائك. لا تنظر لي هكذا. أنت ذبحتني قبلًا، حطمتني»
رفعت يدها عندما وجدت خياله يبتعد
«لا تذهب، ابق معي واكرهني كما تريد، لكن لا ترحل. ابق معي»
هبت نسمات الهواء على جلدها المشتعل فارتجفت بضعف، وفي أحلامها عصفت الريح لتسحبها بعيدًا. فتحت عينيها مع النسيم الذي لامس بشرتها وخفق قلبها وهي تنظر حولها. كانت في سيارة آدم يقودها مسرعًا وسط سهول الريف الفرنسي. صحيح، قبل لحظات كانت تعترف له بحبها. اختلست النظر لوجهه المبتسم بسعادة فنظر لها بحب ورفع كفها لشفتيه، دمعت عيناها وقلبها يذوب مع نظراته ومالت تستند لكتفه مغمضة تستمتع بوجودها قربه. لم تدر كيف غلبها النعاس حتى أفاقت على همساته
«إيف، استيقظي. وصلنا»
فتحت عينيها بتساؤل اختفى وهي تغرق في عمق عينيه ثم اعتدلت تتطلع حولها بانبهار ليقول مبتسمًا
«ما رأيك في المكان؟ إنه لصديقي وقد عرض علينا قضاء بضعة أيام هنا في هذا الريف الساحر»
هتفت بانبهار
«إنه مذهل، خلاب. لقد أحببته»
واندفعت تحيط عنقه بذراعيها بسعادة
«أحبك يا آدم، لو تعرف كم أحبك»
شعرت بتشنجه وسمعته يتنحنح بحرج فابتعدت بخجل ترمقه ببراءة شديدة، وتسارع نبضها وهي تغرق في عينيه اللتين عصفتا بمشاعر وجدت صداها بقلبها فهمست اسمه بتهدج، رفع كفه يلامس خدها برفق وأزاح خصلة شاردة خلف أذنها.
نحنحة خافتة قربهما انتزعتهما من غرقهما في بعضها فابتعدا بوجل والتفتا للسيدة الفرنسية التي وقفت بخدين محمرين تعتذر لمقاطعتهما. غادر آدم السيارة ضاحكًا واتجه إليها لترحب به في حماس. أشار نحوها متمتمًا بشيء فالتفتت لها السيدة وعيناها تقيمانها بتقدير قبل أن تميل تهمس في أذنه فاتسعت ابتسامته وهو ينظر نحوها، اقتربت هي بابتسامة لتصافحها فشدتها في عناق مرحب وهمست تخبرها أنها سعيدة من أجلهما.
قلبها كان منتشيًا بسعادتها ومشاعرها كلها تألقت بعينيها اللتين تعلقتا به طول الوقت وهو يتجول بها في القصر متعانقيّ الأيدي. لم يعترف بحبه لكنّها كانت واثقة أنه يبادلها مشاعرها. مشاعره كلها مرتسمة في عينيه وفي لمسة كفه. شبكت أصابعهما تتطلع فيه بهيام فابتسم بعشق ومال على أذنها هامسًا
«أريد أن أريكِ شيئاً مميزًا، أكثر ما أحبه في هذا المكان»
لمعت عيناها بحماس فشدها برفق لتتحرك معه باستسلام سعيد. نظرت حولها بانبهار وهي ترى الاسطبلات وهتفت بسعادة
«خيول»
ابتسم لرد فعلها وأسعده أنها تحب الخيل مثله
«هل تحبين الخيل؟»
أومأت برأسها ليسألها
«تجيدين الركوب إذن؟»
«بالطبع، أنا أعشق ركوب الخيل»
قرّبها منه فجأة فشهقت وهي تجد نفسها تكاد تلتصق به. حدقت في عينيه اللامعتين بعبث أوقف قلبها
«لا أريد أن أسمعكِ تجمعين كلمة "تعشقين" بأي شيء أو شخص آخر»
ارتجفت مع همساته وهو يردف بحميمية
«سواي»
تخبطت نبضاتها أكثر ولم يمهلها فرصة لتنطق بينما يتحرك نحو أحد الخيول التي قرّبها السائس منهما وشده من لجامه
«حان الوقت لمفاجأتكِ الأصلية»
لمعت عيناها بفضول وحماس وتلفتت حولها فردد ضاحكًا
«ليست هنا، سنذهب على ظهر الخيل»
«أين حصاني إذن؟ هل »
شهقت عندما أحاط خصرها بكفيه ورفعها ليضعها فوق السرج وأسرع يقفز خلفها بمهارة.
«وماذا يفعل فارسكِ الهُمام؟ هل تريدين أن تمتطي جوادًا بمفردكِ في وجوده؟ أيرضيكِ هذا؟»
هزت رأسها نفيًا ليتابع بحب
«إذن هل نذهب يا أميرتي؟»
اعتدلت لتواجهه ورفعت رأسها تنظر في عينيه اللامعتين ولم تقاوم مشاعرها فاقتربت تدفن رأسها في صدره وأحاطت خصره بذراعيها هامسة
«أميرتك ستذهب معك إلى آخر العالم يا فارسي الحبيب»
أغمضت بسعادة، وشعرت بالهواء يعصف وآدم ينطلق بالجواد بمهارة فارس محترف. أقسمت لحظتها أنه لا توجد امرأة الآن بسعادتها، هي وحبيبها فوق جوادٍ ينطلق بحرية فوق السهول الخضراء. لا، لا يوجد امرأة بمثل سعادتها لأنه ببساطة، فارسها لا يوجد مثله في هذا العالم. هذا الرجل نسخة واحدة، وهي وحدها تملكه. اتسعت ابتسامتها وضمت نفسها إليه لتشعر بارتجافه وهو يهمس
«ترفقي بقلبي يا ناريتي، لا أعتقد أنني يمكنني مقاومة سحركِ طويلًا»
رفعت وجهها تنظر في عينيه بإغواء ممتزج بالبراءة
«وأنا أخبرتك ألا تفعل»
لمعت عيناه بشغف وهو ينظر لخصلاتها التي داعبها الهواء بفتنة
«لا تقاوم»
ولم يقاوم، رفع يده ليلامس خصلاتها وتباطأت سرعة الجواد حتى توقف تمامًا حاملًا إياهما وقد انفصلا عن العالم، تتبادل أعينهما آلاف الرسائل التي ستستغرق دهورًا لتنطقها ألسنتهما. ابتسم قاطعًا تواصل أعينهما وهو يخرج شيئًا من جيبه وارتفع حاجباها بدهشة وهي ترى الوشاح الحريري
«هل تثقين بي؟»
تهدج صوتها
«أكثر من نفسي يا آدم»
رقت عيناه بحب وقال وهو يرفع الوشاح يغطي عينيها
«إذن اسمحي لي»
ربطه فوق عينيها برفق، وضم خصرها بذراع بينما يمسك اللجام بالآخر وينطلق
«لحظات قليلة ونصل، انتظري قليلًا فقط»
مالت على صدره هامسة
«يمكنني أن أنتظر أبدية من أجلك»
تسارعت دقات قلبه أسفل أذنها وران الصمت عليهما والهواء يداعب بشرتها وشعرها قبل أن تشعر بسرعة الجواد تقل حتى توقف. تحرك آدم خلفها لينزل ثم أنزلها برفق. مالت تستند إليه حين لامست قدماها الأرض قبل أن يمسك يدها
«تعالي معي، لقد وصلنا»
أحست باختلاف الأرضية واختفاء العشب بينما تسير فوق أرضٍ ممهدة وخفق قلبها بفضول وترقب حتى أوقفها وشعرت به يرفع يده ليفك الوشاح قائلًا
«انتظري، لا تفتحي عينيكِ الآن»
أزاح الوشاح برفق لتبقي عينيها مغمضتين تنتظر إشارته والحماس يتدفق في عروقها ليأتيها صوته
«الآن يمكنكِ أن تفتحي عينيكِ يا إيفي»
فتحتهما ببطء ليقابلها وجهه المبتسم قبل أن تحرك عينيها حولها فاتسعتا بانبهار وتجمعت الدموع فيهما. كانت تقف أسفل شجرة كبيرة وارفة أحاطتها أعمدة تجاور كل اثنين منهما والتقيا في قوس مرتفع تعلقت به أوشحة حريرية داعبها الهواء بينما تناثرت حولها زهور مختلفة وعلى الطريق الذي قادها عبره كانت هناك سجادة من بتلات حمراء افترشت الأرض حتى انتهت إلى حيث تقف.
التفتت إليه فتحرك نحوها مبتسمًا ويده تشد خيطًا فسمعت صوتًا فوقها. نظرت لأعلى لينهمر فوقها شلال من البتلات الناعمة وتطاير بعضها مع النسمات الرقيقة. رفعت كفيها وهي تضحك بسعادة تلامس البتلات التي غمرتها كمطر رقيق حتى شعرت به يقترب ليقف مقابلها لتغمرهما الورود معًا. نظرت له من بين دموع سعادتها وهمست
«لا أصدق. هذا رائع، هل كل هذا من أجلي؟»
لم يرد وعيناه تتأملانها بانبهار وعشق قبل أن يهمس وهو يرفع يده يزيل البتلات العالقة بشعرها ورفع يده الأخرى بوردة حمراء لامس بها خدها
«لو استطعت إحضار كل كنوز العالم أسفل قدميكِ لن أتأخر يا أميرتي»
سالت دموع سعادتها بينما يتابع ملامسًا خصلاتها بعشق
«أحبكِ إيفا، أحبكِ يا ناريتي»
واحتضن وجهها الدامع بكفيه مواصلًا اعترافه
«أحببتكِ منذ التقينا وسأظل أحبكِ حتى آخر العمر»
هتفت بشهقة باكية
«وأنا أحبك يا آدم وحتى آخر لحظة من عمري سأفعل»
همس وهو يسند جبينه لجبينها
«تزوجيني إذن إيفا»
همست اسمه بارتجاف فمسح دموعها بأصابعه هامسًا بحرارة
«أريحي قلبي وقولي أنك توافقين... تزوجيني إيف»
همست وقلبها يكاد ينفجر من شدة السعادة
«بالطبع أوافق، أنا موافقة»
ابتعد يرمقها بذهول ثم ضحك بسعادة وكفاه ترتجفان حول وجهها. لم تتمالك تخبط مشاعرها واقتربت تخبره بكل كيانها
«أحبك يا آدم، أحبك»
واندفعت دون تفكير لتمنحه قلبها كله في قبلة عاصفة بالمشاعر، استقبلها بصدمة قبل أن يستسلم لعاصفة عشقها. ارتجف قلبها كما فعل جسدها ومطر رقيق ينهمر داخلها ليمسح في لحظة كل ما عاشته قبله. شيءٌ تولد بقلبها لينتشر في كل خلاياها مثيرًا رغبة عارمة في البكاء. كانت تولد من جديد، لأول مرة تشعر هكذا. لم تشعر أنها محبوبة ونقية كما الآن، تشعر كما لو أنها تستعيد طهرها ونقاءها. سالت دموعها وهي تتشبث به محاولة طرد الأسى الذي احتلها وخيال سيلينا يتمثل شامتًا يذكرها أنها لا يحق لها أن تعيش قبلة بهذه المشاعر ولا بهذا السمو.
عادت خيالات عشرات الرجال الذين مروا بحياتها، تذكرت المرة الأولى التي انتهك أحدهم حرمة شفتيها، أحد المشرفين بالدار حاول فرض نفسه عليها وهي بالكاد في منتصف ربيعها الرابع عشر وأنقذها بيير يومها وانهال ضربًا على الرجل حتى كاد أن يقتله. انقلب الأمر ضدهما، واتهمهما أمام الجميع أنه ضبطهما في وضع غير أخلاقي. كانت كلمته مقابل كلمتهما ومن سيصدقهما.
ارتجفت أكثر بين ذراعيه وهي تستعيد عقابها، الغرفة المظلمة، شعرها الذي أمرت المديرة بقصه عقابًا لها على انفلات أخلاقها. شعرت أنها تموت مرة أخرى وخصلاتها الجميلة تتساقط أرضًا. تشبثت بآدم أكثر، تريده أن يمحو ذكرياتها ويطهرها من الدنس الذي لحق بها، من لمسات الرجال الذين تلاعبت بهم لتدمرهم. لماذا لم تقابله قبل أن تتدنس؟ لماذا؟
اشتدت يداه حول وجهها وأبعدها برفق ينظر بجزع لدموعها
«حبيبتي، أنتِ تبكين؟»
انفجرت في البكاء ليحتضنها وقد أفزعته دموعها، جلس مستندًا لجذع الشجرة واحتواها بين ذراعيه يهدهدها. ليتها قابلته قبل أن يحدث كل هذا، ليتها كانت بالطهر الذي يظنه.
عصفت الريح مجددًا لتغمض عينيها ثم تفتحهما لتلمح صورتها متعانقين تلتهمها النيران حتى اختفت وعاد الظلام لتهمس باكية
«ليتني قابلتك في زمانٍ آخر، ربما كان كل شيء قد تغير... أو ربما كان من الأفضل لو أننا لم نلتق أبدًا. ليتنا لم نلتق»
******************
ابتسمت آنجيليكا وهي تقف بباب غرفة شقيقها بالمشفى تتأمله بحنان يضحك على دعابة ألقاها بيدرو. التفتت ماريا عندما انتبهت لوجودها وأشارت لها
«أين اختفيتِ فجأة يا آنجي؟»
تقدمت نحوهم مبتسمة ترد
«كنت أتحدث مع الطبيب لأعرف متى سيستطيع جوليانو العودة للبيت»
انتبه شقيقها بترقب فابتسمت بحب
«غدًا سيكون بإمكانك الخروج يا حبيبي وكما اتفقنا لن ترهق نفسك وستلتزم بتعليمات الطبيب، حسنًا؟»
أومأ بحماس فاقتربت لتحيطه بذراعها وأسندت رأسها لرأسه، تأملهما صديقاها بحنان وقالت ماريا
«أنا واثقة أنكِ لن تمنحيه الفرصة ليفعل»
هزت رأسها ضاحكة
«صباح الخير يا صغاري، كيف حالك جولي؟»
التفتوا على صوت الجدة أنيتا وهتف هو بتذمر
«جدتي ليس أنتِ أيضًا»
ضحكت وهي تقترب لتنتزعه من حضن شقيقته وتضمه بحب وقالت بعينين دامعتين
«أنت بخير، لا تعرف كم أرعبتني»
ربت على ظهرها
«أنا بخير، لا تقلقي»
مسحت آنجيليكا دمعة غافلتها وقالت بصوت متحشرج
«لماذا أتعبتِ نفسكِ يا جدتي؟ أخبرتكِ أن ترتاحي بالبيت وأنا سأطمئنكِ عليه»
«ماذا تقولين؟ كيف تريدين مني أن أجلس قلقة بالبيت؟ هل عندي أغلى منكما؟»
مسحت دمعاتها مبتسمة لتقول ماريا بمرح وهي تغمز لخطيبها
«ماذا هناك؟ هل حضرنا هنا لنشاهد عرضًا دراميًا أم ماذا؟»
قال بيدرو ضاحكًا وهو يضمها
«دعوني أخبركم شيئًا مضحكًا بدل هذا البكاء. لقد عرفت أن حبيبتي الرقيقة هذه لقنت مديركم الوغد درسًا لن ينساه. آه ليتني كنت هناك، سمعت أنها لكمته بقسوة حتى أدمته»
لمعت عينا جوليانو بحماس بينما عضت ماريا على شفتها واحمر خداها ليكمل وهو يميل ليقبلها
«يبدو أن تدريباتي التي كنتِ تشكين منها أتت بنتيجة مذهلة»
شهقت آنجيليكا وهي تغطي عينيّ شقيقها
«تهذبا قليلًا، لا تفسدا أخلاق شقيقي البريء»
ضحك الجميع بينما هتف جوليانو وهو يرفع كفها
«آنجي، أنا لم أعد صغيرًا»
اتسعت عيناها بارتياع ثم هتفت وهي ترفع سبابتها في وجهه
«ماذا؟ ماذا يعني هذا؟ أنت ما زلت صغيرًا بالفعل. اسمع أنا لن أقبل بأي سلوك مشين،يالله لم يبق إلا أن تجلب فتاة للبيت وتقول أنها حبيبتك»
لم تكد تكمل جملتها حتى ارتفع طرقات وانفتح الباب لتطل فتاة صغيرة بعمر شقيقها همست بخجل
«هل يمكنني الدخول؟»
راقبت شقيقها بصدمة وهو يعتدل بسرعة رغم مرضه وشفتاه اتسعتا بابتسامة كبيرة، بينما كتم صديقاها ضحكتهما وقالت الجدة مرحبة
«تعالي يا صغيرة، لا بد أنّكِ صديقة جوليانو التي أخبرني عنها، صوفيا صحيح؟»
أومأت بخجل بينما آنجيليكا ما ترمقها بذهول قبل أن تميل نحو شقيقها
«جولي، هل ما أراه حقيقيًا؟»
همس بتذمر
«لا تناديني جولي مرة أخرى، أنتِ تحرجينني»
والتفت للفتاة بوجه مشرق
«مرحبًا يا صوفيا، شكرًا لزيارتكِ»
اقتربت من سريره ووقفت بقربه
«سعيدة لرؤيتك بخير جوليانو، أرجو أن تُشفى بسرعة»
همست بخجل ومالت تطبع قبلة على خده الذي احمر لتشهق آنجيليكا، ضحكت ماريا وأسرعت تشدها من ذراعها
«حبيبتي الخجولة، اهدأي قليلًا. ستأكلين الفتاة بعينيكِ»
تحركت معها للخارج وعيناها عليهما بذهول أفاقت منه على ضحكة ماريا
«يا إلهي، انظري لنفسكِ»
أشارت بإصبع مرتجف
«هل رأيتِ؟ جولي صغيري! كيف؟ ومتى حدث؟»
احتضنتها ضاحكة
«يا إلهي، توقفي قليلًا عن التصرف كالدجاجة الأم. إلى متى تنظرين لشقيقكِ على أنه طفلكِ الصغير. إنّه يكبر، دعيه يعيش عمره كبقية الصبية»
غامت عيناها وهي تهمس بحزن
«ليتني أستطيع أن أجعله يعيش حياة طبيعية يا ماريا. أنا خائفة من أن يكون كل ما أفعله محاربة طواحين الهواء، لا أريد أن أفقد قوتي فهو يحتاجني بشدة»
ربتت على ظهرها بتشجيع
«سيكون بخير وأنتِ كذلك ستكونين كما عهدتكِ دائمًا، قوية ومحاربة شجاعة. لم أقابل شخصًا رائعًا مثلكِ يا آنجي ومتأكدة أنكِ ستتجاوزين هذه المحنة. نحن كلنا بجواركِ»
مسحت دمعتها بأصابع مرتجفة
«لا أعرف ماذا كنت سأفعل من دونكم ولا أدري كيف سأرد ما أدين لكم به»
قاطعتها بلوم
«ماذا تقولين يا حمقاء؟ أي دين؟»
«لا يا ماريا، يكفي أن بيدرو من دفع تكاليف المشفى التي لم أستطع تغطيتها كلها وأنتِ خسرتِ عملكِ بسببي، لقد كلفتكم الكثير»
حاولت مقاطعتها، لكنها تابعت بحزم
«لا تقولي شيئًا، أنا سأبحث عن عمل بأسرع وقت وسأرد لكم المال. ألفريدو أخبرني أنه سيساعدني في إيجاد عمل براتب مرضي»
قطبت بضيق مرددة
«ألفريدو؟! ذلك الوغد الذي كان يعمل معنا بالمطعم! آنجي ذلك الشاب ليس جيدًا، لم تعجبني نظراته نحوكِ أبدًا. نصيحة مني، لا تتحدثي معه وأي عمل سيخبركِ عنه ارفضيه، قد يستغل حاجتكِ للمال من أجل رغباته القذرة»
شحب وجهها وقالت
«لكن هو لديه صديقة، أعتقد أنكِ أسأتِ الفهم، وعامة لا تقلقي أنا سأعرف كيف أتعامل مع أي موقف»
قطبت باعتراض لتسارع هي
«صدقيني، لو أحسست بأي خداع أو وجدت العمل غير مناسب سأرفض فورًا»
تنهدت ماريا قبل أن تتذكر شيئًا فسألتها بحماس
«ماذا عن عرض العمل الذي عرضه عليكِ ذلك المصور؟ هل تتذكرينه؟»
شحب وجهها وصديقتها تتابع بإصرار
«آنجي، أنتِ تعرفين عما أتحدث. ذلك المصور الذي رآكِ بالمطعم وتوسلكِ من أجل صورة واحدة وأنتِ رفضتِ بتصميم شديد، وبصراحة ما زلت حتى الآن لا أفهم سبب تعنتكِ الغريب»
لم يفتها شحوبها ونظراتها الزائغة فقالت برفق وهي تشدها لتجلسا على مقاعد الانتظار
«حبيبتي، أنا صديقتكِ الوحيدة منذ سنوات ومنذ عرفتكِ وأنا احترمت رغبتكِ في الاحتفاظ بأسراركِ, لقد لاحظت تصرفاتكِ منذ البداية وتحفظكِ وبصعوبة حصلت على ثقتكِ، كنتِ تتصرفين بغموض وقلقة دائمًا كأنكِ خائفة من شيء ما، علاقتكِ وارتباطكِ الشديد بجوليانو وخوفكِ الدائم عليه. تفهمت قليلًا عندما أخبرتني عن الحادث لكن عندما أراكِ رغم رعبكِ الشديد من فقدانه ترفضين فرصة نادرة لتحصلي على المال لعلاجه فلا بد أن أفهم ما يجري معكِ»
عضت على شفتها تقاوم دموعها فاحتضنت كفها وقالت بحنان
«آنجي، تعرفين أنه يمكنكِ أن تأتمنيني على سركِ. أريد فقط الاطمئنان عليكما وربما أقدم لكِ النصيحة الأفضل»
سالت دموعها وهي تنظر لها بألم قبل أن تهمس
«لم يكن حادثًا»
مالت قليلًا تسأل بحيرة
«ماذا؟»
هزت رأسها وارتفع صوتها قليلًا محملًا بكل آلام ماضيها وهي تسترجع تلك الذكريات المريرة القاتلة
«لم يكن حادثًا، لم أفقد أسرتي في حادث»
قطبت بتخوف وسمعتها تتابع وهي تنفجر باكية
«كان اغتيالاً»
تراجعت شاهقة بصدمة، بينما تابعت آنجيليكا وهي ترتجف
«كان حادثًا مدبرًا للتخلص من أبي ومنا جميعًا»
«يا إلهي، آنجي ماذا تقولين؟ من سيفعل شيئًا كهذا؟ ولماذا؟»
هزت رأسها متمتمة
«لأن أبي كان رجلًا شريفًا لم يمكنهم شراءه. كان عليهم أن يتخلصوا منه ومن أسرته كلها انتقامًا، أبي دفع ثمن نزاهته ووقوفه في صف الحق والعدالة»
ارتجفت ماريا وسألتها بتوجس
«من هؤلاء؟»
«رجال المافيا في كورسيكا»
«يا إلهي! يا إلهي! ماذا تقولين؟»
مسحت دموعها بقوة
«كما سمعتِ، هذا السر الذي أخفيته عنكِ كل هذه السنوات. لقد نجوت من الحادث بمعجزة وصديق أبي هرّبنا إلى إيطاليا. كان جوليانو في غيبوبة وأمله في النجاة ضئيلاً جدًا. عشت شهورًا طويلة في رعب من عثورهم علينا، كنت أتلفت حولي خوفاً من تعرف أحدهم عليّ. رغم أن العم ماتيو الذي ساعدنا في الهرب أخبرني أن هذه البلدة آمنة ولن يعثروا علينا أبدًا وأنه أجاد إخفاء آثارنا، لكنني استمريت في خوفي. مع الوقت بدأ خوفي يتراجع وانشغلت مع مرض جوليانو، كنت أتعذب بين نارين. أنا آسفة لأنني أخفيت عنكِ هذا، كنت أحاول أن أنسى وأعيش حياتي بطبيعية»
همست بألم وهي تقترب لتحتضنها
«لم أعرف أنكِ كنتِ تتعذبين لهذه الدرجة، تألمتِ كثيرًا حبيبتي»
بكت بشدة بين ذراعيها لتربت على ظهرها بحنان
«لا بأس، أنتِ قوية. لقد مررتِ بكل هذا وما زلتِ تقفين على قدميك. كل شيء سيكون على ما يرام، فتاة بمثل عزيمتكِ وقوتكِ يمكنها تجاوز كل ما تضعه الحياة أمامها من عثرات»
استمرت في البكاء للحظات ثم ابتعدت تمسح دموعها هامسة
«هل عرفتِ الآن لماذا رفضت العرض؟ كان هذا يعني أن أسافر إلى روما وعملي كعارضة سيكشف هويتي ويعرض حياتنا للخطر، كانوا سيصلون إلينا»
تأملتها في أسى وربتت على خدها
«فهمت. لا بأس، ستجدين حلًا أفضل... أنتِ فتاة طيبة ونقية وأنا واثقة أن الرب سيقف بجواركِ»
«يا رب. فقط من أجله، ساعدني يا رب»
ابتسمت صديقتها بحنان ثم غمزت بمرح لتطرد الحزن من قلبيهما
«دعينا ندخل لنرى فيما يتحدثون، يبدو أن صوفيا هذه ستسرق ابنكِ الحبيب منكِ»
قطبت بتذمر ومسحت دموعها جيدًا حتى لا تقلق شقيقها
«لا تذكريني. فلينتظر فقط، يظن أنه كبر ومن حقه أن يصاحب. لم يبق إلا أن يحضر لي فتيات بالبيت»
ضحكت ماريا وهي تدفعها للغرفة، فضحكت بقلة حيلة. خفق قلبها بسعادة وهي تنظر لشقيقها المبتسم رغم شحوبه، وهو يتحدث بحيوية وهمست تشكر الله وتدعوه أن يحفظ لها ابتسامته ويديم السعادة التي تراها في عينيه.
********************
تحرك آدم وقد غادرته ثقته بعد الموقف الذي حدث مع ابنته، قلبه ما زال يعتصر في صدره، ليته يملك القوة ليبترها من داخله. لو كان باستطاعته لما تعذب حتى اللحظة، لاستطاع نسيانها ومنح قلبه خالصًا لزوجته. تنهد بحرقة، لقد التصقت به كلعنة سوداء وبقيت وشمًا أبديًا بقلبه. رُبى كانت تستحق الأفضل، كانت رفيقة طفولته وصديقة صباه، كانت تستحق رجلًا يمنحها قلبه خالصًا.
كان يخبرها منذ صغرهما أنه لن يسامح أبدًا من يبكيها وسيحطم رأس أي رجل يجعلها تتألم، وللسخرية تبين في النهاية أنه كان هذا الرجل. كانت تتألم في صمت طيلة زواجهما، عرفت من أول يوم بسبب هذيانه باسم إيفا. عرف بعد فوات الأوان، حين باتت أنفاسها في الدنيا معدودة. أخبرته فقط لتجبره على وعدها أن يبحث عن المرأة التي تملك قلبه.
كم لعن نفسه حين اكتشف كم ظلمها ومزق قلبها النقي، خانها حين وقع بحب امرأة أخرى وهو يعلم أن جده قرر زواجهما، حين سافر وتحجج بدراسته ليؤجل الزواج قليلًا علّه يحسم تردده. ضحك بمرارة، وأين ذهب تردده وحججه كلها عندما تزوج إيفا؟ أين كان عقله وهو يغرق  بجنون في حبها ثم يطلبها للزواج في أقل من شهر؟ أغمض بألم متذكرًا ضحكتها وبتلات الورود تغمرها بنعومة، لمعان الزمرد بعينيها اللتين نظرتا له كأن العالم كله يتلخص به.
زفرة حارة خانته وعقله يعيد المشهد ليذكره كم كان أحمق. كان يعتقد أنه فقد عقله عندما التقاها، لكنه في اللحظة التي اندفعت فيها لتسرق أنفاسه بقبلة ناعمة مثلها، أدرك لحظتها أنه لم يكن قد فقده بعد. هي أطاحت بالمتبقي منه لحظتها. الأرض كلها ارتجفت تحته، لكنه اكتشف أن أعماقه هي التي ترتجف، ورغم تأنيب عقله لم يستطع المقاومة. غاب عقله خلف غيامة سحرية لم يفق منها إلا عندما شعر بطعم دموعها في شفتيه وما أن ابتعد يسألها بقلق حتى انفجرت في البكاء كأنّما منحها الإذن
«ما الأمر؟ هل أخطأت بشيء؟»
هزت رأسها نفيًا ثم رفعت عينيها الدامعتين
«لا شيء، أنا فقط سعيدة. سعيدة جدًا ولا أستطيع التحكم بقلبي»
مسح على خدها بحنان وابتسم بينما تواصل
«ليتني قابلتك منذ وقتٍ طويل، أشعر أنني ولدت الآن فقط. لا اريد أن أتذكر كيف كانت حياتي قبلك»
رفعت كفيها تحتضن وجهه هامسة بتوسل
«لا تتركني أبدًا، لا تمنحني كل هذا الحب وتعيدني للحياة ثم تقتلني مرة أخرى. أرجوك لا تتركني أبدًا»
شدها إلى صدره يحتضنها هاتفًا من قلبه
«أنتِ روحي يا إيف، روحي التي عادت لي أخيرًا. كيف تظنين أنني أتخلى عن روحي يومًا؟»
شعر بجسدها يرتجف ودموعها تبلل قميصه، فضمها أكثر
«لن أترككِ أبدًا، تذكري هذا دائمًا. سنتزوج وستبقين جانبي حتى آخر عمري»
شعر ببكائها يتحول إلى تنهيدات رقيقة فمال يقبل رأسها بحب واعدًا
«لن أترككِ أبدًا ولو هربتِ يومًا لآخر العالم سألحق بكِ وأعيدكِ لأحضاني حيث تنتمين، أعدكِ»
****
عاد من ذكرياته حين انتبه لوقوفه أمام غرفة جده، فتنهد طاردًا إياها بعيدًا. طرق الباب وانتظر إذنه بالدخول ثم دلف بخطوات هادئة لا تشي بتوتره وتقدم إلى حيث جلس جده في مقعده المريح قرب الشرفة وفوق ساقيه ألبوم صور العائلة. اقترب منه ومال يقبل رأسه
«كيف حالك يا جدي؟»
تمتم وهو يقلب صفحات الألبوم
«بخير يا بني، اجلس»
جلس قبالته وابتلع لعابه بصعوبة مرددًا
«طلبتني يا جدي، خيرًت إن شاء الله؟»
أومأ دون أن يرفع رأسه فقطب آدم بقلق لكنّه انتظر بصبر وانخفضت عيناه للألبوم. ارتجف قلبه وهو يرى صورة رُبى التي لامسها جده بحنان وقاوم مشاعره ورغبته في الهرب بعيدًا. منذ رحيلها وهو يتجنب النظر لصورها، خيالها وحده لا يتوقف عن تعذيبه. تعلقت عيناه بوجهها المشرق بالحياة قبل أن تهاجمه صورتها الهزيلة وقد أنهكها المرض فأغمض بألم قبل أن ينتبه على صوت جده الحزين
«كيف حالك الآن؟»
أجفل ليجده يتطلع فيه مليًا فأطرق
«بخير»
هز رأسه وهو يتأمل صورتها للحظات قبل أن يقول دون أي مقدمات
«هل حققت لرُبى وصيتها الأخيرة يا آدم؟»
انتفض في مقعده يرمقه بشحوب بالغ، وتأمله جده بتدقيق ثم عاد يكرر
«هل وفيت بوعدك لها أم لا؟»
«وعدي؟»
همسها بصعوبة فأجابه بهدوء
«أخبرتني رُبى قبل رحيلها أنّك قطعت لها وعدًا وتوسلتني أن أتأكد من أنك ستفي به. هل فعلت؟»
انقبضت كفاه وتنفس بصعوبة والدموع تحرق عينيه. لماذا يا رُبى؟ توسلته طويلًا أن يمنحها وعده ولم يستطع إلا في لحظاتها الأخيرة لتتنهد وترحل مبتسمة. لم يتوقع أنها أخبرت جدهما بالأمر، لكن هل أخبرته بكل شيء...
ردد جده كأنما قرأ أفكاره
«لم تخبرني بتفاصيل، فقط طلبت مني أن أتأكد من أنك نفذته. هل فعلت؟»
تنفس بعمق وقلبه يهدأ قليلًا
«أحاول. رُبى أرادتني أن أكمل حياتي من بعدها وأنا أحاول»
رمقه بنظرة متفحصة وقال
«هل هذا كل شيء؟»
لم يرفع عينيه مدركًا أنه سيكشف كذبه من نظرة ولم يفت هذا جده فتابع
«تعرف أنك تكذب يا آدم. عامة لم أحضرك هنا لأجبرك على الاعتراف. فقط تذكر أنك وعدت رُبى ويجب أن تفي بكلمتك، تذكر أنّها كانت وصيتها الأخيرة. صغيرتي الغالية توسلتني لأطمئن أنك لن تتراجع»
تحشرج صوته وهو ينظر له بألم
«ماذا لو كانت وصيتها مستحيلة؟ ماذا لو كنت منحتها وعدي مجبرًا لترحل في سلام؟ ماذا لو أن ذلك الوعد يمزقني تمزيقًا منذ رحلت لأنني لا يمكنني تنفيذه أبدًا؟»
قطب جده مع الألم الذي نبع من كل كلمة ينطقها، كان متأكدًا من أنّه يتعذب، ليس منذ وفاتها بل قبلها بكثير. يعرف تحديدًا منذ متى، الكل أدرك أنه تغير وهو لم يجبره على الاعتراف بما يحرق قلبه. ظن أن زواجهما سيطيب جرحه ويجعله يُقبل على الحياة من جديد. كان واثقًا أنّ حبها اللا محدود وعشقها سيداويه ويمسح أي جرح تعرض له لكنّه أخطأ.
قلبه اعتصر بألم وهو يتذكرها، لم يغب عنه اختفاء لمعة عينيها بعد زواجهما. لقد أخطأ وانتهى الأمر بقلبين جريحين يعيشان معًا، ورغم هذ أكدت له أنهما بخير وأنها سعيدة لكونها معه ولا تريد أكثر من هذا. قالت أن حبها سيكفيهما معًا، وكانت محقة فآدم مع الوقت عاد لابتسامته وإن لم يكن كالسابق. هز رأسه وهو يلمح آدم يرتجف محاولًا التحكم في مشاعره
«هل تعرف لماذا لم أقرر زواج زياد ووتين وتركت الأمر لهما؟ حتى عندما وافقت وتين على خطبتها لآخر لم أجبرها على تغيير قرارها، لم أجبر أيً منكم بعدها على أي اختيار، هل تعرف السبب؟»
نظر له في صمت مدركًا الجواب
«لأنني ندمت على قرار زواجكما وقررت وقتها ألا أقرر عن أحدكم شيئًا، يكفي أنني أخطأت مرة وأنا أظن قراري صائبًا. أتعرف يا آدم؟ أنت كنت أكثر أحفادي شبهًا بي ورُبى كانت تشبه عائشتي كثيرًا. كانت تحبك وأنت أيضًا أحببتها بطريقتك، كنتما تشكلان زوجًا رائعًا وظننت زواجكما سيكون ناجحًا كزواجنا أنا وجدتكما. لأول مرة يخونني ذكائي»
قاوم مشاعره واقترب يحتضن كفه متمتمًا
«أنا لست نادمًا على زواجي من رُبى يا جدي. كنت أحبها بطريقتي كما قلت وهي منحتني حبًا غير مشروط، منحتني بيتًا سعيدًا وطفلين يفخر بهما أي أب. أرجوك لا تشعر بالندم ولا تقل أنك أجبرتنا»
صمت متوجعًا، هو من يجب أن يندم لأنّه لم يمنحها الحب الذي تستحق. ظلمها معه ولم يمنحه القدر الفرصة ليعوضها ويمنحها ضعف السعادة التي منحته إياها. قاطع الجد حديثه مع نفسه مرددًا
«أخبرتك أنك أكثر من يشبهني من أحفادي يا آدم، أرى بوضوح عبر عينيك. ألن تخبر جدك ما الذي يمزق روحك ويؤلمك هكذا؟»
غمغم بصعوبة
«أنا بخير يا جدي»
«أنت لست بخير أبدًا، ويمكنني أن أخبرك أن حالتك صارت أسوأ منذ الزفاف»
التقطت عينا جده الذكيتان ارتجافة جفنيه فتابع
«ما الذي حدث في حفل الزفاف يا آدم؟ من الذي قابلته وقلب حالك هكذا؟ أو بالأحرى... من التي قابلتها؟»
حدق فيه بجزع قبل أن يتنفس بقوة ويرد
«جدي، لا شيء مما تفكر فيه. صدقني أنا بخير، أنا رجل ناضج ويمكنني الاهتمام بشؤوني ومشاكلي جيدًا وثق أنني عندما أحتاجك مساعدة ستكون أنت أول من ألجأ له»
أغمض متنهدًا بقلة حيلة، فنهض آدم وانحني يقبل يده
«أنت ستظل دائمًا فوق رأسي، أعدك أنني سأخبرك بكل شيء عندما تستقر أموري»
قالها وتحرك ينوي الابتعاد ليوقفه صوت جده سائلًا بصرامة
«ما الذي تفعله في البلدة هذه الأيام؟»
تجمد مكانه ليتابع جده بصوت أشد حزمًا
«ما سبب زياراتك المتكررة للبلدة وماذا تفعل ببيت جدتك الكبير؟»
حاول التحكم بمشاعره بصعوبة والتفت بارتباك
«ما الأمر؟ هل هناك مشكلة في ذهابي هناك لأختلي بنفسي قليلًا؟»
رفع حاجبًا متهكمًا
«تختلي بنفسك؟ غريب، ظننتك اكتفيت من خلوتك في فرنسا. ومن يريد الخلوة يقطع الطريق ذهابًا وإيابًا ليقضي بعض الوقت ويعود؟»
«جدي، أرجوك الأمر ليس»
«ولماذا لم تخبرنا؟ هل كان يجب أن يتصل بي المشرف ليخبرني؟»
هتف بحدة
«وما شأنه هو لينقل أخباري؟»
«آدم، الرجل قام بواجبه. إنه يهتم بأملاك العائلة هناك، اتصل عندما أحس بالقلق خاصة بعد ما تناقله بعض الفلاحين»
نبض قلبه بخوف
«ماذا يقولون؟»
تأمله بتدقيق شديد وقال
«أخبرني أنهم لمحوك تذهب للبيت الكبير في أوقات غريبة وتقضي بعض الوقت وتغادر البلدة وهذا أثار تساؤلات الناس في المنطقة بالطبع»
«وما شأنهم؟ رجل يزور بيت جدته، في أي وقت، ولماذا، هذا لا يخص أحدًا»
هز رأسه يتأمله في لوم
«ليس هذا كل شيء، أخبرني أن اثنين من الفلاحين كانوا يحرثون الأرض المجاورة سمعا صوتًا يستغيث وعندما انتبها توقف الصوت فجأة. لقد أسرعا نحو النافذة التي سمعوا منها الصوت»
أعصابه كلها احترقت وارتبكت ملامحه وجده يردف باتهام واضح
«والتي بالمناسبة كانت لإحدى حجرات جناح الخدم القديم»
ارتجفت شفتاه بوضوح وأدرك أن جده في أي لحظة سيحصل على اعترافاته كاملة. يجب أن يتحجج بأي شيء ويذهب، لا يستطيع مواجهته، ليس وضميره لا يتوقف عن وخزه منذ تركها وقلبه يلومه ويتوسله أن يذهب لها لأنّها ليست بخير. جده لن يرحمه لو عرف، لن يحتمل أن ينظر له باحتقار لو عرف ما فعله بامرأة... مهما كانت ومهما ارتكبت بحقه، تبقى امرأة... وليست أي امرأة، إنها زوجته. ترددت الكلمة بقلبه بصدى مرعب وانقلب كل شيء وجده يكمل
«أقسم الرجلان أنّه كان صوت امرأة لكنّهما لم يجدا أحدًا عندما ناديا. قالا أنهما ناديا كثيرًا وعادا في وقتٍ لاحق لكنّهما لم يحصلا على أي رد فاعتبرا أنهما توهما الأمر»
توقف قلبه بارتياع، لماذا لم ترد؟ كانت فرصتها لينجدوها، لم تكن لتهتم لسمعته أمام الناس. كانت فرصتها لتنتقم منه وتتهمه باختطافها. لا بد أنّ شيئًا حدث، هي ليست بخير، قلبه لم يكذبه. لم يدر أن وجهه كان شاحبًا كالموتى أمام جده الذي ناده بقلق
«آدم، هل أنت بخير؟»
ليس بخير، هو ليس بخير ولن يكون حتى يطمئن عليها. ستار أسود انزاح من أمام عينيه ليتضح كل شيء فجأة والحقيقة التي أنكرها طويلًا صفعته بعنف، ما زال يحبها. جاك كان محقًا، ما زال يعشقها. قلبه الذي يرتعد رعبًا الآن يقسم على هذا، رغم خيانتها، رغم رغبته في الانتقام منها، رغم كل شيء ما زال يعشقها. ما الذي فعله؟ صرخ قلبه وهو يندفع بسرعة دون أن ينتبه لنداء جده الذي تابع انصرافه بقلق ليدرك أن الأمر أخطر مما كان يظن. آدم يخفي سرًا خطيرًا قد يحطم حياته وهو لن يسمح له بهذا أبدًا. لن يتركه يتخبط طويلًا مدعيًا أنه يستطيع الاهتمام بشؤونه، عندما يعود سيجبره على الاعتراف بكل شيء.
************************
غادرت شاهي المول التجاري بعد جولة تسوق سريعة، إحدى المرات النادرة التي يسمح لها بالتجول بمفردها بحرية وبدون حراسة مزعجة. يعرف أنّها لن تجرؤ على الهرب بعد العقاب الذي تلقته حين حاولت. لكنّها لن تهرب، لقد قررت المواجهة، يكفيها كل السنوات التي ضاعت من عمرها، ستلجأ للخديعة لتتخلص منه. هو يحاول لف الحبل حول عنق منذر، لكنّها ستتأكد من أن ذلك الحبل سيلتف حول عنقه هو.
تنهدت بحرارة وعقلها يشرد مستعيدًا مقابلتها الأخيرة مع منذر، زيارتها لمكتبه زادت خوفها وترددها، نظراته لها وهي تدلف لمكتبه جعلت قلبها يرتعد هاتفًا أنّها ترتكب خطأ فادحًا. نظراته التي اخترقتها جعلتها تشك أنه قرأ نواياها، قاومت لحظته لترسم ابتسامة فاتنة واقتربت منه تصافحه. ارتجفت ابتسامتها الواثقة عندما رفع كفها لشفتيه يقبلها وهو ينظر في عينيها بغموض عابث. قاومت حتى لا تشد يدها فزعًا وتدور على عقبيها هربًا. ذكرت نفسها سريعًا بخلاصها المرتقب لترفع رأسها بثقة وتألقت ابتسامتها وتحركت بأنوثة لتجلس رافعة ساقًا فوق أخرى، وقاومت رجفة خوف جديدة مع نظراته المستكشفة وهي تجيب سؤاله عن سبب تشريفه بزيارتها
«أتيت لأعتذر عن سوء الفهم الذي حدث تلك الليلة»
تحرك يجلس قبالتها مبتسمًا
«أي سوء فهم يا شاهي هانم؟ لا أتذكر أنه حدث أي سوء فهم بيننا»
حركت كتفها بدلال
«لقد أسأت فهمي واعتقدت أنني غير سعيدة بوجودك في حفلنا. في الواقع كنتُ بحالة نفسية سيئة وقتها ولم أتعمد أبدًا أن أوحي لك بهذا الشعور، لكن أعتذر على أي حال»
تفحصها بنظراته لحظات قبل أن يتراجع في مقعده بتسلٍ
«وأنا لست مستاءً، حقيقة أنا ممتن لسوء الفهم هذا، فبسببه تشرفت بزيارتكِ لمكتبي المتواضع»
أدارت عينيها في المكتب الفخم ثم رسمت أكثر ابتسامتها سحرًا لتقول
«في الواقع أنا هنا لسبب آخر يا منذر بك، أتيت لأدعوك للغداء في منزلنا غدًا كاعتذار مني ولأشكرك على دعمك لزوجي»
أسرعت تقاطع رده، وهي تضع كفها فوق كفه تلامسه برقة
«أرجوك لا ترفض. لقد وعدت مختار أنك ستوافق على الغداء معنا، رجاءً لا تردني خائبة»
ابتسم بطريقة تدير رأس أي امرأة ووضع كفه الآخر يحتجز يدها بين كفيه
«إن ترجتني فاتنة مثلكِ، كيف يمكنني أن أرفض؟»
«آه لا أعرف كيف أشكرك»
رفع يدها يقبلها مجددًا ويهمس
«لا تشكريني، يشرفني بالطبع أن ألبي دعوتكِ، لكن اعذريني لن أستطيع غدًا. لديّ الكثير من الأعمال، يمكنني التفرغ في نهاية الأسبوع لزيارتكما بالتأكيد»
حاولت بصعوبة ألا تظهر خيبة أملها، وابتسمت بعذوبة
«لا بأس، أعرف أنك كثير الأشغال ويسعدني أن تجد لنا القليل من الوقت وسط جدول أعمالك المزدحم»
سحبت يدها من كفه ببطء ونهضت برقة
«اسمح لي بالانصراف إذن، لقد أخذت الكثير من وقتك»
نهض مبتسمًا وصافحها
«وقتي كله تحت أمركِ»
انتابتها رجفة عندما شعرت بيده على ظهرها وهو يرافقها حتى الباب. التفتت له مرة أخيرة ندمت عليها عندما وجدت نفسها قريبة منه، واحتبست أنفاسها ولم تدر أن قلقها وخوفها كله ارتسم في عينيها وهو رأى كل شيء ليبتسم بغموض ومال يهمس في أذنها مثيرًا قشعريرة أقوى بجسدها
«أنا متشوق من الآن لرؤيتكِ، أقصد... متشوق لتناول الغداء في بيتكما»
أومأت بتوتر فأردف
«لا تنسي أن تبلغي تحياتي لمختار بك»
****
أوقفت تفكيرها فيه بقوة وزفرت وهي تتجه إلى سيارتها ويداها مشغولتان بحقائب مشترياتها التي ألقتها بحدة داخلها وأغلقت الباب بعنف. استندت للسيارة ناظرة أمامها بعينين غائمتين وتمتمت بمرارة وهي تغرس أصابعها في شعرها بقوة.
«أنتِ حمقاء، حمقاء وتلعبين بالنار وأنتِ تدركين أنها ستحرقكِ حتمًا»
وهل تملك خيارًا؟ في كل الأحوال ستحترق، فلتختر إذن في أي نار تحترق. ألقت نفسها خلف مقعد القيادة وهمست
«إما أن تحترقي في نار منذر صفوان أو تتعفني في سجنكِ وتتحملي ما يفعله بكِ ذلك القذر. لا أظن أنكِ تفضلين الخيار الأخير يا شاهي هانم»
قادت سيارتها ببطء تؤجل عودتها لسجنها الخانق وصدرها يختنق مع كل لحظة تقربها منه. انتبهت للإشارة فضغطت الفرامل لتقف وأرجعت رأسها للخلف، تنظر بشرود عبر نافذتها. توقفت سيارة بجانبها في انتظار الإشارة فنظرت لركابها بعينين شاردتين قبل أن تشيح بوجهها. عقلها حلل الصورة في لحظة مرسلًا الإشارات لقلبها الذي توقف عن النبض فأدرات رأسها بسرعة تنظر للسائق المنشغل في حديث على الهاتف ورأته يدير وجهه للفتاة التي تجاوره ويبتسم.
عاد قلبها ينبض بصخب، لا، ليس هو. شعرت برؤيتها تتشوش واختنقت أنفاسها وهمست شفتاها اسمه بوجع وصورته تعيد آلاف الذكريات التي ظنتها ماتت ودُفنت في أعماقها. رأته ينظر للفتاة النائمة ويمد يده يعدل من وضع رأسها برفق قبل أن يعيد تشغيل السيارة وينطلق. هل هذه زوجته؟ لا بد أنها هي، لقد تابع حياته من بعدها بالفعل. هي أيضًا تابعت حياتها، وتجاوزته. لماذا إذن تشعر بقلبها يكاد يتفتت لرؤيته؟ لماذا تشعر أن صدرها يختنق وأنهاستموت؟ انتفضت على أبواق السيارات التي ارتفعت خلفها بإزعاج تنبهها لتوقفها بمنتصف الطريق. بيدين مرتجفتين أعادت تشغيل السيارة وانطلقت، لا تستطيع التحكم في ارتجافها ودموعها بينما ذكرياتها القديمة تعود حية لتحتل عقلها وتفكيرها.
*******************
وضع فهد آخر قطعة من ملابسه بحقيبة سفره ثم توقف لحظة ناظرًا للصورة بجانب فراشه. ابتسم بوجع وهو يلتقطها يتأمل صورتهما معًا هامسًا بألم
«أصبح بيننا حاجز مستحيل، ليس باستطاعتي عبوره ولا يحق لي أن أطالب بكِ لو صح ما قاله. انتهى كل شيء قبل أن يبدأ وخسرتكِ للأبد. صار حبنا مستحيلًا»
رفع الصورة ليقبل وجهها وغمغم متوجعًا
«ليته يكون كاذبًا، ليت كل هذا يكون كابوسًا واستيقظ لأجدكِ جواري. ليتني لم أكن ابن شوكت سليمان»
مسح دمعة خانته ثم وضع الصورة في حقيبته برفق ومعها رسالة وداعها وأغلقها بإحكام. تحرك نحو الصالة ليتوقف قرب عماد الجالس فوق الأريكة دافنًا رأسه بين كفيه. رفع وجهه الشاحب ما أن شعر به ورمقه بعينين محمرتين إرهاقًا، منذ رمى في وجهه القنبلة التي فجرها هشام قبل ساعات وهو بهذه الحالة. ما زال مصرًا على أن هشام وسامر يكذبان بشأن همسة، لكنّه يعرف أين سيجد الحقيقة كلها، سيعرف كيف ينتزع الحقيقة من والده ويجبره على الاعتراف. لم يتعذب بسببه طيلة عمره ليأتي الآن ويدفع ثمن جرائمه ويخسر حبيبته بسببه. انتبه لصوت عماد المرهق
«هل ستسافر الآن؟»
«لا أستطيع الانتظار أكثر، يجب أن أقابل أبي بأسرع وقت»
«أما زلت مصرًا على تصديق ذلك الهراء؟»
رمقه بخواء مرددًا
«هذا شأني يا عماد. إن لم ترد التصديق هذا شأنك، أنا لن أغمض عينيّ وأترك أحدهم يوجهني كالأعمى. سأبحث عن الحقيقة بنفسي»
اهتزت نظراته متذكرًا كلمات عمه بينما تابع فهد
«حاول أنت أيضاً أن تفعل. تأكد من الشكوك داخلك، ربما استطعنا انقاذ ما يمكن إنقاذه وربما أنقذنا أنفسنا قبل فوات الأوان»
أطرق دون رد وتأمله فهد بأسى ولم يقاوم رغبة أخيرة لقلبه فهمس
«هل هي بخير حقًا؟»
رفع رأسه مبتسمًا بمرارة، كم كان أعمى، أو ربما فهد من كان يجيد إخفاء مشاعره حتى عن نفسه. من كان يظن أنّه واقع في حب هسمة وبهذا الجنون. انتبه على صوته القلق يتوسله الراحة لقلبه
«لماذا لا ترد؟ أنت متأكد أنها في أمان؟»
«إنّها بخير وآمنة، سامر لن يصل إليها. اطمئن»
تنهد بحرارة ثم التقط حقيبته وسأله قبل أن يغادر
«هل قررت ماذا ستفعل معها؟»
«لا شيء، ستظل تحت حمايتي حتى ينتهي كل شيء ونسافر»
هز رأسه بيأس
«لا اعتقد أن همسة ستعود معك بعد كل ما عرفته»
هتف بحنق
«ستسافر رغمًا عنها، هي أختي ومكانها معي ولن أسمح بكلمة زائدة في هذا الأمر»
وضع الحقيبة واقترب ليحتضنه هامسًا برجاء
«أرجوك اهتم بها، لا تقس عليها وحاول أن تتفهمها. هي الآن في صدمة، كما سترغب في التأكد من نسبها قبل أن تقرر إن كانت ستعود معك أم تبقى لتبحث عن أسرتها الحقيقية»
شعر بتشنجه، فربت على ظهره متابعًا بتوسل
«أرجوك يا أخي، لا تجعلها تتأذى. احمها من أجلي»
خفق قلبه وهو يسمعه يتوسل لأول مرة في حياته وصوته المغمور باليأس والألم طعنه بقسوة فاحتضنه بقوة
«سأفعل، وقريبًا سأعود بها وستتأكد أن كل ما سمعته كان وهمًا»
وضرب بقبضته على ظهره مردفًا بيقين
«لا تخف، همسة ستظل جزءًا من عائلتنا للأبد. أعدك بهذا»
*********************
انتهى الفصل
قراءة ممتعة ❤️❤️

سديمُ عشق "ثلجٌ ونار"(الجزء الثاني من سلسلة حكايات الحب والقدر)  (قيد المراجعة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن